السبت 11 مايو 2024

حوار الأقوياء وعزة نفس تقود إلى الموت


د. طارق منصـور

مقالات21-3-2022 | 19:25

د. طارق منصـور

يقول ابن زنبل الرمّال في كتابه المهم "آخرة المماليك" إنه لما وقع السلطان طومانباي في أسر السلطان سليم الأول اتهمه الأخير بأنه وكل سلاطين المماليك أبناء نصارى في الأصل، وما كان لهم أن يحكموا بلاد المسلمين ويعزلوا هذا ويقتلوا هذا، فما كان من السلطان طومانباي، آخر سلاطين المماليك على مصر، إلا أن رد عليه قائلاً: "قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وهو أصدق القائلين، (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، اللهم إن المرحوم الملك الشرفي قانصوه الغوري وقع بينك وبينه التنافس، ودخلت الشياطين بينكما، ورمت الأعادي بينك وبينه، وختم الله له بالشهادة...وأما أنا فليس بيني وبنيك عداوة ولا أحد من عسكرك ولا غيرهم".

فقال له السلطان سليم الأول: "والله ما كان قصدي أذيتك، ونويت الرجوع من حلب، ولو أطعتني من الأول وجعلت السكة والخطبة باسمي ما جئت لك ولا دست أرضك".

جدير بالذكر أن السلطان سليم الأول قبل أن يغزو مصر ويدخل في قتال جندها الذي كان يقوده السلطان طومانباي وأمراؤه في موقعة الريدانية في 22 يناير 1517م، كان قد تلقى رسالة من السلطان سليم الأول وهو معسكر في حلب يطلب منه تلك الطلبات، والتي تعني ببساطة أنه لن يصبح سلطانًا على مصر، بل تابعًا للسلطان العثماني، وقد هم السلطان طومانباي أن يلبي طلباته حقنًا لدماء المسلمين، لكنه حين عرض الأمر على قادة جيشه من الأمراء الجراكسة بمصر رفضوا تمامًا تلك الفكرة واتفقوا على الخروج لقتال السلطان سليم الأول والدفاع عن مصر وربما للثأر أيضا لمقتل سيدهم السلطان قانصوه الغوري في موقعة مرج دابق قرب حلب في الثامن من أغسطس عام 1516م؛ ووافقهم السلطان طومانباي الرأي، وبدأوا يعدون العدة لذلك.

بيد أن بعض الأمراء الجراكسة ممن كانت الخيانة تسري في دمائهم اتصلوا سرًا بالسلطان العثماني ونقلوا إليه كافة أخبار المعسكر المصري، بل أشار بعضهم على طومانباي أن يدفن المدافع الكبيرة في الرمال حتى لا يصل خبرها للسلطان العثماني، على أن يكشفوا عنها في لحظة معينة أثناء القتال، فتصبح وبالاً على الأتراك أثناء القتال، والواقع أنها كانت خدعة كبيرة خدعوا بها السلطان طومانباي بعد أن اتفقوا مع سليم الأول على تفاصيلها.

نعود ثانية إلى الحوار الذي دار بين السلطان سليم الأول والسلطان طومانباي، حيث رد الأخير عليه ردًا يعتبر شهادة سجلها التاريخ لنا عن عزة نفس سلطان مصر طومانباي في مواجهة صلف السلطان العثماني، حيث قال له: "الأنفس التي تربت في العز لا تقبل الذل، وهل سمعت أن الأسد يخضع للذئب؟ لا أنتم أفرس منا ولا أشجع منا، وليس في عسكرك من يقايسني في حومة الميدان، ونحن قوم قد خصنا الله سبحانه وتعالى بذلك، ولكن أنا أعرف أن ما عليك أضر من هذين الشيطانين الخائنين، فإنه لو كان فيهما خيرا لكان لنا".

هنا أعجب السلطان سليم ببلاغة طومانباي وشجاعته، ولم لا وقد رآها بنفسه في ساحات الوغى، ووصلته صور بطولات طومانباي وهو يقاتل عسكر الأتراك على أرض مصر المحروسة من الريدانية إلى الصليبة إلى المنيل إلى الجيزة وبولاق وغيرها من أحياء القاهرة وضواحيها، ويقتلهم تقتيلاً، وقال سليم الأول للحاضرين: " والله مثل هذا الرجل لا يقتل، ولكن أخروه في الترسيم حتى ننظر في أمره".

ورغم رغبة السلطان سليم الأول هذه، إلا أن الأمير خاير بك، والذي اعتدنا أن نطلق عليه كنية خاين بك، ظل يأخذ بإذن السلطان سليم الأول حتى أقنعه بضرورة التخلص من السلطان طومانباي، حتى لا يلتف حوله المصريون والجراكسه ويستعصي أمر مصر عليه، فخضع سليم الأول لمشورته وقرر إعدام طومانباي على باب زويلة، حتى يشهد المصريون كافة ومماليكه إعدام سلطانهم فتنكسر أنفسهم ولا تقم لهم قائمة.

وذات يوم جاءت الجند والشاوشية ليقتادوا السلطان طومانباي إلى باب زويله، فنادى فيه أحدهم: "قم، فإن السلطان يطلبك، فقام معهم وساروا به إلى أن قرب من خيمة السلطان سليم وأوقفوه،" وإذا بأحد القادة قد خرج من عند السلطان سليم الأول وقال: "قد برز أمر السلطان بأن تسيروا به إلى باب زويلة وتصلبوه هناك".

ورغم إدراك طومانباي لهذه النهاية التي كتبها القدر عليه، إلا أنه كان رابط الجأش، قوي الشكيمة، يتحلى بالشجاعة التامة، وسنرى هذا في مشهد سيره إلى هناك وهو يحيي المصريين الذين اصطفوا على جانبي الطريق ليودعوا سلطانهم المحبوب بالدمع والنحيب والعويل.

جاءت عساكر الأتراك ببغلة وأركبوا السلطان طومانباي عليها، وقيدوه من تحت البغلة، والتف حوله العساكر الأتراك من كل صنف. وهنا يؤكد ابن زنبل الرمال وبنص العبارة "انقلبت الدنيا بالضجيج والبكاء والصياح".

وكان الواحد من عسكر الترك يجيء إلى الرجل من أهل مصر ويقول له: هذا الرجل الذي على البغلة هو السلطان طومانباي، أم غيره؟ فيرد عليه المصري بحزن واقتضاب: بل هو هو، ويؤكد ابن زنبل الرمال أن ذلك اليوم كان أشأم الأيام على أهل مصر، وبكت عليه الأرامل والأيتام". 

وقد أعدم الأتراك السلطان طومانباي شنقا في التو لحظة وصوله، بعد أن طلب من المصريين الحاضرين المشهد أن يقرأوا له الفاتحة، وهنا أمر الجند المكلفين بإعدامه أن يقوموا بمهمتهم، وقد ظل جثمان طومانباي معلقا على باب زويلة لمدة ثلاثة أيام، بعده أنزل وغسل وكفن، ودفن تحت قبة السلطان الغوري.
ولعل ما يؤكد قوة بأس طومانباي وشجاعته ذلك الحديث الذي دار بين أحد أمراء طومانباي والسلطان سليم الأول، حين وقع الأمير كرتباي في قبضة الأخير. 

قال الأمير كرتباي للسلطان العثماني سليم الأول حين غزا مصر: "هأنت معك مائتا ألف من جميع الأجناس، وقف مكانك، وصف عسكرك، ويخرج لك ثلاثة أنفار: أنا عبد الله، والفارس الكرار السلطان طومانباي، والأمير علان، وانظر بعينك كيف تفعل هذه الثلاثة...تبغى تعرف روحك، إن كنت ملكا أو يصلح لك أن تكون ملكا، فإن الملك لا يصلح إلا لمن يكون من الأبطال المجنورة كما كان السلف الصالح...نحن قوم لا نترك سنة نبينا محمد، ويا ويلك كيف ترمي بالنار من يشهد لله بالوحدانية ولمحمد (صلى الله عليه وسلم) بالرسالة؟"

