الخوف هو شعور غريزى وحالة نفسية فردية أو جماعية ناتجة عن مواجهة أو تهديد خطر حقيقي أو مُتخيَّل بدافع من غريزة البقاء ويُفضى إلى تغيير في السلوك، مثل الهروب، أو الاختباء .
والخوف عند البشر يتم التحكم فيه من خلال العقل، وقد يصاب الإنسان بنوبات من الخوف ولا يسيطر عليها فيصاب بالهلع والتوتر والزعر، وتعد هذه الظواهر ظواهر مرضية على المستوى النفسى قد تصل بالإنسان إلى الانتحار أو ارتكاب الجرائم !
وفى ظل العالم المادى الذى نعيشه، وانتشار الأمراض والحروب والأسلحة الفتاكة، تحول الخوف الفطرى إلى عملية تخويف! لدرجة أن العالم الحديث واجه مخاطر التقدم التكنولوجى والبيولوجي بمخاطر جديدة ربما تكون أكثر فتكاً بالبشرية.
وبثقافة مخاطر فى مواجهة مخاطر، يعيش الإنسان المعاصر المسكين الذى يفتقد إلى أبسط صور الأمان النفسى والاجتماعى على مستوى العالم كله .
فكلما يتم اختراع جديد فى الأسلحة الفتاكة، يتم اختراع سلاح أشد فتكاً لمواجهة تهديد السلاح الأول وهكذا.
وكثيراً ما تنتشر الفيروسات التى تفتك بالملايين، ثم يصنعون الأمصال المناسبة لهذه الفيروسات وسط جدل كبير حول خطورتها العاجلة أو الآجلة.
وقامت الشركات الكبرى ببث التخويف بين البشر لتسويق سلعها، فالتجارة العالمية قائمة فى المقام الأول على تخويف الإنسان على حياته أو أبنائه أو خصوصياته لتسويق السلعة وضمان شرائها تحت سطوة هذا الخوف.
فالتخويف هو صناعة الخوف وبثه بين الناس بهدف السيطرة عليهم أو سرقة أموالهم أو تسويق بضائع لهم.. إلخ .
وأصبحت ثقافة التخويف آلية من آليات الصراع العالمى والاجتماعى، وكذلك آلية من آليات تسويق السلع والإقبال عليها بشراهة حتى يرضى سماسرة وتجار الإنسانية .
ورجوعاً إلى مجتمعنا المصرى، فقد صُدمنا جميعاً عند سماع جريمة قتل الابنة الطالبة نيرة على يد زميلها السفاح على أعتاب جامعة المنصورة، وتحولت الصدمة إلى حالة خوف فطرية طبيعية على بناتنا وعلى مجتمعنا.
وأنا شخصياً انتابتنى حالة من البكاء عند قراءة الحادثة لدرجة أننى حضنت بناتى وتخيلت فعلاً أن نيرة ابنتى من صلبى .
هذا الخوف الفطرى يدفعنا جميعاً بكل إخلاص إلى ترميم هذا المجتمع وبنيته بكل صدق وعلم وتفانٍ حتى لا تتكرر مثل هذه الحوادث وحتى نستجلب الأمان النفسى والمجتمعي فى مواجهة مصانع التخويف التى تهطل من وسائل الإعلام ليل نهار على العقل والإدراك الجمعى .
إلا أن الصدمة الأكبر كانت من تصريح الدكتور مبروك عطية العنيف علينا جميعاً، وهو أستاذ اللغة العربية بجامعة الأزهر ومن المفترض أن يعرف هذه المعانى ويضعها فى اعتباره .
فقد ظهر بفيديو ساخر يمارس عملية التخويف "بقال الله وقال رسول الله "، وأنا لا أقف عند كلمات الدكتور مبروك بعد ما كتبت مقالى السابق عن هذا الموضوع بعنوان "القتل بدعوى إثارة الفتنة وتبرير الجريمة"، ولكن فقط أعلق على ظاهرة التى تعد إساءة لدين الله ألا وهى التخويف بدين الله .
فهل وصل الانحدار بالدعوة إلى الله لدرجة الطمع فى الترند والشهرة بتخويف الناس على بناتهم بقوله "هتتحجبى وتلبسى قفة يا تتقتلى"؟
وهنا يجب الرجوع إلى القرآن الكريم كتاب الهداية لنا جميعاً، لبيان معنى الخوف فى القرآن؟ وهل لغة التخويف من الحكمة والموعظة الحسنة أثناء الوعظ؟ أم هى لغة تجار الدين المفترين على الله وعلى الناس؟
-الحقيقة أن كلمة الخوف بمشتقاتها ذكرت فى القرآن الكريم فى 124 موضع ولكن. جاءت بالمعانى الآتية التى تختلف تماماً عن معنى الفزع والتوتر:
1- جاءت بمعنى الخوف الفطرى من العدو بقصد الاستعداد له وذكر نعمة الله تعالى فى النصرة على العدو. مثل قوله تعالى : {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} (قريش:4)
فالخوف هنا مقصوده تحفيز الناس استعداداً لدفع العدو، وشكر نعمة الله فى الأمن والأمان.
2- جاء الخوف بمعنى الحرب، قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (الأحزاب : 19)
3- وجاء بمعنى الهزيمة، ومنه قوله عز وجل: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعو به} (النساء: 83)،
والآية تتحدث عن معركة أحد وبالتالى الخوف هنا يعنى الهزيمة فى الحرب.
