السبت 4 مايو 2024

ذكرى الشهيد داخل الإنسان وفي عمق الأديان


ناجي شهود

مقالات21-3-2022 | 20:34

ناجي شهود

يقترب شهر مارس سنويا، وتتحرك داخل شجون الإنسان المصري ذكريات متزاحمة ومتداخلة وعنيفة بين المحزن والمفرح، وبين البنّاء والهدّام، وبين المؤلم وما يطيّب خاطر أهل مصر، ومن حق أهل مصر أن يتساءلوا لماذا اختارت مصر تحديد يوم 9 مارس من كل عام لإحياء ذكرى شهدائها أجمعين؟ هل لأنه في هذا اليوم عام 1969 تم استشهاد الفريق أول عبد المنعم رياض، وهل لكونه رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية وليس مقاتلا عاديا؟؟ وهل تم تحديد هذا اليوم لكون الشهيد كان يشغل أعلى منصب في القوات المسلحة وهو رئيس هيئة الأركان المصرية؟؟ وكيف كان الاحتفال بذكرى من سبقوه من شهداء مصر في التاريخ المعاصر منذ عام 1948؟؟ وما معنى الاستشهاد؟؟ وما هو موقع ومكانة الشهيد في الدنيا وفي الآخرة؟؟ وما هو اليوم العالمي المحدد للاحتفال بالشهداء في العالم؟؟ وهل كل أهل مصر بنسائها ورجالها يمثلون مشروع شهيد، أم رجال القوات المسلحة والشرطة فقط هم المنوطون بالشهادة؟؟

بداية من الأهمية إيضاح أنه لم يكن هناك في مصر احتفال بذكرى الشهيد قبل هذا التاريخ، ورغم أن ذلك قد يمثل في ظاهره إهمالاً أو تجاهلاً لحق شهداء مصر عبر العصور إلا أنه حقيقة واقعة مؤلمة، رغم أنه لكل شهيد مصري داخل أسرته وقريته وفي قلب المصريين كل الاحترام والتقدير والعرفان بفضله، حيث مات هو وقدّم روحه ليعيش أهل مصر في عز ومنعة واحترام، وليس من العيب أو التخاذل ان تصحح الشعوب أخطاءها، وهذا ما فعلته مصر في فترة تمثل أعقد الفترات في حياة المصريين في التاريخ المعاصر، والتي فرضت أن يتم عسكرة شعب مصر بأكمله لاستعادة الأرض والعِرض المُنتهك منذ عام 1967، وكان من أبرز شهدائها في هذه المرحلة الفريق أول عبد المنعم رياض الذي نال الشهادة يوم 9 مارس عام 1969، والشيء الرائع أن هذا الرجل لم يلق ربه وهو في مكتبه أو بيته، بل مقاتلا على الحد الأمامي للقتال لمواجهة العدو على الضفة الغربية لقناة السويس، وهو يرقب أنشطة العدو الذي يحتل سيناء شرق القناة، ومن المؤكد أنه كان يتساءل ويفكر لماذا يا ربي ألقيت مسئولية إعادة بناء الجيش المصري فوق أكتافي؟؟ وهل يمكن لابن مصر أن يفرط في القيم التي تربى عليها وهي الديِن والأرض والعِرض؟؟ وكيف يتحتم بأبناء هذا الشعب الأبيّ وبقواته المسلحة الأمينة التي ظلموها يوم الخامس من يونيو عام 1967 أن نعيد هذه الأرض إلى حضن الوطن الأم؟؟ وكيف يُعاد بناء الإنسان المصري، الذي أثبتت كل تقديرات الموقف أنه هو العنصر الأوحد الحاسم في معركة الكرامة القادمة ارتباطا بتواطؤ العالم كله على ما حدث عام 1967؟؟ ثم كيف فرضت دول العالم المتحكمة في السلاح حتمية تحجيم قدرات مصر التسليحية بما يمكن معه استنزاف مواردها الاقتصادية ودون الإمداد بتسليح يمكن أن ينفذ به المصريين أي عمليات هجومية على حلفائهم وأدواتهم الجديدة في المنطقة، وهم جيش اسرائيل الذي قام بالاستيلاء على سيناء؟؟ فكان الإنسان المصري هو وقود المعركة القادمة، وكان يتحتم أن يسبق ذلك إعادة الكرامة المفقودة للجندي المصري الذي تحمل تبعات قرارات سياسية خاطئة دفع ثمنها من كرامته.

