السبت 23 نوفمبر 2024

لا تلوموا الرئيس على سياسة المصارحة الاقتصادية!

  • 8-2-2017 | 11:20

طباعة

 

منذ سنوات ونحن نلح فى المطالبة بالتزام من يديرون شئون البلاد بأقصى قدر من الشفافية والمصارحة معنا، خاصة فيما يتعلق بأوضاعنا الاقتصادية الصعبة، وعندما استجاب الرئيس السيسى لمطلبنا وفعل ذلك وجدنا بيننا من لا يروق له ذلك بل ويستنكره ويلوم الرئيس عليه، بل استخدم هؤلاء بعض ما قاله الرئيس، وتحديدا وصفه للدولة بأنها (شبه دولة) وبأنها (دولة فقيرة)!

ولكن ذلك لم يجعل الرئيس السيسى يراجع سياسة المصارحة التى ألزم بها نفسه حول الأوضاع الاقتصادية منذ أن أعلن عن عزمه الترشح لانتخابات الرئاسة وقبل أن يتولى مسئولية رئاسة الجمهورية.. ولعل ذلك يرجع إلى أن الرئيس مقتنع بأننا نواجه مشكلة اقتصادية حادة بداية العلاج الناجع لها إدراكنا جميعا بحجم وحدة هذه المشكلة أو الأزمة، وبالتالى استعدادنا لتحمل مرارة العلاج الذى يحتاج لصبر ووقت.. وهذا الإدراك لن يتحقق إلا بسياسة المكاشفة والمصارحة التامة مع عموم الناس.. أما المداراة والإخفاء واللجوء إلى التهوين من حدة هذه المشكلة والأزمة، فإنه يؤدى إلى تأجيل العلاج أو التراخى فى تنفيذه، وبالتالى إلى زيادة حدة هذه المشكلة.

لقد تولى الرئيس السيسى مسئولية رئاسة الجمهورية ومعدل الناتج القومى قد انخفض إلى أدنى مستوى له منذ سنوات فى مصر.. حيث سجل أقل من ٢٪ مقابل أكثر من ٧٪ فى عام٢٠٠٨، وحتى عندما انخفض بعد الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وقتها لم يتراجع عن ٥٪.. وانعكس ذلك بالسلب على كل أوضاعنا ومؤشراتنا الاقتصادية.. حيث تآكلت احتياطياتنا من النقد الأجنبى لدى البنك المركزى إلى نحو الثلث، وكان يمكن أن يكون الانخفاض أكبر لولا مسارعة عدد من الدول العربية لتقديم ودائع من النقد الأجنبى للبنك المركزى المصرى.. بالتالى بدأنا نعانى من شح فى النقد الأجنبى بعد تراجع مواردنا منه خاصة من السياحة الأجنبية والصادرات للخارج، ناهيك عن الاستثمارات الأجنبية وصاحب ذلك زيادة فى وارداتنا من الخارج لنعوض نقص الإنتاج.. وترتب على ذلك زيادة فى عجز الميزان التجارى وميزان المدفوعات الذى كان يحقق فائضا قبل ستة أعوام مضت.. ونتيجة لانخفاض إنتاجنا أخذ العجز فى الموازنة العامة يتزايد سنة بعد أخرى حتى تجاوز نسبة حرجة (١٣٪) وهى نسبة تفوق نسبة العجز التى كانت تعانيها ميزانية اليونان عندما ألمت بها أزمة اقتصادية حادة واعتبرها أشقاؤها الأوربيون أنها أزمة خطيرة.. وهذا العجز فى الموازنة ترتب عليه زيادة مستمرة لا تتوقف فى التضخم الذى يؤدى إلى تآكل فى الدخول الحقيقية، وكان السبب المباشر للمطالبة بزيادة الأجور والمرتبات على مدى السنوات السابقة، وهى الزيادات التى أدت بدورها، فى ظل انخفاض الإنتاج وتراجع معدل النمو الاقتصادى، إلى مزيد فى عجز الموازنة ليدخل الاقتصاد المصرى فى دائرة خبيثة تحاصر المصريين تتمثل فى تضخم مستمر وضغوط معيشية على الأغلب الأعم من المصريين، وتتمثل أيضًا فى زيادة الديون الحكومية والمحلية التى تجاوزت كل الناتج القومى، والخارجية أيضًا، لحاجتنا الشديدة لموارد من النقد الأجنبى فى ظل الشح الذى نعانى منه.. باختصار لقد وصلنا إلى حال شديد الصعوبة.. حيث ننفق أكثر من مواردنا ونستهلك أكثر مما ننتج أى «نمد أرجلنا أطول من لحافنا»! ونضطر لأن نمد أيدينا بحثا عمن يساعدنا بالموارد الأجنبية.

