يجد الراصد والمتابع لتاريخ الأغاني الوطنية لأم كلثوم أن تأثيرها كان له شأن كبير في توحيد الصفوف، وكانت تلهب حماس الجماهير، ففيها ما يدعو إلى العمل وفيها ما يدعو للجهاد وإزكاء روح الوطنية والإنتماء عند جموع الشعب .. مع ذكرى تنحي الرئيس جمال عبد الناصر أثر نكبة يونيه نسرد التفاصيل لنظهر حقيقة دور الفن، وكيف كان داعما للوطن وقت الأزمات.
راجعين بقوة السلاح
في أول يونيه 1967 أي قبل النكسة بأربعة أيام غنت أم كلثوم "الله معك" أو "راجعين بقوة السلاح" بدار سينما قصر النيل، ومن الواضح أن كوكب الشرق كانت على علم بما يدور سياسيا، وأن مصر على مشارف حرب، لذا فقد طلبت من الشاعر الشاب صلاح جاهين أن يصيغ لها أنشودة جديدة تعبر عن التعبئة الحربية لمصر، واستعدادها لخوض حرب التحرير، وأسندت كلمات الأنشودة إلى الموسيقار رياض السنباطي ليضع لها لحنا حماسيا بديعا .
وفي ليلة الحفل كانت أنشودة"راجعين بقوة السلاح" وصلة أم كلثوم الأولى، وقدم للحفل المذيع جلال معوض، وفي كلمته سرد الكثير من المعلومات عن وحدة العرب ضد الصهاينة ومن يساندهم، وأكد أن مصر تستعد لحرب التحرير، وأن قواتنا تقف على الجبهة مع القوات العربية تحت قيادة موحدة لتدافع عن الكرامة والعزة العربية، وأكد معوض أيضا دعم الشعب للجيش المستعد للذود عن الحق المغتصب وهي أرض فلسطين.
ورغم تلك الاستعدادات الحربية المعلنة والحرب المعنوية التي بدأتها أم كلثوم في أول يونيه بأنشودتها الخالدة، فقد حدثت النكبة.
قـم .. فأنا الشعب
على أثر نكبة يونيو أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تنحيه عن الحكم في مثل هذا اليوم من 55 عاما، وكان ذلك القرار صادما للشعب المصري وجموع العرب، وكانت أم كلثوم الأكثر إنكسارا، فهي التي غنت منذ عدة أيام لترهب العدو وتلهب حماس الجيش والشعب للجهاد، لتجد لهزيمة يونيه ليلا أسودا يغطى ربوع مصر والعالم العربي .. ورغم مرارة الحدث تواصلت بسرعة شديدة مع الشاعر والكاتب الصحفي الكبير صالح جودت تطلب منه صياغة أنشودة تكون باسم شعب مصر، ويطلب فيها من الرئيس أن يعدل عن قراره، وكان ذلك في عصر يوم 9 يونيو، أي بعد ساعات من قرار تنحي الرئيس.
صاغ جودت أنشودة مذهلة في ساعات قليلة، وهي أنشودة "حبيب الشعب" والتي يقول في مطلعها " قم واسمعها من أعماقي فأنا الشعب .. ابق فأنت السد الواقي لمنى الشعب .. ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب .. أنت الخير وأنت النور .. أنت الصبر على المقدور .. أنت الناصر والمنصور .. ابق فأنت حبيب الشعب" .
أذهل صالح جودت الدنيا بتلك الكلمات المؤثرة التي كانت لسان الشعب ، ففيها لا يطلب من ناصر العدول عن القرار بل كانت أمرا من الشعب، بدأه جودت بأفعال الأمر " قـم" و"ابق" و"ارفع هامة الشعب"، ويلعب جودت على وتر الاستعطاف والاستجداء الممزوجين بالأمر، فيقول للرئيس " قـم إنا أعددنا العدة .. قـم إنا أعلنا الوحدة .. فارسم أنت طريق العودة .. وتقدم يتبعك الشعب".
قام الموسيقار السنباطي بتلحين تلك الأنشودة الخالدة في يوم واحد وهو يوم 10 يونيه 1967، لتغنيها أم كلثوم في اليوم التالي عبر الإذاعة المصرية، وتكون بمثابة مظاهرة شعبية تهز أرجاء مصر، تطالب الرئيس ناصر بالعدول عن قرار التنحي، ومن الواضح أنه كان لتلك الأنشودة أثر عظيم، فغيرت مجريات الأمور في مصر وامتثل الرئيس لنداء وأمر الشعب .. ليبدأ التخطيط لإعادة التسليح وبدء حرب الإستنزاف التي أنهكت الصهاينة وكانت أحد أهم أسباب انتصارات أكتوبر.
