إذا أرَدْتَ أن تنالَ النَّظَرَ الإِلَهِيَّ، والرَّحْمَةَ، والرِّضَا، والحَفَاوَةَ، والكَرَامَةَ، والعَطَايَا، والمَغْفِرَةَ، فَعَلَيْكَ أَن تُحَقِّقَ ذَلِكَ فِي الوُجُودِ عَمَلًا وَإِقْبَالًا وَطَلَبًا لَهَا، لا سِيّمَا في مَوَاسم الخَيْرِ
إننا إذا افترضنا أن إنسانًا يريدُ أن يُقِيمَ بناء (((دون خريطة بناء))) فسنجِدُه يَبني حائطًا هنا وحائطًا هناك ... وهكذا، ثم نَجِدُه يضَعُ سَقْفًا على ما قَام بِبِنَائِه... ثم بَدَا له بعد ذلك أنه يريدُ عَمَلَ نافذةٍ في أحد جوانب هذه الحوائط .. ماذا سيفعل؟؟؟؟
ستجده يُخَرِّبُ في بنائه ليصنع النافذة ... ثم بَدَا له بعد ذلك أن يصنعَ أمرًا آخر في أحد جوانب الحوائط ... فستجده أيضًا يُخَرِّبُ في بنائه .... وهكذا فكلما بَدَا له أمرٌ جديد فإنه لكي يقومَ به سيُخَرِّبُ في بنائِه حتى يصلَ الأمرُ إلى عدمِ الاعتدال وعدم الاستقامة، ويصابُ البناءُ بالخَلَلِ والفساد؛ مما يؤدي إلى سُرْعَة هدمه ونَقْضِه وعدم الاستفادة منه .
معنى ذلك أن أيَّ بناءٍ حتى يكونَ بناءً مستقيمًا معتدلًا ليس به عَطَبٌ ولا إفْسَادٌ ولا خَلَلٌ، وحتى يَعِيشَ فترةً زمنيَّةً طويلةً على قدر متَانَتِه ورَصَانَتِه وقُوَّتِه، وحتى تستشرفَ به مستقبلًا يعود عليك بالخير والنفع والراحة والسعادة والرِّضا .... لا بد وأن يسبِقَه (((خريطة البناء ))).
وليس هناك ما هو أفضل من البِنَاءِ الأُخْرَوِيِّ واستحضار اللّحظة النهائية التي سيقف فيها كلُّ إنسان منَّا أمام ربّه سبحانه وتعالى، الأمر الذي يجب معه أن تكونَ هناك خريطةُ بناء للاستثمار في الدنيا ونَيْلِ أعظم الأرباح في الآخرة؛ لأنها تكون من الله (عز وجل)، وهذا يتحقق بحُسْن ضيافة الأعمار والأنفاس، فالعاقل الفَطِن هو الذي يُدرك قيمةَ وقَدْرَ الأيامِ والليالي التي تمر عليه، ومن حسن تصرف الإنسان أن يُدْرِكَ أنه عبارةٌ عن زمن، وأن رأسَ مالِه هو زَمَنُه وحَيَاتُه وأَنفَاسُه، فينبغي أن يُنفِقَ أنفاسَه التي هي رأسُ مالِه فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، وليعلم أنَّ عُمرَه ضَيْفٌ عليه، فَلْيُحْسِن في ضِيَافَتِه.
- فعلى قدر كرامة الضيف، على قدر ما يكون الإكرام له.
- وعلى قدر مكانة الضيف ومنزلته، على قدر ما تكون الضيافة له.
- وعلى قدر سُمُوّ ومَعَزّة الضيف، على قدر ما يكون الحرص عليه.
- فهل هناك ما هو أعزّ وأكرم على الإنسان من حياته ؟؟؟ من عمره ؟؟؟ من أنفاسه ؟؟
إذن فليحسن الإنسان ضيافةَ عمرِه بالحرص عليه وتوجيهه لكلِّ ما يُرْضِي الله (عز وجل)؛ حتى ينصرف العُمر وهو يثني على صاحبه لا يذمه، يقول الحسن البصري (رحمه الله ) : (نَهَارُك ضَيْفُك فَأَحْسِنْ إلَيْهِ فَإِنَّك إنْ أَحْسَنْت إلَيْهِ ارْتَحَلَ بِحَمْدِك، وَإِنْ أَسَأْت إلَيْهِ ارْتَحَلَ بِذَمِّك، وَكَذَلِكَ لَيْلُك) ([1]) .
