"صَفحَةُ البَرقِ أَومَضَت فى الغَمامِ.. أَم شِهابٌ يَشُقُّ جَوفَ الظَلامِ
أَم سَليلُ البُخارِ طارَ إلى القَصِد.. فَأَعيا سَوابِقَ الأَوهامِ
مَرَّ كَاللَمحِ لَم تَكَد تَقِفُ العَينُ.. عَلى ظِلِّ جِرمِهِ المُتَرامى".
فى هذا "الوابور" أخذنا كتاب "قطار النيل.. الإنسان والآلة"، فى رحلة سردية بديعة نحو الذاكرة والزمان والمكان، لنتعرف فى جولتنا ونحن نتنقل من عربة إلى أخرى برفقه مؤلفه الكاتب الصحفى محمود الدسوقى، على شكل القطارات القديمة، ونستشعر علاقتها بالإنسان، والقوانين التى اعتمدت عليها السكة الحديد فى مصر، وكذلك نتعرف على شكل القاطرات الأولى فى العالم، ونضال المصريين فى تأسيس هذا المرفق العام.
صدر الكتاب فى طبعته الأولى عن دار "ميتابوك" للنشر والتوزيع، فى 221 صفحة متوسطة القطع، لكنها ثرية فى حجم المعلومات الواردة فى طياتها، بداية من ظهور أول للقاطرة عام 1781، فى الفصل الذى عنونه الكاتب "الجن يحرك الآلة.. قطار مردوك وقضبان ولى النعم"، عندما ظهرت القاطرة البخارية الأولى فى العالم وهى قاطرة مردوك، وقد استعملت فى إنجلترا، ليتنافس بعدها المخترعون فى اختراع القاطرة والقضبان المختلفة حتى اتسع نطاق السكة الحديد بإنجلترا، ففى عام 1824 أنشئت سكة حديد "دبلن كنجستون"، وتلتها أمريكا وفرنسا وألمانيا وغيرها، حتى غزت تلك السكك الحديدية باقى الدول، وتم إنشاء أول سكة حديدية فى مصر وأفريقيا وفى الشرق الأوسط عام 1852، إلى أن انتشرت بعدها فى العالم أجمع.
فى حين يسرد الكاتب فى الفصل الثانى حكاية أول فراش فى قطار عباس الأول.. النبوءة والعم رشوان، الذى ولد عام 1806م، ليلتحق بالعمل فراشًا فى قطار الخديوى عباس الأول، ويكون من أوائل المصريين الذين عملوا بهذه المهنة، منذ أن انطلقت الشرارة الأولى للعمل فى إنشاء أول خط حديدى فى مصر فى عهد عباس الأول، والتى بدأت فى سبتمبر من عام 1851م، ليفتتح فى غضون ثلاث سنوات الجزء الأول من الخط بين الإسكندرية وكفر العيس، وهى بلدة مواجهة لكفر الزيات، ثم تم مد الخطوط من القاهرة إلى طنطا، وفى عام 1856 تم تسيير أول قاطرة، صنعتها شركة ستيفنسون البريطانية التى صنعت قاطرات بريطانيا.
كانت من مهمات رشوان إبراهيم أن يقوم فقط فى العمل على القطار البخارى، الذى كان يعمل بالفحم، وأن يعمل باتزان وهو يقوم بالتحرك فى القطار الذى كان دائم الاهتزاز وهو يقطع المسافات فى مصر، وأن يعرف كيف يُعامل الأمراء والضيوف وكذلك القناصل.
وظن المصريون وقتها أن القطار إحدى المعجزات، وبعض الناس فى الأقاليم كانوا يقوموا بالتكبير، والنساء تطلق الزغاريد أثناء مرور القطار، وبعضهم قام بنحر الذبائح وإقامة مآدب الطعام، التى وزعت فيها أصناف التبغ.
ويكمل المبدع "محمود الدسوقى" حكاية "وابور سعيد الحزين" التى تضمنت أول حادثة للقطار عندما أقام سعيد باشا وليمة كبيرة بالإسكندرية، دعا إليها جميع أمراء الأسرة، بمن فيهم ولى العهد رفعت باشا، وبعد انتهاء الوليمة عاد رفعت باشا وبصحبته الأمير عبد الحليم بن محمد على وبعض رجال الحاشية بقطار خاص إلى القاهرة، وتصادف عند وصول القطار إلى كوبرى كفر الزيات أن الكوبرى كان مفتوحاً لمرور السفن، فسقط القطار فى النيل وغرق كل من فيه.
