يلوح الغرب بتحويل " التأمين الملاحي البحري " إلى سلاح انهاك اقتصادي جديد ، و يعول الغرب بشدة على هذا السلاح في حرب المواجهة بينه وبين وروسيا، وهى الحرب التي يهدف الغرب من ورائها تعميق اثر العقوبات الاقتصادية و المالية المفروضة من جانبه على موسكو .
وقالت مصادر في الاتحاد الأوروبي لصحيفة "الفاينانشيال تايمز" إن الاتحاد الأوروبي و بريطانيا " اتفقا على القيام بخطوات مشتركة و منسقة " لوقف إصدار بوالص التأمين الملاحي الدولية للسفن الروسية المحملة بالبترول .
وبحسب الفاينانشيال تايمز ستأتي استجابة بريطانيا لرغبة الاتحاد الأوروبي في تعميق العقوبات الاقتصادية ضد روسيا من خلال " التأمين الملاحي " لتكون ضربة جديدة لصادرات النفط الروسية ، إلا أنها في الوقت ذاته ستشكل أضرارا بمؤسسة اللويدز البريطانية العريقة التي تمتلك أكبر شبكة تأمين ملاحي عالمية منذ مئات السنين مستندة إلى الإرث التاريخي لبريطانيا التي كانت " سيدة لبحار العالم " بحكم اتساع رقعتها الاستعمارية التي كانت لا تغيب عنها الشمس .
وما بين حسابات المكاسب و حسابات الخسائر ، ستبنى لندن موقفها حيال منع إصدار بوالص التأمين على ناقلات النفط الروسية أخذة في الاعتبار مصالح مؤسسة لويدز البريطانية العريقة ، و تقول الفاينانشيال تايمز إن بريطانيا – التي انسلخت عن مظلة الاتحاد الأوروبي – تميل إلى سيناريو " تنسيق الخطوات و الإجراءات " في هذا الشأن مع تكتل الاتحاد الأوروبي وذلك بحكم كونها أكثر ميلا تجاه التوجهات الغربية و الأمريكية المتشددة إزاء روسيا .
ويقول المراقبون إن امتناع شركة اللويدز البريطانية عن إصدار بوالص التأمين الملاحي لناقلات النفط الروسية سيمنع موانئ كثيرة في العالم من استقبال شحنات النفط الروسية المنقولة بحرا، وهو ما سيترتب عليه قطعا مزيد من الضغوط على أسواق السلع الأولية الدولية وفى مقدمتها النفط الخام ومشتقاته ، وهى ضغوط ستفاقم من تداعيات المواجهة المسلحة بين روسيا و أوكرانيا على حالة التضخم في العالم و ارتفاع المحروقات وشلل شبكات الإمداد و التوريد .
وبصورة عامة يعد " حظر إصدار بوالص الـتأمين الملاحية للسفن الروسية " بمثابة جزء من حزمة إجراءات عقابية جديدة تستهدف النيل من صادرات النفط الروسية ، فقد وافق الاتحاد الأوروبي مساء الاثنين الماضي في اجتماع بمقره في بروكسل على حظر جزئي لصادرات النفط الروسية المنقولة بحرا مع استثناء المؤقت للنفط الروسي المنقول بالأنابيب حتى نهاية العام الجاري ، وفى هذا الصدد يأتي فرض الحظر على إصدار بوالص التأمين الملاحي الدولية مكملا للقرارات السابقة وهو ما يعنى اعتماده كسلاح جديد على مسرح المواجهة مع روسيا بهدف إرهاقها اقتصاديا .
ألا أنه و بحسب مصادر الفاينانشيال تايمز ، ستظل لبريطانيا في حقيقة الأمر – بفضل امتلاكها لشركة اللويدز العريقة و المتحكمة في صناعة التأمين الملاحي عالميا – القول الفصل في فعالية حزمة العقوبات الروسية الجديدة ، و قد تضطر روسيا في المقابل إلى الاعتماد على شركات تأمينية من مستويات أقل تغطى خدماتها مناطق وأسواق في العالم " أقل وزنا " واقل من حيث التأثير التأثير عن ذلك الذي تمتلكه مؤسسة اللويدز البريطانية على عمليات تأمين حركة نقل التجارة العالمية .
وترى ايروسلا فود دير لين رئيس المفوضية الأوروبية أنه إذا مضت شركات التأمين البحري لدول الاتحاد الأوروبي، وحدها في مسار فرض حظر على إصدار بوالص التأمين الملاحي للسفن الروسية ، و ظلت بريطانيا على موقفها الرافض للتطابق بصورة كاملة مع رغبة الاتحاد الأوروبي ، فإن مؤسسة اللويدز البريطانية – بحكم نفوذها العالمي في مياه العالم و أسواقة – ستكون في هذه الحالة هي الرابح الأعظم من الاستمرار في التأمين على شحنات النفط الروسية المنقولة بحرا .
كذلك فأن اليونان و قبرص قد علقا التزامهما بتنفيذ " حظر إصدار بوالص التأمين الملاحي لروسيا " على موافقة بريطانيا على ذات الأمر ، وذلك باعتبارهما بلدين يشكلان ثقلا لا يستهان به في اسواق الملاحة و حركة التجارة الدولية إلى جانب بريطانيا .
وقالت مصادر في مجموعة الدول السبع – من بينها بريطانيا – للفاينانشيال تايمز إن الاتجاه الغالب على مستوى دول المجموعة هو تفعيل سلاح " مقاطعة التأمين على السفن الروسية لمدة ستة اشهر – قابلة للزيادة – وهو ما سيشل حركة نقالات النفط الروسية في مياه العالم ، غير أن الخبراء يحذرون من تداعيات قرارات من هذا النوع على ارتفاع أسعار البترول عالميا بصورة كبيرة و يرصد بعضهم إمكانية اتجاه روسيا إلى بيع نفطها على ناقلات " دول حليفة " لا تخاطبها العقوبات مع التلاعب في شهادات " منشأ " الشحنات وهو أجراء كانت دول مثل إيران – بحسب تقرير للفاينانشيال تايمز - تلجأ إليه أحيانا للالتفاف على العقوبات الاقتصادية الدولية .
وقد أكدت روسيا – التي تعد ثالث اكبر منتج و مصدر للنفط في العالم أنها لم تعدم مشترين آخرين لنفطها الخام كالهند و تركيا و الصين إذا أحجمت الأسواق الأوروبية بفعل سياسات العقاب عن شراء النفط الروسي ، فقد شدد ميخائيل اولينوف وزير النفط الروسي و مندوبها الدائم في أوبك على أن موسكو لديها " زبائن آخرين لنفطها " و بإمكانها توسيع دائرة زبائنها لتعويض الأسواق الأوروبية .
وكان الاتحاد الأوروبي قد وافق من حيث المبدأ – وبعد مفاوضات شاقة لعدة أسابيع - مساء الاثنين الماضي على إجراء حظر جزئي على صادرات النفط الروسية المنقولة بحرا بالشاحنات وذلك بنهاية العام الجاري و استثناء النفط الروسي المنقول بالأنابيب من تلك العقوبات وهو ما يعد تصعيدا لحزمة العقاب الغربي ضد روسيا ، و يقول المراقبون إن استثناء النفط الروسي المنقول بالأنابيب من قرار الحظر استهدف في المقام الأول عدم الإضرار بالأوضاع الاقتصادية للمجر و سلوفاكيا و جمهورية التشيك بما يمنحهم فرصة كافية من الوقت لإعلان " فطامهم " عن النفط الروسي و تامين احتياطيات بديلة عنه تقطع الطريق على أنبوب – دروزبا – الروسي النفطي .
ويقول المراقبون أن اتفاق – الاثنين – في بروكسل يمهد بصورة كافية الطريق أمام القادة الأوروبيين لتفعيل حزمة العقوبات السادسة ضد روسيا و التي تتضمن إجراءات عقابية ضد بنوك و شخصيات روسية ، وبحسب الخبراء ، فأن قرار الاتحاد الأوروبي بحظر استيراد النفط الروسي المنقول بحرا يستدعى في جانبه الآخر أن يدبر الأوروبيون نحو ثلثي احتياجاتهم النفطية من مصادر بديلة عن النفط الروسي ، كما يعنى تبنى ألمانيا و بولندا للقرار الأوروبي بوقف الاعتماد على النفط الروسي القادم إليهما من أنبوب – دروزبا – بنهاية العام الجاري فقدان أوروبا لنحو 90 في المائة من احتياجاتها النفطية التي كانت تلبيها روسيا .
وتشير تقديرات الموقف الأوروبية إلى أن تصعيد حزمة العقوبات السادسة ضد روسيا ستؤثر على نسبة 75 في المائة من واردات أوروبا من النفط الروسي بصورة فورية و بنسبة 90 في المائة بنهاية العام الجاري وهو ما يؤكده تشارلز ميتشيل رئيس المجلس الأوروبي ، الذي قال أنه عند هذا الحد سيكون بالإمكان الاستغناء عن نسبة الـ 10 في المائة من إمدادات النفط الروسي القادمة إلى أوروبا عبر الأنابيب .
ومنذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير الماضي تشير تقارير " أوبك " إلى أن روسيا خسرت صادرات نفطية من إنتاجها بمعدل 3 ملايين برميل يوميا كان يضخ إلى الأسواق الأوروبية والغربية بسبب العقوبات ، وبرغم ذلك استطاعت روسيا رفع إنتاجها النفطي الخام بما يتراوح بين 200 إلى 300 ألف برميل يوميا خلال مايو الماضي متجاوزة بذلك انتكاسة إنتاجية شهدها شهر أبريل الماضي، ونافية بذلك صدق التقارير الغربية التي زعمت تعرض صناعة النفط الروسية إلى ضربة قاتلة بفعل العقوبات .