وليستحضر كلُّ إنسانٍ مِنَّا دَوَائِرَ ثلاثة (الأمس واليوم والغد)، فأما الأمس فقد مرّ وذهب بما فيه ... وأما الغد فقد لا يدركه الإنسان منا ... وأما اليوم فهو لَك .. فاعمل فيه وأحسن ضيافته ([2]). فهي تجارة رابحة لمن أراد أن يجعل عمره استثماريًّا لا استهلاكيًّا . فاغتنموا أعمَارََكم بمزيد توجيهٍ للقلوب وللأنفاس لكل ما يُقرّبنا من الله (عز وجل) ويورثنا الرِّضا، الذي يكون طريقَنا إلى نيلِ أعظم نعيم في الجنة، وهو لذّة النَّظَر إلى وجهه الكريم إن شاء الله.
وإذا كنا في هذا الزمان الشريف (شهر رمضان)، فإنَّ من أوجب الواجبات ألا تَغِب عَنَّا لحظة منه؛ لما أودع الله فيه من الإكرامِ والرَّحْمَةِ والمَغْفِرَةِ والرِّضْوَان والعِتْقِ مِن النَّيرَان، وأن نستثمرَه خيرَ استثمارٍ وأفْضَله، بالإقبال على الله (عز وجل) بأنواع الطاعات والعبادات المختلفة؛ لنكون أهًلا لأن نَنَالَ الخَيْرَ الوّفِيرَ الذي أعدّه الله (عز وجل) فيه لعباده المُقْبلين عليه ، والمستثمرين لفضله، والراغبين في عطائه .
فإذا أرَدْتَ أن تنالَ النظر َالإلهي، والرحمة، والرضا، والحفاوة، والكرامة، والعطايا، والمغفرة ، وسائر ما أودعه (الله (عز وجل) في شهر رمضان، فعليك أن تحقّق ذلك في الوجود عملًا وإقبالًا وطلبًا لها، وهذا يكون بحسن استثمار هذا الزمان الشريف (شهر رمضان)، والعمل فيه مع طلب التوفيق من الله (عز وجل)، بمعنى أن تُحَوِّلَ (الوجود الذهني) إلى (الوجود العملي) ، فتُحَوِّل تفكيرَك في الثوابِ، وتقديرَك للخير، وتصورَك للرحمة الإلهية، ورجاءَك في المغفرة، إلى عملٍ تستحق به ذلك، والأدوات والآليات التي تستطيع من خلالها تنفيذ ذلك، هي طاقاتك وقدراتك وإمكاناتك ومواهبك التي وهبها الله لك، مع حسن استثمار للزمان والمكان.
فالإنسان مثلًا وبلا شكٍّ يريد الخيرَ والثَّوَابَ الوفير (هذه فكرة في الذهن) ، ولكي يحققها لا بد من العمل في الواقع؛ ولذلك قيل : (أول الفكرة آخر العمل، وآخر العمل أول الفكرة).
ومثاله: أن المهندسَ الذي يرفع مساحةَ قطعةِ الأرض تمهيدًا لبنائها وإقامة بيتٍ عليها، فهو أولًا يُمَثِّلُ في نَفْسِه صُورَةَ البيت، أي أنه يستدعي صورةً للبيت في ذِهنه من حيث مساحتِه، والرَّسمِ الهندسِيِّ له، وعددِ طوابقه، وتوزيع غُرَفِه، والآلات المستخدمة لتحقيق ذلك ... الخ، فيحصل بذلك تقديرٌ وتصورٌ كامل لهذا البيت الذي يريد بناءه (هذا كله ما زال فكرًا في الذهن) ، وهو على الحقيقة أول العمل، ثم إنَّ آخِرَ ما يوجد في الواقع هو البيت وفق التصور السابق في الذهن ، فالبيت كان أوَّلَ الأشياء تَصَوُّرًا وتقديرًا في الذهن، وآخرها وجودًا وكائنًا في الواقع .
إذن فإن أيَّ عَمَلٍ له وجودان: وجودٌ في الذهن (تصور وتقدير واستدعاء)، ووجودٌ خارج الذهن في الواقع( أدوات وآليات مستخدمة لتفعيل تصورات وتقديرات الذهن) ، والوجود الذهني سبب الوجود الخارجي، فهو سابق لا محالة.
فَحَقِّقْ الخيرَ لك بترجمة معاني الخير إلى حقائق واقعية.
حَقِّقْ الثَوَابَ الوَفِيرَ من الله (عز وجل) بترجمة تعالميه (الأوامر والنواهي) واستقبال مواسم الخير الذي جعل فيها الثوابَ الوفير.
