مصطفى أبو هاشم بطل الجمهورية في جمال وكمال الأجسام، وأحد أبرز الفدائيين أعضاء منظمة سيناء العربية والذي أبهر أبناء السويس بعضلاته المفتولة وكمال وجمال قوامه الرياضي الممشوق.. كان "أبو هاشم" يستضيف من وقت لآخر في السويس مجموعة من أبطال كمال الأجسام من المصريين الذين كانوا يشاركون في البطولات العالمية وفي مقدمتهم بطل العالم المعروف "عبدالحميد الجندي" والكابتن غزالي قائد فرقة ولاد الأرض في حرب 67 و73 والممثل أحمد رمزي.
المهم حين حلت نكسة 5 يونيو عام 67، وعقب إعلان البيان العسكري الأول اندفعت الناس للشوارع والميادين وذهبوا إلى معسكرات الحرس الوطني والمقاومة الشعبية يطلبون السلاح للمشاركة فى المعارك.. وكان بطلنا مصطفى أبو هاشم أبرز من تقدم الصفوف ومن الراغبين في التطوع دفاعاً عن مصر.
وبات الجميع يحلمون بالنصر.. ولكن الشك والريبة علقت بقلوب أغلب الناس مساء يوم 6 يونيو .. حيث شاهدوا فى شوارع المدينة ما يثير القلق رغم بيانات الانتصار التي كانت الإذاعة تعلنها كل لحظة.. حيث شاهد معظم الناس أن شوارع السويس قد امتلأت فجأة بآلاف الجنود الجرحى العائدين من الضفة الشرقية للقناة، وغبار المعارك لا يزال على وجوههم وملابسهم العسكرية ممزقة.
وأدركت الناس وفي مقدمتهم "مصطفي أبو هاشم" أن السويس أمام هزيمة قاسية فقد عاشت السويس مرارة الهزيمة.. كما لم تعيشها مدينة أخرى فى مصر فقد كانت السويس هي النقطة الأساسية فى طريق سيناء الممرات وأول مدينة شاهد أهلها قوات مصر والدبابات الضخمة وهى تعبر القناة إلى الضفة الشرقية للقناة فقد كانت الحشود العسكرية تتحرك إلى سيناء فى مشهد غريب وسط المدينة وعبر الطرق الصحراوية المحيطة ثم تعبر القناة لتواصل الاندفاع شرقاً إلى قلب سيناء وتمنى أبناء السويس ركوب الدبابات لمصاحبة الجنود للخلاص من تل أبيب.. فالسويس مدينة ترفض الهزيمة.
كانت المأساة أكبر من أن يصدقها أحد.. كانت الصدمة قوية والمصيبة كانت أقوى وعاشت السويس أيام حالكة بلون قرن الخروب.. فتحت السويس صدرها للعائدين تحتضنهم وتمسح جراحهم وتؤويهم وخلع أغلب السوايسة ملابسهم المدنية ولبسوا جميعا الأفرول "الكاكى" ابتداءً من المحافظ حتى المواطن العادي وكأنهم يبعثون يؤكدون للعدو الإسرائيلي القابع على بعد 180 متر فقط هي عرض القناة عند بورتوفيق أن الشعب كله تحول من الآن إلى جيش يستعد للثأر.. كان أهل السويس يرفضون الهزيمة وفي انتظار أن تهل عليهم لحظة الانتظار ليأخذوا بالثأر.
واشتدت غباوة قوات العدو الإسرائيلي وعصبيته فقام بتدمير المنشآت البترولية فى محاولة منهم لبث الرعب في قلوب أبناء السويس ويسقط الشهداء من أبناء المدينة وهم يحمون بلدهم والمنشآت الصناعية ويرفع شعب السويس شعار "البقاء على الأرض تحت كل الظروف".. وازدادت قائمة الشهداء مع كل عدوان على المنشآت الحيوية في السويس حتى تحولت المدينة إلى كتلة من النيران المشتعلة.
