ليس بغريب على مُساعد الدكتور طه حسين بالمجمع اللغوي المصري أن يكتب قصيدة كقصيدة "النهر الخالد"، فالشاعر المبدع محمود حسن إسماعيل ابن محافظة أسيوط صاحب الدواوين الشعرية المتميزة التي حفرت اسمه بحروف من نور في ذاكرة الأدب المصري ووضعته ضمن قائمة مبدعي القرن العشرين وجعلت إنتاجه الأدبي الغزير والمتفرّد محل دراسات عليا في عدد من رسائل الدكتوراة في الجامعات المصرية لتخلّد ذكرى هذا الشاعر الفذّ.
لكن تبقى قصيدة "النهر الخالد" التي كتبها بمداد الحب الذائب في مياه النيل العذبة وهي تتهادى في شموخ من جنوب مصر إلى شمالها في رحلة تتكرر منذ آلاف السنين وتشهد ما يجري من أحداث على ضفتي هذا النهر، ليس لها مثيل في كل ما كُتب عن نهر النيل منذ تحركت مياهه من منابعه متجهةً إلى المصب حتى يومنا هذا.
فكل كلمة في تلك القصيدة البديعة وجدت موضعها بين الكلمات والسطور التي تندفع كالسيل الجارف إلى حنايا الأفئدة فتسكنها معبرة عن معنى الحب والجمال والخير المحمولين بين أمواج النهر الهادرة فتترك في النفس ذلك الأثر الذي لا يتغير في كل مرة نقرأ فيها أبيات القصيدة أو نستمع إليها مغناة بصوت الموسيقار محمد عبد الوهاب وعلى ألحانه التي عبرت بشكل مدهش عن عبقرية القصيدة وعذوبتها.
فيكفي أن تستمع من بعيد للكلمات:
مسافرٌ زاده الخيالُ، والسحر والعطر والظلالُ
ظمآن والكأس في يديه والحب والفن والجمالُ
حتى ينتابك ذاك الشعور بالتحليق في سماء الخيال فوق ضفاف هذا النيل العظيم عبر الحقب التاريخية المتعاقبة التي ظل النيل عاملًا مشتركًا أعظم فيها وحتى اليوم بعد أن: شابت على أرضه الليالي، وضيعت عمرها الجبالُ
ولم يزل ينشدُ الديارَ، ويسأل الليل والنهارَ
ومع اختلاف الأزمنة وتناوب الأحداث:
الناس في حبه سكارى، هاموا على شطه الرحيبِ
فهو في نظرهم واهب الخلدِ للزمانِ، وساقي الحبِ والأغاني
كيف ولا وهو صاحب الأسرار منذ جرى في ذلك الوادي
آه على سرك الرهيبِ وموجك التائه الغريبِ يا نيل يا ساحر الغيوب
فعندما تخلو معه في جلسة تأمل مع نسيمه العليل لا يمكنك إلا أن تتغنى قائلا:
سمعت في شطك الجميلِ ما قالت الريحُ للنخيلِ
يسبّح الطيرُ أم يغني ويشرح الحبَ للخميلِ؟
وأغصنٌ تلك أم صبايا شربن من خمرة الأصيلِ؟
كما كتب شاعرنا محمود حسن إسماعيل الذي لو لم يكتب سوى هذه القصيدة لكانت تكفيه لتضعه على عرش كتابة الشعر التصويري المعبر والملهم الذي يرسم الصورة البديعة بالألوان الطبيعية المبهجة في منتهى السلاسة والجمال.
ومع ما يعتري ذلك النهر العظيم من أحداث ومحاولات لتحجيم تدفق الماء بين ضفتيه بإقامة سدود أو محاولة تغيير الواقع الذي خلقه الله عز وجل، يكفي أن نقرأ أبيات هذه القصيدة لكي تطمئن قلوبنا بأن هذا النيل به من الأسرار ما يجعله خالدا لا يتوقف عن التدفق مهما كانت المحاولات فهو النهر الخالد.