وهذا وضع لا يمكن السكوت عليه أو القبول به ليس فقط لأنه يمس بشكل مباشر حياة الناس، وإنما لأنه يؤدى إلى أن نفقد استقلالنا ويجعلنا عرضة للضغوط والهيمنة الأجنبية، وغير قادرين على مقاومتها أو رفضها.. وقد جربنا بالفعل كيف حينما اختلفنا مع الأشقاء فى السعودية تجاه بعض القضايا والأمور لجأوا إلى وقف تنفيذ اتفاق تجارى أبرمناه معهم يقضى بمدنا بكميات من المنتجات البترولية التى نحتاجها بتسهيلات فى السداد، فى وقت حرج وصعب لنا يعلمون به، حيث كنا نتأهب لتعويم الجنيه ونحتاج لضمان احتياطيات مناسبة من النقد الأجنبى يحتفظ بها البنك المركزى.. ورغم ما سمعناه مؤخرا من كلام طيب وإشادات بعودة مصر مجددا إلا أن شركة أرامكو السعودية لم تستأنف تنفيذ هذا الاتفاق التجارى بل ولم تخطرنا عن عزمها استكماله مستقبلا.

ولعل هذا هو ما دفع الرئيس السيسى إلى انتهاج سياسة المصارحة بلا حدود وبجرأة بخصوص الوضع الاقتصادى مع المصريين حتى ولو كانت مؤلمة لهم، رغم أنه بالنسبة للحرب التى نخوضها ضد الإرهاب حرص فى البداية على عدم إثارة فزع المصريين، حينما اكتفى من قبل وهو يتولى مسئولية القيادة العامة للقوات المسلحة ووزارة الدفاع بأن يطلب نزول المواطنين إلى الشوارع يوم ٢٦ يوليو ٢٠١٣ لتكليفه بمواجهة العنف المحتمل، وهو ما عرضه لانتقادات يفتقد بعض أصحابها البصيرة والبعض الآخر يعرف ولكنه متعمد، حينما قيل للرئيس: لقد فوضناك ومع ذلك مازال الإرهاب مستمرًا ولم يتوقف، غير عابئين بأن الحرب مع الإرهاب طويلة ومريرة وتشمل الكثير من التضحيات.. وهذا ما جعل الرئيس السيسى يصارح الشعب بذلك أكثر من مرة حول ذلك، خاصة أن هذا الإرهاب الذى نحاربه هو الأكثر وحشية من أى إرهاب آخر سبق أن واجهناه، والأكثر قدرة تنظيمية ومالية وتكنولوجية.. والذى يلقى دعما إقليميًا وعالميا، بينما تكاد تواجهه مصر منفردة دون تعاون من جهات وحكومات عديدة.

والمصارحة الكاملة بلا حدود مع المواطنين بخصوص الوضع الاقتصادى ضرورية ومهمة.. والرئيس السيسى ليس وحده الذى يفعل ذلك.. قادة كثيرون فعلوا ذلك قبله وبعده أيضًا.. ومؤخرًا شاهدنا ذلك بجلاء حينما صارح قادة اليونان شعبهم بصعوبة الأوضاع الاقتصادية لبلادهم وأيضًا بصعوبة العلاج الضرورى لها واللازم للتخلص من أزمة اقتصادية حادة والرئيس الأمريكى الجديد ترامب فعل ذلك أيضًا.. ولعلنا مازلنا نتذكر كيف تحدث باستفاضة وهو مرشح كيف أن أمريكا تعانى اقتصاديا بشدة.. فالاستثمارات تراجعت والمستثمرون هجروها.. والواردات من الخارج أغرقتها.. والإنتاج انخفض.. وحالة الطرق فيها تدهورت.. والسكك الحديدية والكبارى وكل البنية الأساسية ساءت أحوالها.. وبعد أن صار رئيسا استمر فى سياسة المصارحة بلا حدود حول الأوضاع الاقتصادية الأمريكية التى وصفها بأنها حرجة، وهو ما جعل بعض الأمريكيين يلومونه لأنه اعتبر أمريكا اقتصاديا دولة من دول العالم الثالث وليست صاحبة أكبر اقتصاد فى العالم كله.