4- بمعنى العلم والدراية، وقد جاءت آيات كثيرة فى هذا المعنى منها قوله عز وجل: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} (البقرة:182)
خاف بمعنى علم.
5- بمعنى الظن، ومنه قوله عز وجل: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} (البقرة:229)، أي: يظنا.
6- بمعنى النقص، ومنه قوله سبحانه: {أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم} (النحل:47)
7- بمعنى الخوف نفسه ومنه قوله تعالى: {ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (آل عمران:170)
والخوف من الله تعالى ليس فزعاً كما الخوف من المخلوق، بل هو أنس بالله ورجاء فى رحمته، ووقاية من عذابه، والشعور بالجلال فى القلب.
عبر عن هذا المعنى القطب الصوفى أبى القاسم بقوله: "المخلوق إذا خفته استوحشته وهربت منه، والخالق عز وجل إذا خفته استأنست به وقربت إليه".
وتأكيداً لهذا المعنى قال الله تعالى "ولمن خاف مقام ربه جنتان".. لم يقل ولمن خاف ربه.
فمقام الرب: يعنى الشعور بالتجلى، والتجلى متعة روحية عظيمة، لا تتعارض مع الحب، والمؤمن بين متعتين روحيتين، متعة حب الله، ومتعة التجلى لله الباعثة على الخشوع ليتحول الإنسان بهذه الطاقة إلى الجميلة (الحب والتجلى) إلى شعلة حب لله ولنفسه ولوطنه وللناس، ويتحصن بهذه الطاقة من موت الضمير والتعدي على حدود الله رب العالمين .
الشاهد، أنه لا يوجد فى القرآن تخويف بمعنى التفزيع، بل يوجد ترهيب من الرهبة "يدعوننا رغباً ورهباً"، وهى حالة نفسية توصل إلى التجلى كما سبق ذكره.
أما التخويف بمعنى التفزيع، فهو صناعة بشرية ليس لها علاقة بالقرآن ولا بالإسلام فى شيء، يلجأ إليها سماسرة الإنسانية، كما يلجأ إليها تجار الدين للسيطرة على الناس بدين الله زوراً وبهتاناً .
وقد يستدل بعض تجار الدين بالآية الكريمة "ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) سورة الزمر، على مشروعية التخويف .
ولكن كلمة يُخوف فى الآية تعطى نفس المعنى الذى ذكرته (الرهبة من الله)، يعنى التجلى من مقام الله ، بدليل أنه سبحانه وتعالى ذكر فى آخر الآية الهدف من الخوف "ياعباد فاتقون"، ولم يقل: يا عباد فافزعوا، يعنى اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بالجلال والخشوع .
ويؤسفنى أن هذه المعانى تغيب عن معظم مشايخنا المشتغلين بالوعظ، بل يحرص الكثير منهم على الظهور فى صورة الشيخ الذى لا يخطئ ، وطيلة الوقت يدافع عن نرجسيته الشخصية وفقط ، فينتفخ فى نفسه ويظل يدافع عن نفسه وصورته الفخمة فى أعين الناس حتى يصل إلى درجة إدمان النرجسية، وربما ينسى الدفاع عن هيبة الإسلام، لكن لن ينس الدفاع عن هيبته باسم الدفاع عن الاسلام .
ويترتب على ذلك ما يلى :
1- خطابه الدينى سيغلب عليه خطاب التخويف باسم الدين ويظل يطلق فتاوى تصنف الناس فى دينهم أو أخلاقهم .
أو سيتحدث عن ما يطلبه المستمعون وما يحبون سماعه ، حتى يحافظ على شعبيته ومريديه، ولن ينضم إلى النخبة التى هى بمثابة الطبيب المعالج لأمراض المجتمع الخلقية والفكرية .
وهذا يفسر الجدليات الدينية التى يثيرها بعض الشيوخ بقصد الإثارة ولفت الانتباه من حين لآخر، وظاهرة الدجل الدينى.. إلخ.
2- خطابه سيكون من علٍ إلى أسفل ، يعنى يعتقد جازماً أنه أفضل من المصلين والمنصتين لخطابه، ولسان حاله يقول: تعالوا أوصلكم إلى الله لأننى وصلت .
3- سيطرد الكثير من رحمة هيبته النرجسية باسم الله ، وعندما يختلف معه أحد سيتهمه بالفسق أو الجهل على أقل تقدير، ولن يتسامح أو ينصت لمن اختلف معه .
4- سيحرص على تسليط الأضواء والكاميرا على جلالته ليلاً ونهاراً وسيعلن الحرب المقدسة على من يفكر فى إبعاده عن الأضواء.
إن إدراك هذا الجانب النفسى والتكوينى عند من يؤدون الخطاب الدينى جزء كبير من الإصلاح الدينى المنشود، حتى يكون الخطاب خطاب جمال (ترغيب - تواضع - رحمة- تسامح- قدوة )
ولا مانع من استخدام الترهيب (الجلال) إن احتجنا إليه للسيطرة على طغيان النفس البشرية، فى إطار تزكية النفس والانضباط الشخصى، ولكن خطاب الجمال (الترغيب) هو المناسب كمدخل من مداخل الشباب المعاصر.
فهل سندرك الأجيال القادمة من أبنائنا الوعاظ ونقوم بتدريبهم ووضعهم على الطريق الصحيح؟ أتمنى ذلك .
والله المستعان.
أحمد تركى