وخلال ما يحدث من عدوان على منشآت وأهالي السويس.. كانت الدماء تغلي في عروق البطل "مصطفى أبو هاشم" في السويس.. فبعد أكثر من شهر بأيام معدودة من حلول هزيمة يونيو وبالتحديد صباح يوم 14يونيو67 قرر"أبو هاشم" النزول للشريط المائي للمجرى الملاحي لقناة السويس بداية من مدينة بورتوفيق ليرد على جنود العدو الإسرائيلي الذين زعموا استيلاءهم على نصف مياه القناة.. فقام بعمل خط من الشمندورات المائية أوهم به الإسرائيليين.. كانت بدايته من مدينة السويس حتى مدينة بورسعيد.. مما جعل جنود الصهاينة في حالة غضب عارم وبدأت علامات الحرب الباردة تظهر على سطح مياه القناة بين مصطفى "أبو هاشم" الذي استعان بكل زملائه وفي مقدمتهم الفدائي غريب محمد والكابتن عبدربه أحد أبطال مصر في التجديف وبين جنود الصهاينة.
ومن هذا المنطلق قام "مصطفى" بتأسيس مجموعة "المقاومة الشعبية".. ثم صار قائداً لمنظمة سيناء العربية.. وشارك "مصطفى" في عدد من العمليات الفدائية الناجحة خلف خطوط العدو الصهيوني في سيناء.. حيث بثوا الذعر والرعب في قلوب جنود العدو الإسرائيلي.. وقام وزملاؤه بأسر عدد من الجنود الصهاينة خلال قيامهم برفع العلم الإسرائيلي على الضفة الشرقية للقناة.. كما نجح بمشاركاته في عملية "وضح النهار" التي أربكت دفاع العدو الإسرائيلي.. وأكدت له أن مصر لن تترك أرضها مغتصبة و"ناوية" على تحريرها.
وظل مصطفى أبو هاشم يعمل في صمت على التدريب البدني وفنون الصاعقة القتالية لزملائه الفدائيين داخل نادي منتخب السويس بمنطقة الملاحة كل طلعة شمس وكيفية القيام بعمليات فدائية خلف خطوط العدو.. وبمنطقة ساند بيتش كان يقوم بتدريب أعضاء منظمة سيناء العربية.
وبعد أربعة أشهر من عملية "وضح النهار" ومع حلول يوم 8 فبراير عام 1970.. قام العدو الإسرائيلي بشن غارة جوية على مواقع المدفعية التي كانت تقع خلف ملعب نادي منتخب السويس.. وفي ذلك اليوم كان أعضاء المجموعة الفدائية من زملاء مصطفى أبو هاشم قد غادروا صالة الحديد بعد أن أدوا تدريباتهم القتالية وقبل أن يشن الطيران الإسرائيلي الغارة الجوية بنصف ساعة.
تاركين مصطفى أبو هاشم داخل صالة الحديد بنادي منتخب السويس يمارس هوايته المفضلة من رياضة كمال الأجسام التي يعشقها.
ومع شدة الغارة الجوية ترك مصطفى أبو هاشم صالة الحديد وأسرع للاختباء والاحتماء داخل إحدى المخازن التي أقيمت تحت أحد المدرجات الجماهيرية للنادي والمستخدمة في تخزين زجاجات المولوتوف.. وفي هذه الأثناء أصيب مصطفى أبو هاشم داخل المخزن من إحدى الطلقات خلال الغارة الجوية التي شنها سلاح الطيران الإسرائيلي.. ولتنفجر زجاجات المولوتوف واندلعت النيران بالمخزن وأمسكت به فحاول "مصطفى" إطفاء نفسه وهو منبطح أرضاً على أرض رملية.. فلم يفلح وانتشرت النيران في جسده الطاهر نتيجة لسرعة الرياح.
أما المشهد الأخير فيقول لنا إن أعضاء المجوعة الفدائية لمنظمة سيناء.. كانت قد أسرعت إلى موقع الحادث للعمل على إنقاذ مصطفى أبو هاشم.. وقام البطل محمود عواد بنقله إلى مبنى مستشفى العام التي كانت تبعد عن موقع الحادث حوالي 600 متر تقريبا.