وهكذا.. لا ينفرد الرئيس السيسى بالمصارحة التى ينتهجها حول الوضع الاقتصادى للبلاد مع المصريين.. وإنما هو يفعل ما فعله قادة من قبله وما يفعله قادة آخرون بعده.. فإن الأوجاع والأمراض الاقتصادية لا ينفع معها المواربة أو عدم المصارحة والمكاشفة وإلا تفاقمت هذه الأمراض وزادت حدتها أكثر وأكثر وربما - لا قدر الله -استعصت على العلاج.. بل إن هذا العلاج يحتاج أساسا لهذه المصارحة والمكاشفة التامة وإلا لم يتقبله عموم الناس، خاصة أن كل علاج له آثاره الجانبية.. والآثار الجانبية تحديدا لعلاج أية مواجع أو أمراض اقتصادية تمس حياة المواطنين ودخولهم ومستوى معيشتهم.. وإذا كانت حرب الإرهاب لا غنى فيها عن التضحيات، فإن مواجهة الأزمات الاقتصادية تحتاج أيضًا للتضحيات.. وكلما زادت حدة هذه الأزمات زادت التضحيات.. ولعلنا عموم الناس قبلت.. - حتى ولو على مضض- الإجراءات الاقتصادية القاسية التى اتخذتها الحكومة بدءا من الضريبة المضافة وتخفيض دعم الطاقة وتعويم الجنيه، لأنه تمت مصارحتها قبلها بالأوضاع الاقتصادية الحرجة والمتأزمة التى صرنا نعيشها، والتى كانت تزداد سوءا سنة بعد أخرى خلال السنوات الأخيرة.

وإذا كنا نطالب الحكم بالتزام المصارحة والمكاشفة مع المواطنين فكيف نلومه إذا فعل ذلك؟! يمكن فقط أن نطالبه بمزيد من هذه المصارحة والمكاشفة فى تفاصيل الوضع الاقتصادى وتفاصيل إجراءات العلاج.. ويمكن أيضًا أن ننتقده لعدم اتخاذ كل الاحتياطيات الضرورية والمناسبة للتخفيف عن المواطنين الآثار الجانبية لما يتخذ من إجراءات اقتصادية لعلاج أزمتنا الاقتصادية أو للتأخر فى مواجهة الاحتكارات التى تسيطر على أسواقنا وتلهب معدل التضخم الذى يلتهم الدخول الحقيقية للمواطنين، ويزيد من آلام الأغلب الأعم منهم، أصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة.. ولكن ليس مستساغًا أن نلومه لأنه يصارحنا ويكاشفنا بمتاعبنا الاقتصادية حتى ولو كان الرئيس يستخدم أحيانا أوصافًا لأوضاعنا يعتبرها البعض صادمة كما وصفنا أخيرا بأننا فقراء.

أما انتفاض البعض ليؤكد أننا لسنا فقراء وأننا أغنياء لأننا لدينا موارد وثروات طبيعية ضخمة ومتنوعة فهذا لا يعدو كونه فذلكة سياسة لأن استخراج هذه الموارد أو استعلالها يحتاج لموارد مالية، ومواردنا المالية محدودة بالنسبة لطموحاتنا وهذا ما كان الرئيس يقصده وهو يصفنا بالفقراء..

يمكننا أن نتناول كما نشاء السياسات الاقتصادية بالنقد.. ويمكننا أن نختلف حول نوعية العلاج لأمراضنا الاقتصادية.. ويمكننا أن نطالب بحماية أكبر للفقراء وأصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة وأصحاب المعاشات.. فهذا ضرورى لترشيد أدائنا الاقتصادى وتقليل تضحياتنا الاقتصادية.. ولكن لا يصح أن نلوم من يصارحنا بأوجاعنا الاقتصادية.. «ويبخت من بكانى ولم يبكى الناس عليا»، كما يقول أجدادنا!

 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة