إن لب أي عمل فنى أيا كان نوعه وشكله ومحتواه هو ما يقوله عن الحياة، ولعل الدراما التاريخية هي أحد أكثر الأنواع الدرامية إثارة للجدل بين النقاد والمتلقين من حيث صلتها بمسألة المسافة بين التخيل والواقع، وهل الرواية أو السينما أو التليفزيون كأنواع سردية حكائية يمكن اعتبارها أحد مصادر التاريخ واعتبارها أحد أشكال التوثيق، أم أنها في الأول والآخر عمل فنى قاعدته الأساسية الخيال؟ والسؤال الذى يتجدد دوما عندما يقدم عمل درامي يتعرض لوقائع حقيقية أو حقبة تاريخية بعينها، هل تغيير الأحداث وتحريكها يعد حق أصيل للكاتب أم أن عليه الالتزام بمصداقية الأحداث والشخوص والوقائع حرفيا؟ ولو كان الخيال مسموح به في العمل الفني، فلأى مدى يمكن للكاتب التحرك في هذا الخيال؟ وما
الذى عليه أن يراعيه المبدع في حال التصدي للتاريخ؟
ولعل السؤال الأهم هنا، لماذا نلجأ للتاريخ في الفن؟ وهو ما يعتبر لب الأمر وأصل القضية.
يذكر روبرت مكى في كتابه فن القصة: "أن صندوق التاريخ مكتوب عليه عبارة تحذيرية مهمة لكتاب القصة والدراما... تذكر أنك تستدعى التاريخ من أجل الحاضر"
وهو ما يعكس كون استدعاء التاريخ في الفن له أسباب موضوعية قبل أن تكون جمالية، فوظيفة التاريخ بالنسبة للبشر هي الدروس المستفادة والعبر..
وبلا شك هناك عدة أسباب يمكن حصرها جليا في تقديم الأعمال التاريخية بالنسبة للأمم بشكل عام، أهمها الفخار والدعاية لبلد أو لقومية بعينها فتستدعى هذه البلدان الانتصارات والأحداث الوطنية الكبرى التي مرت بها في استعراض واضح للقوة والسيطرة، وربما يصبح هذا حتميا في بعض حقب الضعف التي تمر بها بعض الشعوب فيشكل استعادة التاريخ مصدرا مهما لبث روح الصمود والتحدى من خلال المآثر القديمة، وقد يكون استدعاء التاريخ رغبة في التصالح مع جراح الماضى كما حدث في العديد من الأفلام التي أنتجت في بلدان متعددة بعد الحرب العالمية الثانية وبالأخص أمريكا والتي ظلت جريمة ضربها لنجازاكى وهيروشيما بالقنبلة الذرية عارا يلاحقها في تاريخ الإنسانية برغم خروجها منتصرة من الحرب وتحولها لقوة وحيدة تحكم العالم بعد انتهاء الحرب ولسنوات طويلة، إلا أن هذا لم يمح عارها وجريمتها ضد الإنسانية، فخرجت علينا بأفلام مثل (الخيط الأحمر الرفيع) و(غير المنهزم) و(رجل السكة الحديدية) وغيرهم لتبييض وجهها أمام العالم وإعلان رغبتها في التطهر، وقدمت روسيا أيضا أفلاما في هذا الصدد مثل (العائدون من أفغانستان) وربيع براغ وغيرهما في محاولات واضحة لرتق صدع الإنسانية والتصالح معها والدفاع الضمنى عن تورطهم في سحق مئات الآلاف من البشر، والإقرار بحقيقة أن أفضل ما في الحرب هي أن تنتهى وأنها أسوأ نشاط مارسته البشرية منذ أن طور الإنسان أدواته على الأرض وشيد بها حضارته التي رفعته فوق باقى الكائنات الحية، وحتى لو لم يتعلم السياسيون الدروس وظلوا يكررون خطاياهم، فإن الفن هو ضمير الإنسانية الحى واليقظ بشكل دائم.
وقد يكون اللجوء للتاريخ في الفن تماما كاللجوء للأساطير والملاحم فى فترات سياسية يحدث فيها تضييق وحصار على الإبداع والمبدعين فيسحب الفن التاريخ على الإبداع ليحدث إسقاطا ما بدون صدام واضح مع السلطات الحاكمة، وفي حماية واضحة للحركات الفكرية الساخطة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعيبة، وقد يصل اللجوء للتاريخ والأسطورة لحد التعمية والهروب التام من المواجهات مع الحاضر كما يوضح أرنست فيشر في كتابه الشهير ضرورة الفن، إن هذا اللجوء يلجأ له البعض حتى يتجنبوا اتخاذ مواقف إزاء المسائل الاجتماعية والسياسية الجوهرية، فهم يحولون الأوضاع والظواهر الاجتماعية والتناقضات الواقعية في هذا العصر إلى شيء بعيد عن الواقع، غير مرتبط بزمان، وهو يلمح هنا إلى اللجوء إلى الأساطير الغير محددة الزمن أو التاريخ البعيد زمنيا للهروب من المجتمع.
