الأربعاء 26 يونيو 2024

تشو دا شين في «المبنى 21»: الطيران تمرد ورغبة في تغيير الواقع

تشو دا شين في المبنى 21 : الطيران تمرد ورغبة في تغيير الواقع

ثقافة26-4-2022 | 20:00

محمد الحمامصي

الحلم بالطيران رغبة دفينة تطارد الإنسان منذ فجر التاريخ وفي مختلف الأزمنة والحضارات الإنسانية شرقًا وغربًا، وأحداث هذه الرواية "المبنى 21" للأديب الصيني تشو دا شين، تشتبك مع تلك الرغبة وهذا الحلم بالطيران، الطيران نحو مستقبل مختلف بلا قيود أو عوائق. 

تصاحب الرواية مقدمتان إحدهما للمترجم الدكتور محمد أنور الشيخ أستاذ اللغة الصينية بكلية الألسن بجامعة المنيا، والأخرى للمؤلف، في مقدمته يشير الشيخ إلى أن الإنسان منذ القدم ينتابه شعور بالرغبة في الطيران والتحليق عاليًا في السماء تقليدًا للطيور، والحقيقة أن هذا نابع من الفطرة التي جُبِل الإنسان عليها، فهو دائمًا يدرك معنى الحرية ولا يستطيع أنْ يحيا من دونها، فالحرية للإنسان مثل الماء والهواء فكما أن الإنسان لا يستطيع العيش دونهما، فكذلك لا يستطيع أنْ يحيا من دون الحرية. وقد أظهرت الاكتشافات الأثرية الحديثة وجود رسوم ونقوش على جدران بعض المعابد تثبت بالدليل القاطع تقديس الإنسان للطيور منذ القدم وعبادته لها في بعض الحضارات القديمة في مختلف أرجاء المعمورة.

ويلفت إلى أنه في الحضارة المصرية، كان المصري القديم يُطلق على الروح اسم "با"، وكان يعلم أنَّها القوة المحرِّكة داخل الجسد، وبعد وفاة الشخص تتحول تلك الروح عند الحساب إلى هيئة طائر له رأس آدمي؛ وذلك لاعتقاده أنَّ الروح بعد أنْ تخرج من الجسد تتحرَّر وسرعان ما تحلِّق إلى عالم السماء، ولكي تذهب إلى هذا العالم فلا بدَّ لها من أنْ تكون على هيئة طائر، فهي روح حرَّة يمكنها التشكُّل في هيئة أحد الطيور المقدَّسة كالصقر وغيره، كما كانت هناك بعض الشعوب التي تعبد الطيور وتنظر إليها على أنَّها آلهة أو رسل الآلهة، وذلك بسبب قدرتها على الطيران والتحليق عاليًا في الفضاء الرحب الفسيح، ومن هنا تولَّدت في أعماق قلب كل شخص منَّا الرغبة في التحليق بعيدًا عن الأرض، بعيدًا عن الحياة الواقعية التي يحياها، بعيدًا عن الألم والمتاعب؛ رغبة في التّمرُّد ورفض هذا الواقع، فنَفْسُ الإنسانِ طُلَعَةٌ بطبيعتها إلى التغيير، وتَأْنَفُ بدورها الملل والرَّتابة.

وتدور أحداث الرواية التي صدرت عن دار العربي للنشر حول شابٍّ طموح، أنهى فترة الخدمة العسكرية، وأخذ يتطلع إلى المستقبل لبناء حياته العمليَّة الخاصة؛ لذا فقد أراد أنْ يحلِّق في سماء العمل في مدينة بكين المزدحمة بالمباني والناس على حدٍّ سواء، وساقه القدر إلى العمل حارس أمن داخل المبنى 21 والذي أراد له مصممه أنْ يكون شكله والمباني اللاحقة له على هيئة طائر، وتتوالى أحداث الرواية المثيرة والمشوِّقة لتصادف بطلُنا شخصيات متنوعة ذات أيدلوجيات فكرية مختلفة في كل طابق عَمِلَ به من طوابق هذا المبنى الثمانية والخمسين، وعندما يشعر الشخص بحالة من التمرُّد والرغبة في تغيير الواقع الذي يحياه، تتولَّد لديه رغبة ملحَّة في تحطيم القفص الذي يكبِّل حركته بالقيود، ويمنعه من التحليق بعيدًا عن هذا الواقع، وكأنَّ هذا المبنى هو القفص الذي سُجِنَ فيه بإرادته طواعية، والطائر المحبوس في ذلك القفص هو الشخص المتمرِّد على واقعه، وكأنَّ هذا الواقع يخاطبه ويحثُّه على التحليق، قائلًا له: حَلِّقْ... حَلِّقْ... أَلَا تُحَلِّقْ. 

كاتب الرواية تشو دا شين والذي ولد عام 1952 فى مدينة “جين دو” بمقاطعة “هنان” بالصين، وانضم عام 1988 لاتحاد الكتَّاب الصينين، وأصبح فى عام 1999 رئيس أكاديمية “هنان” للأدب، كما فاز عام 1979 بجائزة أفضل قصة قصيرة، وجائزة “فنغ مو” وجائزة “لاو شه” للآداب. أوضح في مقدمته العديد من التفاصيل، يقول: مرَّت ستة وثلاثون عامًا في لمح البصر منذ نشرتُ الرواية الأولى تحت عنوان: "الرسالة القادمة من الجبهة" في جريدة "جينان" اليوميَّة. وعندما أنظر إلى الوراء الآن، أدركُ أنني في عام 1979 كنتُ مُبالِغًا في قدراتي الشخصية، واعتقدت أنَّ حياتي وإبداعاتي ستسير في ريح مواتية، واعتقدتُ أنَّه يمكنني تنظيم الكثير من الوقت غير المحدود، كما اعتقدتُ أنَّ هناك سعادةً لا حدَّ لها تنتظرني في مكان ليس ببعيد سأقطفها قريبًا بنفسي، وفي عام 2015 أدركت أنَّ رَبَّ السماء لم يكن مستعدًّا لمنحي تلك السعادة، وكانت الهديَّة التي منحني إيَّاها ربُّ السماء هي السماح لي بكتابة مجموعة من النصوص إلى جانب سلسلة من النكسات والمصائب الواحدة تلو الأخرى، والآن أُرتِّب معظم هذه النصوص وأضعها داخل هذه المجموعة من المؤلفات.
ويكشف أن رواية "المبنى 1" تشكل جزءًا كبيرًا داخل هذه المؤلفات، وهي الأفضل بالنسبة لي، وعندما كنت صغيرًا للغاية، تولَّد بداخلي حبي لها، فعندما كنت في المرحلة الابتدائية العليا بدأت في قراءة الروايات، وعندما أصبحتُ في المرحلة الإعداديَّة كنت مفتونًا للغاية بمطالعة الروايات، وعندما أصبحت في المرحلة الثانوية حاولت كتابة الروايات، وعندما صرتُ جنديًّا أحببتها والتصقت بها التصاق الغراء، وعندما لم أَعُدْ بحاجة إلى القلق بشأن الأكل وارتداء الملابس، بدأتُ أتعلَّم كتابة الروايات بشكل رسمي. 

ويعترف تشو دا شين، قائلًا: "من المؤسف أنَّه بسبب انشغالي لعشرات السنين، وضعف مهاراتي، لم أتمكّن من جعل رواياتي تبدو في حلَّة أكثر جمالًا، كما لم أتمكَّن من أنْ أجعلها تبدو أكثر سحرًا وتأثيرًا داخل عالم الرواية، لذلك أشعر بالأسف وتتملكني رغبة في الاعتذار الشديد نحوها".

إن النثر جزءٌ هام داخل المؤلفات، وإذا كانت الرواية بمنزلة الحبيبة، فإنَّ النثر يعد بمنزلة الصديق المُقرَّب، وعندما يكون لديَّ ما أريد أنْ أقوله، ولا أستطيع أنْ أقوله داخل الرواية، أكتبه نثرًا، وعندما أكتب النثر أشعر بأنني أدردش مع صديقي المُقرَّب دردشة طويلة، وتصبح الكلمات لا حدود لها، كما أشعر بأنني حر طليق في غاية السعادة، فمحتوى الرواية من نسج الخيال، ونادرًا ما تكون الأشخاص والأحداث بداخلها حقيقية، لكن الأشخاص والأحداث داخل أعمالي النثرية حقيقية بما في ذلك المشاعر التي أعبِّر عنها؛ لأنَّها حقيقية وذات قيمة.

والنثر أسلوب أدبي أقدم من الرواية، ثم إنَّه ليس من الصعب الإبداع في هذا النوع الأدبي، لذلك يجب عليَّ الاستمرار في العمل بجد واجتهاد". 

ويشير تشو دا شين إلى أن سيناريوهات الأفلام تحتلُّ مكانة بين مؤلفاته، ويتابع "إذا شبَّهتُ تشبيهًا آخر، فإن سيناريوهات الأفلام هي ابنة الخالة أو ابنة العمة المفضلة بالنسبة لي، فقد فُتِنْتُ بالأفلام في سن مبكرة للغاية، وكنتُ أحيانًا لكي أشاهد فيلمًا سينمائيًّا في قريتنا، لا أتردد في أنْ أركض مسافة أكثر من عشرة أميال، وفي الحقيقة تعلَّمت كتابة سيناريوهات الأفلام في وقت مبكر عن الرواية، بعد انتهاء "الثورة الثقافية" في عام 1976، وبدأت أطالع بشكل جنونيٍّ سيناريوهات الأفلام وتعلُّم كتابتها، ويا للأسف كانت سيناريوهات الأفلام تمثِّل نسبة ضئيلة للغاية في تلك السنوات، لقد فشلتُ، إنني أعتقدُ دائمًا أنَّ القيمة الأدبية لسيناريوهات الأفلام عالية، ويُمكننا مطالعة سيناريوهات الأفلام على أنَّها أعمال أدبية رسمية، ويمكننا تعلُّم شيء منها". 

ويختم تشو دا شين "لا أعلم كم من الوقت سيسمح لي ربُّ السماء بالعيش مرَّة أخرى، ربَّما يتولَّد الخوف من مرور الوقت في قلب كل شخص في مثل عمري، ولحسن الحظ اقترح مؤخرًا "د.برادفورد سكو" من معهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية نظرية جديدة مفادُها: "الوقت لا يتدفق مثل الماء، فكل شيء في الوقت موجود دائمًا، وإذا نظرنا إلى الكون، نرى أنَّ الوقت يمتدُّ في كل الاتجاهات، كما نرى السماء في الوقت الحالي".

أمدَّني هذا بالطمأنينة، لكنني أشعر حقًّا أنَّ جسدي يذبل يومًا بعد يوم، وأنَّ الوقت محدود للغاية لتحريك القلم وكتابة بعض الأشياء، لذلك يجب عليَّ أنْ أغتنم الوقت وأحاول كتابة بعض الأعمال اللائقة، لأمنحها لأصدقائي القرَّاء الذين يحبونني منذ فترة طويلة". 

 
مقتطف من الرواية


طار اليَّمام فجأة مذعورًا؛ بسبب ذلك الكلب الموجود داخل البيت، والذي أوقع إناءً فَخَّاريًّا مملوءًا بالصلصة كانت أمي قد عرَّضتْها للشمس، وما أتذكَّره الآن، هو أنَّه حين خرجتُ من المطبخ أحمل بين يديَّ قِدْر المكرونة الذي وضعته أمي فوق الموقد بعد أن انتهت من طهوه، سمعت صوت رَفْرفة ثلاث يمامات طارت من أعْشاشها أعلى شجرة "الدردار" في وسط الفناء نحو السماء.

حملت القدر بين يديَّ رافعًا رأسي أنظر إليها وهي تُحلِّق بحرية نحو مكان بعيد، ظللتُ أنظر إليها حتى غابت بين السحب؛ فأنا أحبُّ الطيور منذ الصغر، وفي طفولتي دائمًا ما كنت أخاطر بالتَّعرُّض للضرب على مؤخرتي من أبي وأمي، والسبب هو تسلق الأشجار والعبث بأعشاش الطيور؛ رغبة منِّي في الإمساك بإحداها، وفي كثير من المرات كانت الطيور تطير مذعورة، وأحيانًا كنت أنجحُ في القبض على إحداها، ووضعها داخل قفص ومشاهدته وهو يقفز من ناحية لأخرى. 


