وكأني أسمع طرفًا من حديث دار بينهما ذات يوم
- عزيزتي وهبتك أقوى وأشجع أولادي، تركوا الأهل والديار وحفروا صورتك بسواعدهم في الرمال ولونوها بالدم، لون الحب والجمال - وأنا منحتكم كل هذا الفن والتراث والعمران والمال
- عزيزتي هم صانوا لك الشرف والعزة والجلال
مصر وقناتها وحكاية شعب صنع معجزة بمقاييس ذلك الزمان الفائت، وهذا حديث مصر عن الرجال الذين شقوا القناة بسواعدهم ثم حفظوا حقهم فيها ثم دافعوا عنها، وفي كل ذلك بذلوا العرق والدم، وجادوا بأرواحهم، وسجلوا تاريخ قناتنا وتاريخ مدينتنا مضيئا مشرقا ومشرّفا، وحفروه في ضمائرنا كما حفروا القناة في أرضنا.
في ٢٥ أبريل ١٨٥٩م كانت أول ضربة معول لحفر قناة السويس في تلك النقطة الأنيقة حيث بورسعيد الآن على ساحل البحر الأبيض المتوسط، استمر العمل في مشروع القناة عشر سنوات حتى افتتاحها للملاحة العالمية في ١٧ نوفمبر ١٨٦٩، لتهب مصر مدينة شديدة التميز شديدة الأناقة والجمال ..بورسعيد ..المدينة الاستثناء كما قيل عنها، والتي تلقى بمحبتها في قلب كل من مر عليها، أقام أو عبر، فالمدن أرواح تسكن نفوس محبيها فتمتلكها.
لم تكن فكرة حفر قناة تربط بين البحرين الأبيض والأحمر فكرة جديدة، فلقد سبق التفكير في ذلك عدة مرات في حقب مختلفة من التاريخ، وفي العصر الحديث تجدد الحلم مرارا بحفر قناة تربط البحرين وكاد نابليون أن يفعلها وقت الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨م لولا خطأ حسابي وقع فيه المهندس الذي قام بدراسة المشروع، ورغم جلاء الحملة في ١٨٠١م إلا أن الفكرة ظلت قائمة حتى ظهرت جماعة سان سيمون وأعدت دراسات معتبرة للمشروع، ثم جاء فرديناند دليسبس مساعدا لقنصل فرنسا في الإسكندرية واحتال ليحصل على المشروع من السان سيمون واحتال ثانيا ليحصل على موافقة الخديو سعيد على امتياز حفر القناة بشروط لصالح بلاده على حساب مصلحة مصر، ولمدة ٩٩ عاما من تاريخ الافتتاح.
تلك القناة ..قناة السويس نسجت جزءًا من تاريخ مصر الحديث، وأقامت عمرانا، وأبدعت فنا ارتبط بوجودها.
وتاريخنا مع القناة حافل بالحوادث والأحداث، كلها جلل، دفعت فيها مصر أثمانا باهظة، بدءًا من مخاوف السيادة وأطماع الاستعمار، مرورا بالأزمات المالية، والأهم تضحيات أبنائها بأرواحهم لأجلها في كل مرحلة.
منذ البداية كان امتياز حفر القناة مجحفا بالنسبة لمصر، جعل من شركة قناة السويس دولة داخل الدولة، فقد منحت شروط الامتياز الشركة جميع الأراضي المملوكة للدولة داخل المشروع، كما ألزمت الحكومة بنزع ملكية الأفراد إذا احتاجت الشركة ذلك، ضمنت الشركة من خلال الشروط السيطرة على الترعة العذبة وضفتيها، وإن كانت تلك الشروط تمس سيادة مصر على أرضها، والذي ستدفع ثمنا غاليا للخلاص منه فيما بعد، غير أن أسوأ تلك الشروط وقتها إلزام مصر بتقديم العمال للشركة، فكان العمال يساقون بالسخرة لمنطقة الحفر في ظروف قاسية على مدار العام، وبالرغم أن تعداد مصر في ذلك الوقت لم يكن يتعدى أصابع اليد الواحدة من الملايين، فإن أغلب التقديرات تؤكد أنه تم استغلال ما يزيد على مليون عامل مصري في أعمال السخرة، كانوا يساقون مكبلين من مختلف أنحاء مصر، يمشون مئات الكيلو مترات، تلفح الشمس وجوههم وتحني الفئوس والزنابيل ظهورهم، مات منهم على أقل تقدير ما لا يقل عن ١٢٠ ألف مصري أثناء أعمال الحفر، في ظروف عمل سيئة، أوقعتهم فريسة للجوع والعطش والمرض، جاعوا ومرضوا وقُهروا ولكنهم في النهاية أتموا المهمة، وتم القاء المنتظر، لقاء مياه الأبيض والأحمر داخل أرض مصر، فسلام لتلك الأرواح، هنيئا لأحفادهم ما حصدوا من غرس أجدادهم، ولقد صانوا هم أيضا هذا الغرس ورعوه ودافعوا عنه.