ولقد مرت السينما المصرية بمراحل عدة منذ دخولها مصر كاختراع فى فبراير 1896 وميلادها كعمل وطنى مثل سائر البلدان العربية وحتى نهايات فترات تكونها ونضجها بإنشاء استديو مصر عام 1935 مرورا بالحقب التاريخية بعد فترات التكوين الأولى والتي أثرت في السينما والموضوعات التي قدمها السينمائيون الأوائل بها.
حيث قدمت الشركة الإيطالية السينوغرافية عامي 1917 ، 1918 ثلاثة أفلام اقتبست جميعها من ألف ليلة وليلة، إحدى منتوجات التاريخ الشعبى الخلاق للثقافة العربية، بيد أن الجمهور المصرى أعرض عنها ورفضها رفضا لسبب بسيط وعميق في ذات الوقت، لأن الأبطال وصناع الأفلام كانوا أغلبهم من الأجانب، في رد فعل شعبى واضح مقاوم للاستعمار بكل أشكاله، وقد أدى هذا الحراك الشعبى الوطنى إلى اندلاع ثورة 1919 ثم بزوغ المشروع الوطنى لطلعت حرب الاقتصادى المصرى الكبير، والذى كان شعاره "ابن بلدك أولى بقرشك"، ونشوء أول بنك وطنى برؤوس أموال وطنية خالصة وهو بنك مصر.. لتتأجج بعدها المشاعر الوطنية وتتبلور الهوية المصرية، وبالرغم من هذا الموار الواضح على أرض الواقع، ظلت السينما بعيدة عن هذا الحراك الشعبى الحى، ومنسلخة عن جذورها وتاريخها نتيجة لوقوعها في أيدى المستثمرين الأجانب في فترة الأربعينيات وتأثر مصر بالحرب العالمية الثانية كبلد تابع وموال وقتها للإنجليز.
وعلى الرغم من هذا الوضع المتدنى ظهرت بعض الأفلام التي استدعت التاريخ كاستجابة مباشرة وإن كانت حذرة للحراك الوطنى على الأرض أهمها فيلم "لاشين" عام 1938 إخراج فريتز كامب، وفيلم "مصطفى كامل" من إخراج أحمد بدرخان1951 وهو أول فيلم يستدعى شخصية وطنية تاريخية ويضعها في موضع البطولة في السينما آنذاك، ثم بعد قيام ثورة يوليو يأتي الفيلم الأشهر "الناصر صلاح الدين" 1963 إخراج يوسف شاهين، والذى جاء في إطار دعم المشروع الناصرى إزاء القومية العربية ولم الشمل العربى تجاه القوى الاستعمارية الكبرى، بعد عام واحد من فيلم واإسلاماه 1962 إخراج أندرو مورتون المصرى الإيطالى المشترك، في إطار الحفز الوطنى والقومى لاسترداد روح البطولة للشخصية العربية.
لتخفت هذه النوعية التاريخية البطولية من الأفلام إثر هزيمة 1967 لتبدأ السينما بعد انتصار 1973 في إنتاج عدد من الأفلام عن حرب أكتوبر المجيدة، مثل الرصاصة لا تزال في جيبى إخراج حسام الدين مصطفى 1974، وأبناء الصمت إخراج محمد راضى 1974، وفيلم بدور إخراج نادر جلال 1974، والعمر لحظة إخراج مخمد راضى 1978، وأغنية على الممر إخراج على عبد الخالق 1972، وإعدام ميت إخراج على عبدالخالق 1985 وغيرهم.
وليدخل وقتها أيضا التليفزيون فى مرحلة ناضجة من إنتاجه الفني بأفلام مهمة مثل حكايات الغريب 1992 والطريق إلى إيلات 1993 إخراج إنعام محمد على وعيون الصقر 1992 إخراج إبراهيم الموجى، وغيرهم.
ولعل المساحة الزمنية للدراما التليفزيونية وسهولة وصولها للأسرة المصرية وتبنى الدولة في فترة الثمانينيات لإنتاج مسلسلات تاريخية ووطنية تعجز السينما المرتبطة بالمنتج الخاص المعنى في المقام الأول بدورة الربح والخسارة، دفعا بظهور عدد من الأعمال التليفزيونية الوطنية والتاريخية والدينية المهمة، والتي برغم بدائية تنفيذها تقنيا آنذاك بظروف زمنها، إلا أن العناية الشديدة بالنص الدرامى واستعانتها بعدد من الكتاب المخضرمين المثقفين مثل أمينة الصاوى ومحفوظ عبدالرحمن وعبدالسلام أمين وصالح مرسى وغيرهم، جعلت منها أعمالا أيقونية كانت ولا زالت تشكل جزءا حقيقيا وأصيلا من وجدان الشعب المصرى والعربى كافة.