لكنني كنت أرغب بشدة في رؤيتها وهي تُرفْرف، وفي بعض الأحيان كنت أقوم بفتح القفص، لأرى سعادتها وهي تطير نحو السماء، وفي تلك اللحظة التي طارت فيها اليمامات الثلاث قررت مغادرة البيت مرَّة أخرى، فهل شكل اليمامات وهي تُحلق نحو السماء بحريَّة هو ما جذب انتباهي؟ 
عندما كنت صغيرًا، حلمت أنْ أحلِّق مثل الطيور، خاصة بعد شعور الملل الذي كان يتملَّكُنِي من اللعب مع رفاقي، وكنت أتمنَّى التحليق مثل الطيور؛ رغبة في تحاشي مُلاحقتهم إياي، فمن الجيد أنْ أكون قادرًا على الطيران، سأطير دائمًا نحو السُّحب البيضاء أختبئ بينها، فلا يُمكنني البقاء هنا مُحاصَرًا وسط المنزل القديم بين النهر الصغير جانب القرية والحقول خارج القرية، لا بدَّ من الرحيل مرَّة أخرى إلى مكان بعيد.

في تلك الليلة حلمت أنني أطير، وأحلِّق فوق وادٍ عميق، وفوق غابة خضراء داكنة، وفوق بحيرة شاسعة، وفوق حقل كبير مليء بالذرة الصفراء، وغِبتُ بعدها وسط سحابة بيضاء.
بعد ثلاثة أيام فقط، بدأت قدماي تجوب شوارع بكين، شوارعها حقًّا طويلة، عندما علمت والدتي أنني ذاهب للعمل في مدينة بكين، مسحت دموعها قائلة لي قبل أن أغادر المنزل:
 - ستغادر مرَّة أخرى، ولم يَمْضِ على عودتك من فترة التجنيد سوى بضعة أيام، ولم تنعم قدماك بعد بالراحة، ألم تعد تشعر بالراحة في هذا البيت؟
 فرَمَقَها أبي بنظرة مؤنبة، وكان على وشك السعال لكنه منع نفسه منه، وقال:
 - دَعِيهِ يطير، فكل الطيور تُحلِّق بعد أنْ تكبَر، وحين يتعب من الطيران، سيعود حتمًا مرَّة أخرى.
تذكرت أننِّي حينها قلتُ:
 - سأطير هذه المرة، وربما لن أعود مرَّة ثانية.
تبعها أبي بنظرة مؤنبة، قائلًا:
- دَعْكَ من هذا الهراء، إلى أيِّ مكان يمكنك الطيران؟
ضحكت قائلًا:
- السماء.
واليوم، حين أنظر إلى الماضي، أشعرُ بأنّنِي لم أكُنْ مُوَفَّقًا حين تفوَّهتُ بهذه الجملة. 
عندما كنت أسيرُ في شوارع بكين الكبرى، كنت أرى أحيانًا طائرًا يطير فوق أحد شوارعها، وعلى الرغم من أنني لم أتمكن من تمييز نوع هذا الطائر، فإنَّه جعلني أشعر بحالة جيدة:
 - أنا أيضًا مثلك، أستطيع أنْ أحلِّق بحرِّيَّة.
 ربَّما كان هذا انطلاقًا من عشقي للطيور، وعندما رأيت المبنى 21، شعرت بأنَّ تصميمه يشبه الطائر المُحلِّق، فتسمَّرَتْ قدماي من تلقاء نفسها، ورفعت رأسى أُحَمْلِقُ فيه للحظة، ثم تابعت طريقي. 
إنَّهُ حقًّا مثل طائر ضخم يطير في السماء، إذ تشبه المباني الواقعة على جانبَيْه إلى حد كبير جناحَيْ الطائر، والمبنى الرئيسي المرتفع المُزَيَّنُ بالبورسلين الفضيِّ يشبه إلى حد كبير رقبة الطائر، وتلك المباني اللاحقة الواقعة خلفه، هي جسم الطائر، وتلك الكلمات "المبنى الحادي والعشرون" الضخمة المُزَيَّنَةُ بمصابيح النيون أعلى المبنى، شديدة الشَّبَهِ بجبهة الطائر، وتلك النوافذ المظلمة التي لا حصر لها، تشبه الخطوط الموجودة فوق جسده، وهوائيُّ التلفاز الذي يطاول عنان السماء أعلى سقف المبنى، يبدو وكأنّه ريشة في رأس الطائر، ويعطي المبنى بأكمله انطباعًا بأنَّه سوف ينفض جناحَيْهِ ليُحلِّق في السماء في أيِّ وقت.