فمسيرة البذل لم تتوقف بعد افتتاح القناة، فها هي القناة تثير الأطماع، وتُوقِع مصر موقع الأيتام على مائدة اللئام، فتُحاك لمصر المؤامرات، التي تنتهي بالاحتلال البريطاني ١٨٨٢م، ولأكثر من سبعين عاما، لم يستسلم خلالها الوطن وبذل أبناؤه الأرواح منذ اليوم الأول وحتى ساعة الخلاص، ألوف الشهداء، ربما لم نعرفهم ولكن الله يعرفهم.
في بورسعيد امتنع عمال الفحم عن العمل في خدمة الأسطول البريطاني منذ اليوم الأول لوصوله ساحل بورسعيد، ولمَ لا ؟.. الأرض أرضنا والصدمة كبيرة، وحلم المكان الجديد لا يزال غضا طريا، والبدايات رغم صعوبتها كانت جميلة، المدينة الكوزموبوليتان تضج بالحركة، النسيج البشري هنا مختلف، الحياة المرتبطة بالبحر حياة تتميز بالحرية والتجدد والتنوع، تكره القيود، فما بالك بالاستبداد والاستعمار، فكانت بورسعيد رأس السهم الذي أودى بالاحتلال بغير رجعة.
مرت مراحل النضال الوطني بمحطات عديدة، وكلها أسهمت فيها بورسعيد، لنصل إلى معاهدة ١٩٣٦م، والتي كان من شروطها تمركز القوات البريطانية في منطقة القناة، لم تجنِ مصر من ورائها خيرا، واضطر النحاس لدخول مفاوضات أخرى مع الحكومة البريطانية بلا جدوى، مما اضطره للوقوف أمام البرلمان في أكتوبر ١٩٥١م يطلب إلغاء المعاهدة، (من أجل مصر وقعت معاهدة ١٩٣٦م، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها) لتبدأ مرحلة جديدة من النضال المسلح في منطقة القناة.
نبيل منصور عَدَّى السور ولا هَمُّه
في بورسعيد في ١٦ أكتوبر ١٩٥١م كان أصغر فدائي، طفل المرحلة الابتدائية نبيل منصور الذي لم يتخط الثانية عشر عاما، استطاع أن يتخطى أسلاك معسكر الجولف موضع تمركز القوات البريطانية، وفي الظلام بدأ يغمس كرات من القماش في الكيروسين ويشعلها ويلقي بها على المخيمات فتستحيل نارا في ثوان، صال وجال الطفل المسكون بالوطن بين الخيام يشعلها، حتى تحول المخيم إلى جحيم مشتعل وسط ظلام المدينة، وعلى أصوات الاستغاثة وأجراس الخطر ودويّ الصافرات بدأ جنود الإنجليز البحث عن القوة التي أحرقت خيامهم فلم يجدوا سوى البطل الصغير أمامهم، فانهالوا عليه بالرصاص حتى أفرغوا جمجمته الصغيرة، والتراث الشعبي سجل غناء الأطفال (نبيل منصور عدى السور ولا همه)، وقد رثاه سيد حجاب في أولى قصائده وكان في سنه تقريبا، واكتسحت المظاهرات المدينة تهتف يسقط القتلة.. يسقط الإنجليز ..تعيش مصر حرة مستقلة، وكانت عملية ملهمة للمقاومة التي اشتدت، وتعددت العمليات النوعية، وبذل فيها الرجال الأرواح وأذاقوا الاحتلال الويلات، حتى اضطرت إنجلترا لقبول استئناف المفاوضات وتم توقيع اتفاقية الجلاء في ١٩ أكتوبر ١٩٥٤م، وسحب القوات البريطانية من منطقة القناة، وتم الجلاء في ١٨ يونيو ١٩٥٦م، ورفع جمال عبدالناصر علم مصر على مبنى النافي هاوس مقر البحرية البريطانية.
