الأحد 6 اكتوبر 2024

حوار حول الفقر والغنى في المال والحب والفكر

مقالات20-5-2022 | 00:21

كنت أمشي بسيارتي المتواضعة في بعض طرق القاهرة العامرة، ومعي صديقي نتجاذب أطراف الحوار، ووجدت صديقي في حالة انبهار بموديل سيارة فارهة تمر بجانبنا..

ولم ألتفت إلى انبهاره بالسيارة المجاورة فهذا طبيعي، تسعى النفس البشرية دائمًا إلى حب التملك والرفاهية، ويلمع في العين كل شيء ليس في اليد، وهذا لا يتعارض مع الإسلام في شيء بنص الآية الكريمة «ولا تنس نصيبك من الدنيا»،  شريطة أن يكون الإنسان متفهمًا لجوهر الحياة، ونسبية الغنى والفقر، فضلًا عن احتفاظه بحالة الرضا التي تبعث عليه الطمأنينة والسكينة، وتجعله يستمتع ويسعد بما يملك حتى وإن كان قليلاً.

وكان استفزازي من صديقى حول أسفه على حاله الذي وصل إلى درجة التأزم النفسي بسبب شعوره الواهم بأن كل الناس أفضل منه، وهو أقلهم حظًا وسعادة..

هم يتمرغون في النعم بينما هو يكابد الفقر والعوز!!

هم يتنعمون بالمال بينما هو مفتقر إلى سد الاحتياجات والضرورات في حياته!

فكان هذا الحوار بيني وبين صديقي: 

قال صديقي: هما دول الناس اللي عايشين ياشيخ أحمد..

قلت له: وإنت مش عايش؟!

قال صديقي: لا طبعًا، أنا لا أسكن في فيلا، ولا أمتلك أرصدة في البنوك، ولا أستطيع التنزه في أوروبا وأماكن الرفاهية في العالم، إلخ إلخ.

أنا بمشّي - بتشديد الشين- الشهر بالعافية في المصاريف

أنا: ومن قال لك أن من يمتلك الرفاهية والمال هو فقط من يعش سعيدًا؟

الفقر يا صديقي أنواع..

- فقر الحب والسعادة، وهذا لا يرتبط بالمال..

فقد يكون الإنسان ثرياً ويملك مال قارون، ولكنه صعلوك في الحب والسعادة وراحة البال..

وقد يملك قوت يومه ويعيش في كهف، ولكنه دافيء المشاعر ويتمتع بما يريد الأثرياء شراءه ويعجزون!!

إن صاحب المال يا صديقي يستطيع شراء السرير من ذهب، ولكنه لا يستطع شراء النوم العميق..

يستطيع تملّك كل الرفاهيات، ولكنه ربما يعجز عن شراء راحة البال، وحب الله، وحب الناس، ودفء عزوة العائلة والأصدقاء والإنسانية..

أما تعلم يا صديقي أن قارون خرج على قومه في زينته فخرًا وتكبرًا على الناس وجحودًا بفضل الله عليه، فقال بعض قومه مقالًا هو في مضمونه مثل ما ذكرت!! وهم لا يعلمون أنهم في الأصل أكثر حظًا من قارون..

إقرأ قصة قارون في سورة القصص والآيات واضحة المعنى لكل قاريء..

قال تعالى: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴿76﴾ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿77﴾ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿78﴾ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿79﴾ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا مَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴿80﴾ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ﴿81﴾ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿82﴾ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿83﴾. سورة القصص.

- لقد ذكر الله هذه القصة في سياق تعليم الناس القوانين الإلهية في الحياة، ومن أبرزها «أن الجحود والغرور مهلك للإنسان حتى وإن تملّك الدنيا كلها، وأن فقر الفكر وفقر الحب أقسى بكثير من فقر المال»..

وختمها بقوله «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».

فالمعادلة ياصديقي لا تقوم على المال!! إنما تقوم على التقوى والعمل الصالح..

قد يكون الغنى صالحًا وهذا حسن، وقد رغّب الإسلام الناس في السعي لدرجة الاغتناء بالحلال، فقال عليه الصلاة والسلام  «نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح»، وقد يكون العكس.

وقد يكون الفقير طاغية يكابد الفقر وفي نفس الوقت يفسد في الأرض!! وقد يكون العكس.

أما تعلم يا صديقي أن سيدنا عمر بن الخطاب دخل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده نائمًا على حصير وقد أثّر الحصير في جسده الشريف، فبكى عمر شفقة على النبي وقال: «يا رسول الله، كسرى وقيصر يتنعمون في الحرير والحلل وأنت تنام على حصير؟».

فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم ابتسامة من يعرف الحقيقة، وقال: «يا عمر لهم الدنيا ولنا الآخرة».

يعني لا تفصل الحياة في الدنيا عن الحياة في الآخرة، هما كتاب واحد، الدنيا فيه عدة صفحات، وبقيته سنعيشه بين يدى الله سبحانه وتعالى.

وللأسف فهم بعض أصحاب التدين المشوه أن الحديث يرمي إلى الخصومة مع الغنى، أو الاستزادة من العمل وتحسين حياة الإنسان المالية!!!.

وهذا منافٍ تمامًا لمقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مقصود رسول الله، هو أن كل فردًا له ظروفه وقدره، ينبغي أن يعيش برضا وسلام وصلاح.

وهذا يعني أن فقر المال هو أهون أنواع الفقر يا صديقي.

وأشد أنواع الفقر هو فقر الحب الذي يعيش صاحبه في الحياة بأزمات نفسية بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، وحتى بينه وبين نفسه !!!.

يعيش كارهًا للناس وهم له كارهون، لا يعرف معنى الحب ولا يعرف معنى الثقة.

وأشد أنواع الفقر أيضًا، فقر الإنسانية الذي يعيش فيه كثير من الناس وقد نزع الله من قلوبهم الرحمة والرأفة، وحُرموا  متعة السعادة ومتعة العطاء ومتعة الحب!!.

وقد عبّر النبى صلى الله عليه وسلم عن هذه المعاني كلها في أحاديث شريفة:

قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: «مَنْ أَصبح مِنكُمْ آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافًي في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ».

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» رواه البخاري.

قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «انْظُرُوا إِلَى منْ أَسفَل منْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هَوَ فَوقَكُم فهُوَ أَجْدرُ أَن لاَ تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَليْكُمْۚ» متفقٌ عَلَيْهِ.

قال صديقي: ياه يا شيخ أحمد، الدين جميل جدًا.

قلت: الدين جميل، والدنيا جميلة، لأن مصدرهما الله الجميل الذي يحب الجمال.

والإنسان بإمكانه إسعاد نفسه في الدنيا والآخرة، والله يريدنا كذلك.

قال تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)» سورة القصص.

اجعل هذه الآية قانونك في الحياة بينك وبين نفسك.

إن التزمت بها، رزقك الله السعادة وراحة البال في الدنيا، ورزقك الجنة في الآخرة. 

وإن فرطت في نصيبك من الدنيا، عشت فقيرًا حتى ولو تملكت مال قارون.

وإن فرطت في الإحسان، عشت في هذه الحياة بلا قلب أو ضمير!.

وعلى قدر ما كان هذا الحوار بمثابة نزع فتيل قنبلة نفسية داخل صديقي، وظهرت على وجهه علامات الرضا والأريحية، على قدر ما كنت أنا أحوج إليه من أي أحد آخر، وكأن الله رزقني بصديقي ومرور السيارة الفارهة بجانبي لأسمع صوت ضميري.

والله المستعان