فرد السلطان سليم قائلاً: "حيث كانت فيكم الشجاعة والشجعان والفرسان وأنتم على الكتاب والسنة، كما زعمت، فبأي سبب غلبناكم، ومن أرضكم أخرجناكم، واستعبدنا أولادكم، وأفنينا جموعكم؟"

فرد عليه الأمير كرتباي: "والله ما أخذتم أرضنا بقوتكم ولا بفروسيتكم، وإنما ذلك أمر قضاه الله تعالى وقدره في الأزل، وقد جعل الله لكل شيء بداية، ولكل شيء نهاية، ولكل دولة مدة معلومة وقسمة مقسومة، وقد جرت عادة الله سبحانه في خلقه بذلك".

كان طومانباي -حسب أقوال المؤرخين- "اتفق الجميع أنه كان مقداما، خبيرا بالحرب ومواقع الطعن والضرب، والدخول في الميدان والخروج منه، لا يرهب الإقبال، ولا يخطر الموت له على بال".

أما من حيث هيئته، فقد كان طومانباي "متوسط الطول، ذهبي اللون، واسع الجبين، اسود العين والحاجبين واللحية. وكان دينا صالحا خيرا فاضلا. زائد الأدب والسكون، والخشوع والخضوع، ملازما لزيارة المشايخ، الأحياء منهم والأموات، حتى أنه لما غسله الغاسل وقلعه ما عليه من الثياب وجدوا على بدنه جبة صوف حمراء، وأوصى أن يدفنوه بها. ولم يظهر عنه في حياته شيء من الأفعال الرديئة أبدا، لا شرب الخمر ولا زنا، ولا فواحش أبدا، لا يظهر شيئا مما يفعله أهل التجبر والعنف، وكان الغالب على حاله السكينة والوقار، وكان غالبا على نفسه، رزينا في أحواله، لين الكلمة ذا انخفاض، كثير الرحمة والشفقة على كل أحد، حتى أنه لما ظهرت منه هذه الفراسة والشجاعة في قتال السلطان سليم الأول صار الناس يتعجبون منه غاية العجب ولم يكن أحد يظن أنه بهذه الصفة، وكان الذي عمره ما رآه إذا رآه لا يشك في أنه عبد صالح، فإن الصلاح والخيرية كانت ظاهرة عليه وعلى وجهه".

ولعل هذه الصفات هي التي جعلت المصريين يحبون سلطانهم المملوكي إلى هذه الدرجة، فيخرجون على طول الطريق المؤدي إلى باب زويلة ليودعوه ما بين الدموع والصياح والصراخ والعويل، وكان السلطان يلوح لهم بيده كنوع من التحية لهم.

أعدم سلطان مصر طومانباي على أيدي السلطان العثماني سليم الأول في 14 أبريل 1517م الموافق 15 من شهر ربيع الأول سنة 922هـ، ولاقى ربه عن عمر يناهز اثنين وأربعين عامًا تقريبًا، بعد أن ضرب لنا مثلاً في الشجاعة والجسارة والإقدام، ورباطة الجأش، وعزة النفس التي قادته إلى الموت، حتى جعل السلطان العثماني يتعجب من شجاعته وبطولاته العسكرية في ميدان الوغى، لدرجة أنه قرر أن يبقيه على قيد الحياة لولا أحاديث الوشاة ممن خانوا سلطان مصر وارتموا في حضن سلطان الأتراك، لتدخل بعدها مصر في نفق يكسوه الضباب، وتفقد استقلالها وأموالها وذهبها وخيرة صناعها وأبنائها على أيدي سلاطين آل عثمان الأتراك.

 

 

 

 


السلطان العثماني سليم الأول

 

 

 

 


لوحة تخيلية للسلطان
طومانباي وجنده في الميدان

 


قبة السلطان الغوري من الداخل

Dr.Radwa
Egypt Air