وتعتبر أهم هذه الأعمال وأشهرها، هي تلك التي استمدت من أعمال الكاتب الروائى الكبير (صالح مرسى) ابن محافظة الغربية ومدينة كفر الزيات، والذى اشتهر بكتابة أعمال مرتكزة على صفحات مضيئة من المخابرات المصرية وما عرف شعبيا بأدب الجاسوسية، والذى شكلت كتاباته بلا شك أعمالا أيقونية وطنية من تاريخنا المعاصر، والتى بدأها في السينما بفيلم الصعود للهاوية عام 1978 عن الجاسوسة المصرية هبة سليم والتي جندها الموساد الإسرائيلي ضد بلدها مصر إخراج كمال الشيخ، ثم روايته الأشهر (دموع في عيون وقحة) والتي تحولت لمسلسل تليفزيونى ناجح عام 1980 إخراج يحيى العلمى والذى يحكى عن البطل المصرى الحقيقي أحمد محمد عبدالرحمن الهوان والذى جاء في المسلسل باسم جمعة الشوان، في إطار سرد إحدى العمليات السرية للمخابرات المصرية ضد الموساد الإسرائيلي، وكذلك رأفت الهجان بجزئيه الأول عام 1988 والثانى عام 1990 إخراج يحيى العلمى، وهو الاسم الذى عرف به البطل المصرى رفعت الجمال والذى كان مزروعا من قبل المخابرات المصرية في قلب إسرائيل في ستينيات القرن الماضى لتزويد مصر بالمعلومات والأسرار العسكرية للعدو الإسرائيلى.
ثم مسلسل الحفار عام 1996 إخراج وفيق وجدى، والذى يحكى عن إحدى العمليات الناجحة لجهاز المخابرات المصرية وقوات البحرية المصرية، لتفجير حفار بترول أثناء توقفه في أبيدجان عام 1968، واشترته إسرائيل لتنقب عن البترول المصرى في شبه جزيرة سيناء ونهبه.
والحق أن الأعمال التاريخية أو الوطنية المعاصرة بمجرد عرضها تستدعى بوعى وبدون وعى مقارنات ومقاربات بين أعمالنا السابقة وتحديدا ما قدمه صالح مرسى فيما يخص ملفاتنا الوطنية العسكرية والمخابراتية، وبين الأعمال الحالية على مستوى البنى السردية والتنفيذ التقنى والأداء التمثيلى.. إلخ.
لنكتشف أن الإبداع ليس تقنيا بالأساس وإنما مرهون بلا شك بالقيمة البشرية والموهبة الإنسانية، وأن التكنولوجيا الحديثة مهما بلغ تقدمها وخدمتها للإبداع لا تعوض الموهبة والكفاءة البشرية والوعى والثقافة اللازمين لأى مبدع ولاسيما الذى يتصدى لموضوعات كثيفة ومهمة كالأعمال التاريخية والوطنية.
والحق أن الجدل الذى يتجدد دوما مع أي عمل وطنى أو تاريخى يقدم للجمهور حول مساحة الخيال بجانب حقيقية ما يقدم، كان قد حسمه بجدارة هؤلاء المبدعون السابقون أمثال صالح مرسى وغيره في أعمالهم القيمة الخالدة في أذهان المتفرجين، فالمبدع لديه مساحة كبيرة للتخييل وزرع شخصيات إنسانية وربما أحداث ومواقف، جميعها تدعم الخط الأساسى في القصة والذى يحكى الحقيقة ويجسدها، بيد أن المبدع لا يمكنه التلاعب بالأحداث الكبرى الموثقة ولا بنتائجها، فضلا عن حتمية لجوءه للبحث العلمى التاريخى لاستدعاء الأماكن وإعادة بنائها بالشكل الدقيق بقدر الإمكان وهو ما ينسحب على الملابس والإكسسوار وسمت الحوار وخصائص اللغة في أي عصر فائت يتم عرضه في وقت معاصر.
وبالرغم من أن أغلب الأعمال التاريخية والوطنية المعاصرة أخذت الشكل التقليدي للبروباجندا والدعاية الوطنية لأجهزة مصر السيادية إلا أن دقة صنعها ودفء عواطفها والحرفية العالية في بنائها الدرامى، جعلها تحقق المراد الأساسى منها وهو الحفز الوطنى والفخار القومى بشكل عميق، فضلا عن كون هذه الإبداعية الواضحة لصناعها هي ما أعطتها القدرة على البقاء والخلود أمام الاختبار الحقيقى لأى عمل فنى، وهو اختبار الزمن.