وبعد تلك الحادثة يأخذنا الكاتب نحو فصل آخر بعنوان "القطارات الخديوية أيام إسماعيل"، فتميز عصر الخديوى إسماعيل بــ"قطار الخديوى" وهو عبارة عن قاطرات بنيت فى مصانع ستيفنسون وكانت مزينة بنقوش كثيرة واستمرت القطارات الخديوية تعمل حتى عام 1887، عندما أعيد بناؤها لاستعمالها فى الأشغال العادية فقط.
بينما لم يغفل الكتاب قصص الشعراء والأدباء مع "الوابورات" فهناك فصل بعنوان "قطار حافظ إبراهيم وسيارة أحمد شوقى"، ففيه شاهد شاعر النيل مولد القطارات البخارية فى مصر، وله مواقف معها، فلقد بلغ حب الشاعر حافظ إبراهيم للقطار أن دون قصيدة شهيرة له، كما استأجر قطارا خاصا من القاهرة حتى حلوان، وكان مسموحا باستئجار القطار وقتها.
كتاب "قطار النيل" ملىء بالحكايات التى ترصد تاريخ "الوابور"، منها تاريخ تذكرة السفر، والقطارات السلحفاة التى كانت تحتاج 25 ساعة للوصول إلى أسوان، مرورا بحكاية القطار الذى اقتحم منزل بائع تذاكر سينما، إلى أن نصل فى نهاية الكتاب إلى حكاية سليم بك أبادير مؤرخ القاطرات والوابورات، فمذكراته التى ألقاها فى جمعية المهندسين الملكية عام 1920، بها الكثير عن مشاهداته لعوالم السكة الحديد وحوادث القطارات الغريبة، التى كان شاهد عيان عليها فى عدد من أقاليم مصر، منها حادثة دخول قطار بركابه فى الرمال بين منطقتى البصيلى والرشيدى، بسبب زيادة سرعة القطار عن السرعة المقررة لها، فحدث كسر بأحد أربطة السكك الحديدية وخرجت القاطرة عن الشريط، كما سرد حادثة أبى النمرس سنة 1905، وغيرها الكثير من الحوادث والقصص.
فى الحقيقة الكتاب مفيد للغاية سواء للقارئ العادى أو للمتخصص والأكاديمى لما فيه من بيانات وقصص موثقة من مصادر كثيرة، اعتمد عليها المؤلف مثل مجلة السكة الحديد ودليل المتحف وقوانين الوقائع، بالإضافة لأرشيف الصحف.
هذا الكتاب- كما يقول مؤلفه فى المقدمة- لا يبحث عن تاريخ الوابور فقط، إنما يبحث عن الوابور داخل الإنسان وحكاية الإنسان معه، من قطارات الخشب والفحم حتى قطارات الديزل، عن أرواح السابقين المجهولين، وعن نضال المصريين فى جعله مرفقا مصريا خالصا، لذا أخذته ببتع زمنى، ولأنى أوقن فى قرارة نفسى أنه فاتنى الكثير، لذا جعلت التوقيت الزمنى قاصرا ومكثفا- "1856-1945" - لعلى فى يوم من الأيام اطمح فى بناء سلسلة تتناول القطار المصرى وعالمه المجهول فى الوثائق وأرشيف الصحف، خاصة بعد ما يشهده المرفق حاليا من تطورات حديثة وإنجازات كبيرة من قبل الدولة المصرية.
والمتابع لتقارير وتحقيقات زميلنا الصحفى محمود الدسوقى، فى بوابة الأهرام، يتأكد أنه معنى تماما برصد الفلكلور والمورثات الشعبية، ومهتم كثيرا بفكرة توعية القارئ بالتاريخ والجغرافيا، والبحث فى خبايا الأحداث المجهولة، مستغلا ما لديه من أرشيف كبير من الصحف والمجلات القديمة.