كان هذا الرجل "رحمة الله عليه" النموذج الحي لمعدن الإنسان المصري حين يستشعر الجندي المصري أن أعلى رتبة في القوات المسلحة المصرية لا تُصدر أوامرها من خلف المكاتب في القاهرة، ولكنها تقف بجانبه في نفس الخندق، ويشرب من نفس زمزمية المياه (زجاجة المياه)، كان الرجل ينفذ أسمى وأجمل وأروع وأول معاني القيادة، فها هو على الحد الأمامي للدفاعات يتفحص جنوده وأسلحتهم المتواضعة ومعيشتهم البسيطة القاسية، ويرقب عن كثب اشتباكات النيران بين جنوده والعدو، ولم ينسحب أو يتراجع حين بدأت اشتباكات المدفعية الدورية كما اعتادت القوات المسلحة في روتين الحياة اليومية مع العدو الإسرائيلي من شرق القناة، والتي استهدفت هدم ما تبقى من كفاءة وقدرة ومعنويات جيش مصر، ولكنه صمد مع الجنود يرقب ويفكر في خطة شرف استعادة الأرض، إلى أن ناداه ربه ليكون مع الصديقين والشهداء، فكان حتما على مصر أن تضعه في منزلة المثل والقدوة، ورغم أن الرئيس محمد أنور السادات تم استشهاده غدرا يوم 6 اكتوبر عام 1981 إلا ان الاحتفال بيوم شهداء مصر كان وسيظل يوم 9 مارس من كل عام فهذه سمة الشعوب الأوفياء الشرفاء.

لن نسهب أو نطيل في ذكر مناقب ومحاسن شهيد مصر، ولكن يحضرني تساؤل، لماذا أطلق عليه زملاء الدراسة من الضباط السوفييت ومدرسوه لقب "الجنرال الذهبي" أثناء بعثته بالاتحاد السوفييتي عام 1958،  وكيف تولى عام 1964 منصب رئيس أركان القيادة العربية الموحدة وعمره لم يتجاوز ال (45)عاما، ولماذا وفي أول يونيو عام 1967 ومع توتر الأوضاع مع إسرائيل تم تعيينه قائد مركز القيادة الموحدة المتقدم في عمان، ومع حدوث النكسة في 5 يونيو تولى قائدا عاما للجبهة الأردنية ولعدة أيام، ولكن كان الجيش المصري أحوج ما يكون إلى ابنائه الشرفاء في هذه المرحلة الحرجة من عمر مصر، فتم تعيينه رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية يوم 11 يونيو 1967 وبعد أقل من مرور اسبوع على نكسة 5 يونيو 1967 وهو أرفع منصب عسكري في القوات المسلحة المصرية، والأكثر اقترابا وتلاحما مع القوات، (فمنصب وزير الدفاع له أعباؤه السياسية مع الإدارة السياسية للدولة)، وهنا كانت المسئولية الخطيرة لإعادة بناء القوات المسلحة المصرية المنهارة، فكان الإعداد النفسي والإداري والانضباطي والتكتيكي، وإعادة اكتشاف الانسان المصري لنفسه لأداء مهمته الحاسمة الأساسية لإعادة الأرض والعِرض، ولم يطل أمر الإعداد كثيرا ففي أول يوليو 1967 نفذت القوات المصرية معركة رأس العش، وخلال (40) يوم مـن النكسة تم رأب صدع القوات الجوية لتهاجم يوم 14 يوليو الأهداف الإسرائيلية داخل سيناء، وفي 21 أكتوبر 1967 تنجح لنشات القوات البحرية في تدمير المدمرة إيلات، ونجح خلال هذه المرحلة مع أبناء مصر الشرفاء في تجاوز مرحلة الصمود من يونيو 1967 وحتى أغسطس 1968 أمام أفكار وطموح العدو في العبور الى غرب القناة ( تحقيق حلم حدود إسرائيل المزعوم كما صرح قادتها "من النيل إلى الفرات" )، ثم أدار مرحلة الدفاع النشط ومعارك المدفعية حتى فبراير 1969، لقد أكد هذا الرجل ان كلمة الانسان شرف وعهد، بل إنه رحمة الله عليه كان يعني وينفذ ما يقول فهو صاحب مقولة : " إذا حاربنا حرب القادة في المكاتب فالهزيمة تصبح محققة، إن مكان القادة الصحيح هو وسط جنودهم وفي مقدمة الصفوف الأمامية "، وهو القائل : " كن بين جنودك في أحلك الظروف ولا يرون منك علامات القلق والارتباك " رحمة الله عليه نفذ ما قاله بكل شرف ومصداقية ووطنية.