حَقِّقْ بناءَك لما ترجوه بأن يُعَدَّ لك في الجنة بألا تجعل حاجزًا بينك وبين الله (عز وجل)، أو أن تجعل أحدًا يصدّك عنه سبحانه وتعالى؛ لتأتِيَ كُلُّ تصرّفَاتِك على الوجه الذي يُرضيه جلّ وعلا، وتصنع به جمالًا في الدنيا؛ لينتظرَك الجمالُ في الآخرة.
حَقِّقْ حُسْنَ خاتِمَتِكَ بنفسك ، فحُسن الخاتمة (نتيجة وغاية) لا بد لها من مقدمات (أدوات وآليات ووسائل) تُوصِلُ إليها ....
والله سبحانه وتعالى أعطى كلَّ إنسان منَّا في الدنيا بعضَ القدرات أو الطاقات أو المواهب ، منَّا مَنْ أعطاه الله مثلًا : طَلَاقةً في اللسان ، أو علمًا ، أو مالًا، أو سدادًا في الفكر ، أو كلمةً مسموعة بين الناس ، أو جاهًا، أو حِلمًا ، أو قوةً في القلم ، أو قوةً في العضل ، أو نفوذًا .... الخ .
فكل هذه المواهب مع غيرها أدوات وآليات ووسائل توصل إلى الغاية (حسن الخاتمة) ، فينبغي أن يًوَظِّفَهَا صاحِبُها للآخرة، فينال بها حُسْنَ الخاتمة إن شاء الله تعالى ، وأقوى دليل على ذلك قوله تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ }([3]) .
فاجعلوا كلَّ عطاءٍ إِلَهِيٍّ لكم مُسْتَخْدَمًا في طاعة الله (عز وجل) وما يُرْضِيه ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ) ([4]) .
إذن فلا بد من خريطةِ بناء يُحَقِّقُ الإنسان من خلالها بناءً مستقيمًا رصينًا قويًّا في الدنيا والآخرة.
إن خريطة البناء الرصينة هي سبيل صناعة الخير والجمال في الدنيا، وطريق رئيس لاستشراف مستقبل أخروي ماتع.
فاصنعوا خريطة بناء لاستثمار هذا الزمان الشريف ؛ لتستقبلوا النفحات والرحمات والروحانيات المودعة فيه .
اجعلوا جوارِحَكم منشغلةً بالإقبال على الله (عز وجل) ، صيامًا وقيامًا وذكرًا وتلاوةً للقرآن وصلةً وبِرًّا وجودًا ....الخ.
هذِّبُوا أنفُسَكم على الفضيلة وارتفعوا بها فيه عن الرذيلة ، فإن من أراد أن يَسْمُو في أدب النفس ، ويرتفِعَ بها في معارج الأخلاق ، ويرقى في مدارج التزكية لها عن كل ما هو مذموم فليستثمر هذا الزمان الشريف بصياغة النفس وفق المراد الإلهي ؛ فإن النفس هي محل الإلهام من العبد ، والله (عز وجل) يقول: ] $ygyJolù;r'sù $yduqègéú $yg1uqø)s?ur [ ([5]) ، أي أن الله تعالى كما يقول الشعراني : (ألهم النَّفْسَ فُجُورَهَا لِتَجْتَنِبَه وتَعْلَمِه ، لا لِتَعْمَلَ به ، وألْهَمَهَا تَقْوَاها لِتَعْمَلَ به وتَعلَمه، فهو إلهام وإعلام ، لا كما يظنه من لا علم له بالحقائق ، ولذلك قال تعالى : ] ôs%ur z>%s{ `tB $yg9¢y [ ([6]) ) ([7]) .
إن شهر رمضان هو ميدانٌ لتنافس الصالحين بأعمالهم ، ومجالٌ لتسابق المحسنين بإحسانهم ، نسأل الله أن نكون في زمرة الصالحين المحسنين .
([1])أدب الدنيا والدين، لأبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، طبعة 1986م، دار مكتبة الحياة: ص (111).
([2])انظر (بتصرف): كتاب الزهد الكبير، لأبي بكر البيهقي، تحقيق: عامر أحمد حيدر، طـ3، 1996م، مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت: : ص (235)
([3])سورة القصص : الآية رقم (77).
([4])أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار/بَابُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْلِحِ الأَنْصَارَ، وَالمُهَاجِرَةَ»، حديث رقم (3795).
([5])سورة الشمس : آية رقم (8) .
([6])سورة الشمس : آية رقم (10) .
([7])اليواقيت والجواهر : (2/344) .