والحقيقة أن جلاء الإنجليز عن مصر وبورسعيد لم يكن سهلا على الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فالصور الملتقطة للحدث تسجل جنودهم وقد كتبوا على المباني التي كانوا فيها عبارات تتوعد بالعودة مرة أخرى، وبالفعل ما هي إلا شهور واستغلوا فرصة ظنوها حانت لهم ليعودوا في آخر نفس العام.
قال جمال هنبني السد..ونعمر بلدنا بجد
اتلموا علينا ذئاب الأرض
دخلوا علينا بورسعيد.. مُتنا عشانها وجِبنا العيد
برحيل الاستعمار حققت مصر واحدا من مبادئ ثورة ٢٣ يوليو، وكان لابد من الاتجاه نحو البناء، وحصلت مصر على موافقة البنك الدولي بمنحها قرضا لتمويل بناء السد العالي، إلا أن دعم مصر للقضية الفلسطينية، وإحكامها السيطرة على قناة السويس وخليج العقبة، ودعم مصر لقضايا التحرر في العالم، وتحول مصر للتسلح من الاتحاد السوفييتي، عوضا عن رفض أمريكا وبريطانيا، كلها وغيرها أسباب أدت إلى إلغاء موافقة البنك الدولي لتمويل بناء السد، مما اضطر مصر لتأميم قناة السويس للحصول على التمويل. وعلى أثره قررت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل شن العدوان على مصر بدءًا من سيناء في ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦م، لتبدأ مصر وفي المقدمة منها بورسعيد فصلا جديدا من فصول المقاومة.
(اسمي جواد..طالب بكلية الحقوق.. فوجئت بالغرباء يقذفون أرضي بالقنابل.. فنهضت لنصرة وطني وإنقاذ أرضي.. والحمد لله لقد شفيت غليلي من أعداء البشرية.. وأنا الآن سجين.. سجين وجُرحي ينزف الدماء.. أنا الآن في معسكر الأعداء.. أنا هنا أتحمل كل وسائل التعذيب والإرهاب.. لكن يا ترى هل سأعيش؟.. ليس المهم أن أعيش وإنما الأهم أن أرى النصر وأن أشهد هزيمة الأعداء).. تلك الكلمات كانت آخر ما سطّر الشهيد جواد حسني على حائط محبسه بدمه، جواد حسني طالب حقوق القاهرة الذي التحق للتدريب بالكتيبة العسكرية بجامعته، لم يرض لنفسه أن يقف مكتوف الأيدي وهو يسمع أنباء العدوان الثلاثي على مصر في ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦م، وكان في مقدمة الفدائيين الذين انطلقوا حيث الحدث، حمل سلاحه واستطاع أن يتسلل مع كتيبته إلى سيناء، عند العريش كان لقاء العدو فتقدم الصفوف، أصيب أثناء معركة مع قوات إسرائيلية فرنسية على مسافة من القنطرة وضرورة الاستسلام لأوامر قائده والانسحاب للإصابة، وفي ١٦ نوفمبر علم أن القوات الفرنسية وصلت للكيلو ٢٩ طريق الكاب شرق القناة، زحف وحده تجاه قوات العدو، وعند ظهور أول دورية فرنسية انهال عليهم بالرصاص من مدفعه سريع الطلقات، ومع سقوط القتلى كان يتقدم أكثر رغم شدة إصابته حتى أردى منهم ١٧ قتيلا وعددا كبيرا من الجرحى مما اضطرهم لطلب النجدة السريعة، وبالفعل تحركت المصفحات للنجدة بحذر وكانت تظن أنها في مواجهة كتيبة بكاملها، ولكنها فوجئت بالبطل وحيدا وقد أعيته الجراح ونفدت ذخيرته، تم نقله لمعسكر الفرنسيين وبدأت مراسم التعذيب لأخذ اعترافاته حول كتائب المقاومة، منعوا عنه الماء والطعام خمسة أيام وتركوه للموت في زنزانته، كان يستغل لحظات قوته فيكتب قصته بمداد دمه النازف على حائط الزنزانة، ومع إصراره على الصمود قال الكولونيل الفرنسي بازان لقد قررنا إطلاق سراحك، يتماسك البطل رغم الإعياء، وما أن استدار وخطى بعض خطوات إلا وعشرات الطلقات من رصاص الغل والغدر تنهال عليه، ليلقى ربه كريما عزيزا في ٢ ديسمبر ١٩٥٦م.