نصل إلى ما هو تاريخ اليوم العالمي المحدد للاحتفال بالشهداء في العالم، ولن أطيل في هذه النقطة فلا يوجد معني لكلمة الشهيد (التي يعرفها أهل مصر والعرب) في دول العالم، حتى الدول التي تدين اسما بالمسيحية أو اليهودية لا يوجد معنى لهذه الكلمة في مفرداتهم أيا كانت اللغة، ولقد أفردت اللغة العربية مدلول الشهيد على الشخص الذي يُقتل لتحقيق هدف يُجلّه قومه، وارتبطت هذه الكلمة في المسيحية بكل من قُتل بسبب تبشيره بالديانة المسيحية أو إيمانه بها، ويطلق لفظ شهداء الكنيسة على المسيحيين الأوائل الذين تم اضطهادهم عن طريق الرومان أو غيرهم، وفي الدين الاسلامي ورد موقع ومكانة الشهيد للإنسان الذي يُقتل في سبيل الحفاظ على دينه وأرضه وعِرضه في القرآن الكريم في مواقع متعددة منها ( سورة النساء الآيات 69،72 وسورة البقرة الآية 154، وآل عمرن الآيات 169، 170، 171) ولذلك لا يوجد يوم محدد عالمي للاحتفال بذكرى الشهداء، حيث لا يوجد هذا المعنى في مفردات اللغة المستخدمة في هذه الدول، ويقتصر الاحتفال في دول العالم بذكرى ضحايا الحروب العالمية للدول المشاركة فيها، مثل الاحتفال بذكرى ضحايا الحرب العالمية الأولى أو الثانية أو في كل دولة على حده وطبقا للحروب التي خاضتها.

إن الاحتفال بيوم الشهيد يرتبط بقيمة الوطن الذي يعيش فيه الانسان، مع أهمية الوضع في الاعتبار أن وجود وطن يحتضن الانسان ليس رفاهية في الحياة، بل هو مكون رئيسي في وجدان الانسان الذي خلقه رب العزة بكل مشاعره التي يحيا بها من الحب والقلق والتوتر والخوف والرغبات المختلفة، هذه المشاعر  والتي يأتي في مقدمتها الاطمئنان بوجود وطن يعيش فيه الانسان، هذا ينطبق على كل البشر في كل العالم، فما بالك بهذا الوطن مصر والتي تفرد ذكرها في الكتب السماوية الثلاثة تصريحا وتلميحا، فلقد ورد اسم بلدكم هذا في الكتاب المقدس (698) مرة، منهم (670) مرة في العهد القديم، وعدد (28) مرة في العهد الجديد منهم (22) مرة واضحة وصريحة والتي تعني مصر المكان والزمان الذي نعيش فيه (حيث نقرأ هذا المقال)، {(4) مرة في إنجيل متى، (12) مرة في سفر أعمال الرسل، (4) مرة في سفر رسالة العبرانيين، (2) مرة في رؤية يوحنا}، واستُكملت الرسالة في القرآن الكريم حيث ورد ذِكر مصر صراحة (5) مرة منها في سورة البقرة الآية (61)، وفي سورة يوسف الآيتان (21،99)، وفي سورة الزخرف الآية (51)، وفي سورة يونس الآية (87)، وعلى التوازي لم يرد ذكر أي بلد من ال (206) دولة الموجودة على سطح الكرة الأرضية سوى مصر بحروفها الثلاث الثابتة دون تغيير منذ مئات السنوات، وهنا تتبلور خطورة المسئولية عن هذا الوطن أمام رب العزة عزّ وجلّ، فهذا الوطن أمانة في رقبة كل مصري، ومع مولده من رحم أم مصرية يكون قد وقّع على إيصال أمانة لرب العِزة يتعهد فيه أن يحافظ على تراب هذا الوطن ويسلمه للأجيال القادمة كامل وآمن وحر، وهذا ما أصّر عليه ونفذه أهل مصر من جيل 1973.    

