الثلاثاء 14 مايو 2024

صفحات من كتاب عبدالحليم حافظ

8-7-2017 | 17:27

 

 

أعد الكتاب للنشر- محمد المكاوي

انتقل عبدالحليم من الزقازيق بعد حصوله علي الشهادة الابتدائية إلي القاهرة لدراسة الموسيقي مع أخيه الأكبر إسماعيل في معهد الموسيقي العربية نظراً لتفوقه الدراسي وحبه الشديد للموسيقي فقد قرر أن يلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ليلتقي أثناء دراسته برفاق المشوار.. كمال الطويل وأحمد فؤاد حسن وعلي إسماعيل.

وبعد التخرج أصبح مدرسا للموسيقي بإحدي مدارس طنطا الثانوية للبنات ثم الزقازيق وكانت البنات يزغن من الحصص لحضور حصة الموسيقي وسماع صوت الأستاذ وهو يغني لهن أغانى في الموسيقار عبدالوهاب إلي أن ضاق بالروتين والوظيفة فقرر عدم الذهاب إلي المدرسة، ولما استدعاه وزير المعارف نجيب باشا الهلالي لمعرفة سر انقطاعه المفاجئ عن العمل لم يقدم العندليب أية أعذار سوي أنه لم يعد يقبل بقيود الوظيفة التي ترغمه علي الاستيقاظ مبكرا والعودة عند الظهيرة، فقرر الوزير أن يرفته، فما كان من حليم إلا أن قال له وهو يضحك: مرفوت.. مرفود

الصفر يتحرك جهة اليمين

صايع!

أصبحت مهنته الصياعة!

لا تضحك.. ولا تعتقد أن الصياعة ليست عملا..إنها أشق الأعمال علي الإنسان.. إنها صديق الملل.. ورفيقة السأم.. وعشيقة الفراغ، إنها أفظع الأعمال وأشدها إرهاقا.. إنها تقذف بك إلي دائرة العدم وهلاك اليقظة.. ولا شئ أقسي من أن تموت مقتولا.. إلا أن تعيش .. مقتولا!!

وذاب الحذاء.. لم تعد تنفع معه «اللوزة».. ولا الفرشة الكرتون.. ولا النصف نعل.. ولا النعل.. كان عبدالحليم يسير ليبحث عن شيء لا يعرفه.. كان يبحث عن نفسه!

وأعاد له الجوع صوابه.. بدأ يؤنب نفسه.. ويتهمها بالبطر.. ورفس النعمة.. عامل لي فنان؟.. ما كنت في حالك لا بك.. ولا عليك.. كافي خيرك شرك.. وأول كل شهر تأخذ ما فيه القسمة والنصيب.. أخوك إسماعيل.. طلب نقله من وزارة الصحة.. ليدخل سلك وزارة المعارف.. كمال الطويل.. اشتغل موظفا بمصلحة التليفونات.. وعلي إسماعيل يعمل عازفا..

وطال به عتاب النفس. وحاول أن يفلت من طرق الندم... وراح يبحث عن الطريق.. وأمسك أول الخيط. الإذاعة تكون فرقة موسيقية.. اكتب اسمك.. واقفز إليها.. وأنفخ هواء صدرك في ذلك العمود الأسود.. وأرقص بأصابعك فوق فتحاته النحاسية.. وربنا يعوض صبرك خير.. ربما عينوك عازف.. «أيوا» والإذاعة مرتبها كبير.. خمسة وثلاثون جنيها.. كل أول شهر.. واستجاب الله لدعائه.. انتشلته فرقة الإذاعة.. من بركة الندم.. ورمته في بحر الأمل!

واستيقظ في الصباح.. وحمل آلته... وذهب إلي موعد البروفة فوجد في القاعة مفاجأة تنتظره.. كمال الطويل!

آلو .. ما الذي أتي بك.. يا موظف التليفونات.. إلي حيث دار الإذاعة.. إلي حيث الفن.. ودنيا الفن!

ولم يكن قد أتي ضيفا.. ولا زائرا .. ولا مسترزقا.. ولكن موظف.. تحت يد مراقب الموسيقي والغناء.. حافظ عبدالوهاب!!