على الجانب الآخر أسرع محافظ السويس حامد محمود إلى عنبر الحروق بالمستشفى العام تسبقه دموعه.. وراح يتحدث مع زملائه الأبطال.. بينما كان ينصت إليهم مصطفى أبو هاشم الذي ظل مقيداً فى دفاتر الحياة إلى اليوم التالي من العملية الغادرة لطيران العدو الإسرائيلي.. وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها يوم 9 فبراير من عام 1970.. ليظل مصطفى أبو هاشم قائد منظمة سيناء العربية في ذاكرة تاريخ الرجال الأبطال الذين ضحوا بأرواحهم فداءً لمصر.
وكان الكابتن غزالي قائد فرقة ولاد الأرض في حرب 67 و73 قد حفر في كتب التاريخ مرثية للشهيد البطل مصطفى أبو هاشم قال فيها:
من سكات .. من سكات .. من سكات
من سكات .. مـات .. مـصطفى
كيف شمعة .. تقيد نفسها .. للناس
وعمرها بينطفي
من سكات .. مات .. مصطفى
أيـوه كـان يعشق .. المـوت
وعاش عمـره يضـحي
في سكوت .. وكان فارس
وله ألف .. ألف .. دراع
في حواري السويس .. تعمل تقول بلدي
وكان حارس .. بصماته لسه في سينا
تبشرنا .. ترسينا
وكان ريس .. أسألوا الليل
كان يعرفه كويس .. وكان .. وكان
وكام كان يكره .. الكلام
وكان لما يحكي لي أحلامه
أو اللي شافه في منامه
أضحك أنا وأقول إن شاء الله
بعد النصر .. ياهل ترى
حتكوني فاكرانا يا مصر
وكيف شمعة تقيد .. نفسها للناس
وعمرها بينطفي.
ونأتي لشقيقه الأكبر الشهيد البطل أحمد أبو هاشم الذي تلقى وأسرته نبأ استشهاد شقيقه الأصغر مصطفى أبو هاشم .. حتى سارع لمواصلة حمل لواء الدفاع عن مصر رغم أنه لم تكن له أية علاقة من قريب ولا من بعيد بالفدائيين أو بالعمل الفدائي ..فالبطل أحمد أبو هاشم كان يعمل رئيساً لقسم المبيعات في شركة السويس لتصنيع البترول.. إلا أنه طلب الانضمام لمنظمة سيناء العربية ليأخذ بثأر شقيقه.. إلا أن العقيد فتحي عباس مسؤول المخابرات العسكرية اعترض على انضمامه نظراً لكبر سنه.. فرفض مهددا بعدم دفن جثة شقيقه إلا بعد انضمامه للمنظمة وأصر على ذلك.. وأمام هذا الإصرار العجيب استجاب العقيد فتحي عباس مسؤول المخابرات العسكرية لرغبة أحمد أبو هاشم الذي ظل وزملاؤه الأبطال ينتظرون يوم الثأر للخلاص من جنود الصهاينة.. فهزيمة الخامس من يونيو كانت قاسية تركت في نفوس أهالي السويس أثراً كبيراً.. خاصة وأن أبناء الغريب عليهم العبء الأكبر عن غيرهم من مدن القناة نتائج هذه الهزيمة.. كما كان لها وقع مرير في نفوس الشعب المصري.. وبشهادة كل المراقبين أن السويس لم تسلك مسلكا انهزاميا.. بل كانت تستعد قبل الخامس من يونيو لمواجهة احتمالات المعركة.
يقول حامد محمود في مذكراته "السويس والمعركة" عام 69، فقد شكلت لجنة برئاسة المحافظ لتنظيم أعمال المقاومة تقدم إليها الضباط القدامى من القوات المسلحة والشرطة السابقون ومن أبناء المدينة متطوعون للقيام بواجبهم.
وتم إعداد مراكز للتدريب القتالي.. وتمت عمليات تهجير أهالي السويس إجباريا والإبقاء على حوالي 10 الآف من العمال أو يزيد يمثلون مرافق السويس الحيوية.. وخيَّم السكون على المدينة وأصبحت السويس بعد التهجير مدينة للرجال فقط.. وارتدى محافظ السويس زي الجيش مع الأهالي.. تم نقل الحياة للخنادق من خلال العروض السينمائية التي كانت بمثابة ترفيها للأهالي.. كما انطلقت فرقة ولاد الأرض بقيادة الكابتن غزالي تجوب الخنادق والمعسكرات وتلهب حماس الجميع بأغانيها الوطنية وتبث الأمل في النفوس.. وتأتي معركة 24 أكتوبر لعام 73.. وفي منتصف ليل 23 أكتوبر 73 وصلت من جنوب السويس وحدات لواء إسرائيلي مدرع من فرقة ماجن لاقتحام مدينة السويس.. وأصدرت القيادة العامة تعليمات بالدفاع عن مدينة السويس وإغلاق جميع مداخلها.. ولم تنم السويس ليلتها وبدأ العدو الإسرائيلي بالهجوم البري على مدينة السويس بكتيبتين مدرعتين ومشاة ميكانيكي محمل علي مجنزرات من ناحية السماد ومن الكيلو 9 طريق "السويس ـ القاهرة" وواصل العدو تقدمه من ناحية المثلث ومن منطقة الشلوفة.. ولم تتمكن القوات الموجودة من وقف زحف قوات العدو حتى دخل المدينة.
وبدأت عمليات توزيع الكمائن من رجال المقاومة الشعبية في انتظار جنود العدو الإسرائيلي دخولهم للسويس.. فتم توزيع المجموعات على أنحاء السويس.. هناك مجموعة أمام قسم شرطة الأربعين تضم الفدائى محمود عواد وإبراهيم سليمان.. وأخرى بجانب مزلقان الشهداء الفدائي أحمد العطيفي ومحمد سرحان وفايز حافظ.. ومجموعة ثالثة عند مزلقان البراجيلي بقيادة أحمد أبو هاشم.. وكانت توقعات الفدائيين أن العدو الإسرائيلى سوف يدخل المدينة من ناحية منطقة المثلث قادما من منطقة الجناين شمال مدينة السويس.
وكانت التعليمات لكمين مجموعة أحمد أبو هاشم أن يتركوا الدبابات الإسرائيلية تدخل شارع الجيش إلى ميدان الأربعين دون اعتراضها.. والتعامل معها عند مرور آخر دبابة.. وبالفعل نجحت الخدعة.. وانقض رجال المقاومة الشعبية على الدبابات.. وقام أحمد أبو هاشم باستخدام القنابل الحارقة بقذف آخر دبابة بطلقاته السريعة والمؤثرة والتى تحمل غل الثأر لشقيقه مصطفى أبو هاشم.. فيما قام زملاؤه بإصابة مقدمة الدبابات وحاولت الدبابات الهروب ولكنها لم تفلح نتيجة لتعطل الدبابات بالكامل.
ولم يبال أحمد أبو هاشم بتحذيرات زملائه الأبطال الذين صرخوا فيه بالابتعاد عن مرمى نيران العدو الغادر.. وظل يطلق مدفعه الرشاش هنا وهناك حتى اخترقت صدره رصاصات العدو الغادر وسط شارع الجيش.. ورغم إصابته برصاصات العدو إلا أنه ظل يقاتل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يودع زملاءه بعلامات النصر ليصبح أول شهيد عقب تدمير آخر دبابة.
وانتصرت أهالي السويس بالتعاون مع رجال القوات المسلحة والشرطة على قوات العدو الإسرائيلي.. وأصبحت السويس مقبرة للغزاة.. رحم الله شهداءنا الأبرار وأسكنهم فسيح جناته.
«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».