ولإعداد الأجيال القادمة فليعلم كل مصري أيا كانت ديانته مسلماً أو مسيحياً، وأيا كان نوعه ذكراً أم أنثى، وأيا كان مجال عمله مدنياً أو عسكرياً، وأيا كان موقع حياته ومعيشته في قلب مصر وعلى جانبي وادي النيل، أو على حدودها أنه مشروع شهيد من أجل هذا الوطن، فكل أهل مصر الذين يعيشون على أطراف حدود هذا الوطن سواء الشرقية أو الغربية أو الجنوبية ولا يعملون في القوات المسلحة أو الشرطة المدنية يمثلون مفارز متقدمة لتأمين شعب مصر في الاتجاهات الاستراتيجية الثلاث، وكانت مرجعيتي في أن كل أهل مصر يمثلون مشروع شهيد حديث سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام حين أوصى : "إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جندا كثيفا فإنهم خير أجناد الأرض، لأنهم في رباط إلى يوم القيامة"، وتبين أن معنى كلمة أجناد في اللغة العربية لا تعني جنوداً فقط، فلا يُعقل أن تتقلص نظرة الرسول الكريم في أهل مصر على الجنود فقط، وهو الذي كلّمته الملائكة وحباه رب العزة بحمل رسالة الإسلام إلى العالم، ولكنها في معاجم اللغة العربية تعني أنصاراً ومعاونين ومساندين ومؤيدين ومعضدين، وتعني مجازا جنوداً، ويقصد رسول الله "بخير أجناد الأرض" أن بمصر خير نساء ورجال، شباب وشيوخ، عمال ومزارعين، طلاب ومعلمين، مدنيين وعسكريين وكل مَن خرج مِن رحم أم مصرية، ولمعرفة المستهدف من القول "في رِبِاط إلى يوم القيام" يجب أن نعرف معنى كلمة الرِباط في زمن الحديث، حيث تعني الخيل المجهزة بالسرج مُثبّت على ظهرها والفارس المقاتل بجوارها وعلى استعداد للانطلاق والتضحية بروحه لحماية الوطن، وهذا يعني أن كل من خرج من نبتة هذه الأرض المصرية برجالها ونسائها مرهون وعلى استعداد للشهادة وحتى وصول الإنسان الى منتهاه.

وليطمئن أهل مصر فهذا لا يعني أن مشاكل مصر لن تنتهي حتى يوم القيامة، بل على العكس فإن بلدهم في خير الى أن يرث الله الأرض وما عليها، ولكنه يعني استعدادهم للشهادة وتقديم الغالي والرخيص ليس فقط للدفاع ولنصرة وطنهم مصر ولكن لنصرة الحق والخير والعدل والقيم والأخلاق والأديان على مر الزمان، لذا فَهُم في رِباط إلى يوم القيامة، وهذه وصية رسول الله لشعب مصر العظيم والأمانة التي وضعها في أعناق المصريين، وهذا الشعب هو خير من يحافظ على الوصايا والأمانة والعهود، وسنظل نقدّر ونجل ونحترم كل شهيد وأسرته، ليس فقط يوم 9 مارس من كل عام، ولكن عبر الزمان.

              

Dr.Randa
Dr.Radwa