وبرغم أن الهند و الصين هما من زبائن روسيا النفطيين ، إلا أن خبراء أوبك يشككون في قدرة صناعة النفط الروسية، على فتح أسواق جديدة لها في آسيا تستوعب ٣ ملايين برميل من النفط الروسي كانت تذهب إلى الأسواق الأوروبية قبل الحظر النفطي الذي تلا اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في الرابع و العشرين من فبراير الماضي .
ومنذ اندلاع شرارة الحرب الأولي بين روسيا و أوكرانيا في فبراير الماضي شهدت أسعار النفط العالمية ارتفاعات حادة ، فعلى سبيل المثال صعدت أسعار مزيج نفوط برنت القياسي بنسبة 60 في المائة مقارنة بأسعار ما قبل الحرب الأوكرانية وهو ما أصاب أسواق السلع الأولية و الصناعة العالمية برجة عنيفة و صادمه ، واستتبع ذلك ارتفاع في أسعار المنتجات البترولية المكررة كالديزل و البنزين ووقود الطائرات .
ويقول المراقبون أن ارتفاع أسعار النفط في العالم على هذا النحو وما قد يحدث من ارتفاعات مستقبلة ،كان سببا رئيسيا في اتساع نطاق الموجة التضخمية في العالم بصورة كبيرة في الأسابيع الماضية .
ويباع خام الأورال الروسي للنفط في الأسواق العالمية بنحو 93 دولار أمريكي في الأسواق العالمية، حتى بدء سريان الحظر وذلك مقابل 120 دولار للبرميل من خام برنت .
وكان خبراء الاتحاد الأوروبي المعنيين بالطاقة قد شددوا مطلع مايو الماضي على ضرورة الوصول إلى مقترب عقابي لروسيا، يرهقها اقتصاديا و لا يكون مدمرا لقطاعات الاقتصاد الأوروبي المعتمدة على الطاقة المستوردة من روسيا ، ووفقا لتلك الرؤية استثنى القادة الأوروبيون الغاز الروسي من العقوبات حاظرين في الوقت ذاته التعامل مع الفحم الروسي ، وبرغم ذلك قطعت مؤسسة غازبروم الروسية إمداداتها النفطية عن بولندا و هولندا و بلغاريا عندما رفضت الدول الثلاثة سداد فواتيرها بالروبل الروسي .
وتشير التقارير الواردة من الداخل الروسي إلى تأثر الاقتصاد الروسي جراء الحرب الأوكرانية ، فخلال مايو الماضي بدأت الآثار التضخمية الناجمة عن الحرب في التراجع بعد أن سجل مستوى التضخم نسبة ارتفاع بلغت 8ر17 في المائة في أبريل الماضي .
كما ابدي الاقتصاد الروسي قدرة أقل على الحفاظ على معدلات التشغيل والتوظيف ،فقد تراجعت معدلات الإعلان عن الوظائف بنسبة 28 في المائة خلال أبريل الماضي مقارنة بفترة ما قبل الحرب ، و تراجعت معدلات التوظيف في قطاعات البنوك و الإدارة إلى ما بين 40 و 55 في المائة على الترتيب في أبريل الماضي مقارنة بفترة ما قبل الحرب الأوكرانية ، وفقد 44 ألف روسي وظائفهم في مطلع مارس الماضي بعد ايام من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير الماضي و ارتفع هذا الرقم إلى 138 ألف فاقد للوظيفه بحلول منتصف مايو الماضي ، وعلى صعيد حركة التجارة الداخلية في روسيا ، رصدت الفاينانشيال تايمز إغلاق ما بين 15 إلى 20 في المائة من المحال التجارية في مجمعات موسكو و أسواقها التجارية و بنسبة إغلاق مقاربة بالنسبة للمكاتب الإدارية .
ونتيجة للتضخم و تعثر حركة التجارة تعثر وصول النبيذ المستورد إلى روسيا ـ وباتت أرفف متاجر المدن الروسية الكبرى خالية منه، بعد أن كان يشكل 40 في المائة من إجمالي احتياج السوق الروسي للكحوليات المستوردة بما يعادل 370 مليون لتر في العام 2021 ، و برغم تحفظ الحكومة الروسية عن الإفصاح عن بيانات الأداء في الأسواق الروسية في فترة ما بعد الحرب ، ألا أن التقارير الغربية ترجح تراجعا لا تقل نسبته عن 10 في المائة من الناتج المحلى الإجمالي لروسيا بحلول الخريف الماضي ، و ترجح التقارير الغربية كذلك ارتفاع قد يصل إلى الضعف في معدلات البطالة بين الروسيين .