وبدأ حافظ عبدالوهاب.. يقتنع بموهبة كمال الطويل واستغل كمال الفرصة ليعرض علي الرجل صوت عبدالحليم مع بوستة الصباح.. وكان رده السريع:

- بعدين نسمعه!.

وبعدين.. سمعه.. غنى عبدالحليم أمامه "ظلمونى الناس ظلمونى" ولم ينتظر الرجل.. صرخ بسرعة ليسكته:

- كويس !!

معذورون.. أولئك الذين يجلسون فى مقعد القضاء.. ليصدروا أحكامهم.. أحكام الإعدام.. وأحكام الميلاد.. للمواهب الجديدة.. فكمية الادعياء التى تعرض عليهم.. تفقدهم الثقة فى الكافة.. إنهم يبحثون دائما عن الشىء غير العادى.. عن أسلوب جديد.. والأسلوب يحتاج إلى تكرار.. والتكرار.. يحتاج إلى وقت.. ولو أعطى هذا الجالس على كرسى القاضى.. دقيقة واحدة من عمر وظيفته.. لكتلة المتراكمين على بابه فى يوم واحد.. لانتهى من سماع آخرهم وهو بالمعاش!!

إن السابقة لا تكتشف الفنان.. إنها تدفع الفرد إلى شحن النفس.. وإلى التزويق.. وإلى التكلف.. إطار الادعاء!!

واكتفى عبدالحليم بمقعده الخلفى.. فى فرقة الإذاعة.. بنوع غريب من الرضا.. رضا بترقب.. رضا مؤقت.. رضا إلى حين!!

وجلست الفرقة.. بعد عشر "بروفات".. انتظارا لمطربة التسجيل نادية فهمى.. لتغرد بلحن الطويل:

أروح لمين .. وأشكى...

أروح لمين.. وأبكى..

وطال غيابها.. القلق جعل الدقائق ساعات.. واتصلوا بنادية فهمى تليفونيا.. وصرخ "البقال".. يناديها:

- تليفون ياست نادية!

وفتحت نادية الشباك.. وهمست له. فعاد الرجل يقول للمنتظر على أحر من الجمر.. كمال الطويل:

- الست سافرت!

فقد كانت نادية فهمى - رحمها الله - لها صوت أسمهان.. لكن حياتها العائلية شغلتها عن حياتها الفنية.. وكان تخلفها عن حضور التسجيل الأخير.. سببه مجرد خلاف عادى فى وجهات النظر مع زوجها.. أدى بطبيعة الحال.. إلي شرخ فى عظام ساقها وورم فى شفتها!

واقترب كمال من حافة الجنون.. لم يعد فى مقدوره أن يسيطر على أعصابه. وبرز عبدالحليم..

أنا حافظ اللحن!

وسمع الأستاذ حافظ عبدالوهاب.. الشريط مرة .. وأخرى فأحس بخطئه.. حين قال له مرة "كويس".. وكأنها أمر بالسكوت.. أحس أن كل دقيقة "سكوت" فى عمر هذا الفتى.. خسارة فنية!!

وجرى يحمل الأشرطة.. إلي الأستاذ محمد عبدالوهاب.. وسمع.. وقال:

- أشوفه!

وجلس إليه..

وسمعه.. عاد.. وزاد والفتى الرقيق يغرد:

حياتى أنت ماليش غيرك

وفايتنى لمين

حرمت روحى وحبيتك

وبقى لى سنين!

ترى.. كما يكون حظه مع هذا الموسيقار.. الذكى إلى حد الخبث.. إلي حد الدهاء.. الحريص إلى درجة البخل.. البخيل إلي درجة التقتير.. سبقه فى نفس الطريق.. محمد أمين، وجلال حرب.. وكان نصيبهما الفشل.. والنجاح يحتاج للذكاء.. والحظ.. والموهبة.. والدراسة.. ترى هل دبر لهم عبدالوهاب طريق الفشل.. ليبعد عن نفسه عناء المنافسة. أو أنهما سارا إليه.. بإمكانياتهما الذاتية!

ترى هل يأخذك هذا الموسيقار الخبيث فى حضنه لأنه يحبك.. أو ليمنعك من الانطلاق.. الله أعلم!!

وصفق له عبدالوهاب.. وقال له.. ما تقطعش الزيارات.. مر علىّ فى المكتب فى أوقات فراغك..

ولكنه لم يكن لديه وقت فراغ.. ملأ وقته كله بالعمل.. بدأ يعد له كمال الطويل.. لحنه الثانى.. ليغنيه "دويتو" مع الفنانة الكبيرة سعاد مكاوى.. والعجيب أن كمال قد وضع بنفسه كلمات الأغنية:

أنا والا أنت .. من فينا..

ياجميل جدد.. أمانينا ..

وكان هناك شخص ما.. تخين .. ظريف.. رسام.. صحفى.. شاعر.. ممثل.. تلميذ.. مطرب.. وربما تاجر وترزى.. يبحث عنه اسمه صلاح جاهين.. كان قد كتب أغنية.. وقال له الأصدقاء.. إن أحسن من يغنيها واحد اسمه عبدالحليم شبانة.. وداخ حتى عثر عليه وقفشه .. قال له:

- إنت عبدالحليم!

وبينا.. ركبا ترام!

وعزمه صلاح على التذكرة.. إلى بيت سليمان جميل.. الذى فرح بلقاء عبدالحليم.. وبسرعة جلس إلى البيانو ليحكى قصة جاهين.

كلمنى.. ياللى صوتك بيدوبنى

من أسايا.. ومن بكايا.. ومن أنينى

كلمنى تسعدنى!

ونطق عبدالحليم بكلمة لها نغمة كان قد سمعها من قبل:

- كويس!

نطقها.. ولم يعثرا له على أثر!!

زاغ. من صلاح جاهين.. ليبحث عن صلاح عبدالصبور وكان اللقاء .. على ألحان الطويل.

عاشق الاضواء لا تخشى احتراقا

وأنا أعشق الحب إعشاقا

أنا كالعصفور خفقا وانطلاقا

وهو عشى كلما ازددت اشتياقا

وذهب إلى الخزينة..

فرفضوا تسليمه أجره.. ظهرت مشكلة المشاكل أما عبدالحليم فقد وقفت شهرة أخيه إسماعيل عقبة فى طريقه.. كان إسماعيل شبانة.. قد اعتمد مطربا فى الإذاعة.. وعرفوه وحفظوه صم، وكانت أوراق الصرف إذا ما جاء عليها اسم عبدالحليم شبانة.. ظنها الموظفون.. مجرد غلطة قلم.. فيتولون إصلاحها، حتى الصحافة .. كانت تكتب اسم إسماعيل.. فى برامجها على أغانى عبدالحليم..

وكان لابد وأن يوضع فاصل.. وأن تتحدد معالم كل منهما بعيدا عن الآخر.. لابد أن توضع فوارق صناعية.. إنها ضرورة.

وجلس كمال الطويل على مكتبه.. فظهر له خاطر غريب!

تغيير اسم عبدالحليم شبانة!

مجرد عملية تغيير جلد.. لمواجهة المناخ الجديد.. إن موضة الاسم الفنى لا تدخل فى نظام "الشياكة" وأناقة الحروف.. ولكنها ترجع إلى أصول موسيقية.. تهدف إلى سهولة النطق والالتصاق بالمخ.. فبعض الأسماء التى ليس لها رنين.. تنزلق من الذاكرة وتتعثر على اللسان وبعضها يشبط فى المخ.. ولا يطلع بمزيكة حسب الله.. والأسماء - عادة - تلك على الحالة الاجتماعية والبيئة.. والثقافة.. والديانة والعنوان - أى والله - أنت مثلا إذا سمعت اسم "ميرفت" أو "صافيناز" تتوقع عادة أنها من الزمالك أو مصر الجديدة أو الدقى.. وخضرة وفرحانة وحلاوتهم أسماء فلاحى.. وعدلات وجملات وشربات.. أسماء بولاق وروض الفرج.. بل إن الأسماء نفسها تدلك على المستوى الثقافى.. فأنا أراهنك - بمليون جنيه - لو وجدت طبيبا أو مهندسا.. قد سمى ابنه "حبشى".

وكانت الأسماء فى مصر قد مرت بفترة تعطى للأبناء الاعتزاز بالأجداد والاقارب بل والزعماء أو الأنبياء.. ففى سنة 19 كانت أغلب الأسماء لمواليد تلك الفترة: سعدا.. ومنذ الثورة انتشر اسم "جمال".. والاسم الشائع فى أمريكا هو "جورج" تكريما "لجورج واشنطن" الذى قاد جيشا من الجياع ليخلق به أغنى بلاد الدنيا.. وفى فرنسا ينتشر اسم "جون" وفى انجلترا اسم "مارى".. وكل بلاد المسلمين يحتل اسم "محمد" نصف عدد أوراق دفاتر تليفوناتها!

ولكن التغيير الاشتراكى والتطلع العصرى.. وارتفاع مستوى التذوق الفنى.. قضى على بعض الأسماء كمخيمر، وباتعة.. و.. بل وجعلت شخصا يسكن فى القللى - صدق أو لا تصدق - يسمى ابنه "سوزى"!

وإذا وضعت راقصات مصر كلهن - تقريبا - تحت المنظار.. وفحصت شهادات الميلاد - بصرف النظر عن موضوع التاريخ - ستجد أنهن قد قمن بعملية استبدال فنى للاسم.. والغرض منه طبعا. موسيقى.. واخفاء للحالة الاجتماعية والثقافية للوالد.. ولأن هذا التبديل يتيح لهن فيما بعد فرصة الإدلاء بأحاديث صحفية تؤكد تخرجهم من "الميرددييه" و"الليسيه" و"البون باستير".. وأنهن قد احترفن الرقص حبا فى الفن - ليس إلا - وبعد منازعات ومناقشات طويلة دارت فى مجلس العائلة اشترك فيها "أونكل" و"تانت" و"تيتا".. وأنها أصرت ورقصت غصب عن عين "دادى".

إن الأسماء هى الشىء الوحيد الذى يصنعه الآخرون.. لنملكه نحن.. فيكون لها دلالة واضحة.. وعلامة صريحة.. والتبديل.. والتغيير أو حتى تلك الرتوش التى نضعها على أسمائنا.. معناها تضليل وتبرؤ من الأصل..

ولهذا رفض عبدالحليم وعلا صوته أمام فكرة كمال:

- أنا عبدالحليم شبانة.. ابن الحلوات.. والزقازيق.. والشرقية، ابن فلاح وناسى غلابة.. تعلمت فى كتاب.. ونزلت مصر فى قطار درجة ثالثة.. ليس فى جيبى غير أجرته!

- تعرف لكن اسمك ثقيل.. صعب.. يضرك أكثر مما يخدمك!

- احتفظ به.. وأحافظ عليه.. ليس كل الفنانين أسماؤهم رنانة.. محمد عبدالوهاب نفسه اسمه غير موسيقى!

- ولكن لماذا تختار الطريق الصعب!

- الطريق الصعب .. اختبار حقيقى للموهبة.

- أنا شخصيا أعتز باسمى ولن أتخلى عنه. أنت مثلا ترفض أن يكون اسمك كمال القصير!

- لا .. طبعا!!

- خلاص .. وأنا مثلك .. لم ترض لى ما لاترضاه علي نفسك..

ولن أكون أبدا عبدالحليم برعى أو عبدالحليم بيومى!

- مصلحتك .. ومستقبلك..

- ولو!

ودخل حافظ عبدالوهاب يستكشف سر الضوضاء.. وسألهم:

- عملتم محضر فى القسم والا لسه!

- شوف يا أستاذ حافظ.. وحكى له كمال الطويل كل المشكلة.. من طأطأ.. لسلام عليكم.. وابتسم حافظ عبدالوهاب، وأعد فى ذهنه محاضرة قصيرة بدأها قائلاً:

- اسمع ياعبدالحليم يابنى..

فقاطعه الطويل صارخ:

- ابنك؟.. خلاص

يبقى اسمه .. عبدالحليم "حافظ"!!

    Dr.Radwa
    Egypt Air