في بورسعيد صب المجرمون جام غضبهم وحقدهم على المدينة، استمر القصف لعدة أيام وشمل كل المناطق واشتعلت النيران في حي المناخ بالكامل، تهدمت المباني واستشهد الرجال والنساء والأطفال في منازلهم.
السعيد حماده شهيد المسؤولية
اسمع قصة جندي شهيد.. ابن بلدنا الحر سعيد..
ضحى بهمة وعزم حديد.. يوم عدوان ستة وخمسين..
هكذا بدأ شاعر بورسعيد الكبير كامل عيد قصيدته لتمجيد بطولة السعيد حماده، الذي كان مجندا لحراسة القنصلية الإيطالية في بورسعيد ١٩٥٦م، في بداية نوفمبر بدأت قوات العدوان قصفها الجوي للمدينة واستهدفت المنشآت والمنازل، تساقطت القنابل في كل مكان، ساد الفزع بين الناس، الكل يجري إلى وجهته، استشعر القنصل الإيطالي الخطر على السعيد حماده فطلب منه الدخول والاحتماء بالقنصلية وأشفق عليه وجذبه أكثر من مرة، ولكنه رفض لأنه مكلف بحراسة القنصلية والدفاع عنها، دقائق معدودة بعدها ثم أصابته شظايا القنابل فوقع شهيدا مدرجا بدمائه الذكية، وكان أول شهداء العدوان على بورسعيد.
وفي ٥ نوفمبر بدأ الإنزال الجوي على بورفؤاد ومنطقتي الرسوة والجميل، وصمد الأهالي في مواجهة الإنزال صمودا أسطوريًا، وفي اليوم التالي بدأ الأسطول يدخل المدينة عبر الميناء، باشر جنوده أبشع أنواع التخريب والسطو وخاصة بعد رفض الأهالي التعاون معهم، ولجأت القوات المعتدية للخديعة تمكنها من المرور عبر شوارع المدينة، فرفعت الأعلام المصرية السوفييتية على الدبابات، فخرج الناس لاستقبالها، ولكنها أطلقت عليهم نيرانها وسارت عليهم بالجنازير، وخلفت وراءها كثيرًا من الشهداء الذين تساوت أجسادهم بأسفلت الشارع، ولكن المقاومة تمكنت من الالتئام والصمود بعد ذلك.
الطفل الذي حلم بالشهادة
حسن حمودة طالب الإعدادية وزميله رمضان السيد اعتادا مشاركة الكبار في أعمال المقاومة، يلصقان صور جمال عبدالناصر على جدران المنازل ويكتبان بالطباشير شعارات ضد العدوان، وفي يوم ٢١ نوفمبر ١٩٥٦ استيقظ حسن سعيدًا وقال لأمه (لقد حلمت اليوم أنني دخلت الجنة)، في هذا اليوم وصلت بورسعيد القوات الدولية التي ستقوم بتنفيذ قرار سابق لوقف إطلاق النار، عند الظهيرة قام الأهالي بالتظاهر للإعلان عن إصرارهم على رحيل العدوان، وكان حسن وزميله رمضان ضمن المظاهرة، خرج الطفل يحمل صورة جمال ويهتف ضد العدوان، وما أن وصلت التظاهرة شارع سعد زغلول حتى تصدت لها دورية مسلحة وأطلقت النار على الطفلين.
استمرت المقاومة في المدينة واستبسل أهلها في الدفاع عنها رغم الأعداد الكبيرة للشهداء، وتنوعت العمليات على يد أبطال فدائيين لم يهابوا الموت، بل واجهوه فلم يواجههم، واجهه البطل السيد عسران وهو يحمل القنبلة في رغيف الخبز ليغتال بها ويليامز مدير المخابرات، وواجهه البطل محمد حمدلله ورفاقه الخمسة وهم يأسرون الضابط مورهاوس ابن عم ملكة إنجلترا، واجهه البطل محمد مهران وهو يقاوم الإنزال الجوي في الجميل، واجهته البطلة زينب الكفراوي وهي تنقل السلاح للفدائيين وواجهته البطلة فتحية الأخرس أم علي وهي تخفيهم عن أعين المعتدين، كلهم واجهوا الموت ولكنهم عادوا لمصر وللحياة منتصرين فسلام لهم وسلام لأرواح الشهداء، وهي من واقع سجلات المحافظة ٧٤٣ شهيدا من الجيش والشرطة والشعب، إضافة إلى ٦١٨ شهيدا مجهولي الهوية.. سلام عليهم أجمعين.