الجمعة 21 يونيو 2024

وهبة الأستاذ

20-7-2017 | 21:08

محمد الخولي - قاص من الغربية

دارُ الأستاذ إبراهيم تشبهه. لكل منا نصيبٌ من اسمه، ومن داره أيضًا. من بعيد تظهر ملامحها، بسيطة مثله، ولهما نفس الهيبة التى لا يفهم أحد سببها. طابق واحد، مقامة على ربوة صغيرة، فتراها عالية، أعلى من كل بيوت القرية، محاطة بسياج حديدى، وعليه بللورات يحرص الأستاذ على إضاءتها كل ليلة، حتى لو غلبه النعاس أو أرقده مرض لا يتوقف عن هذه العادة. يضىء البللورات، ويتأكد من غلق الباب، ثم يذهب إلى سريره.

فى الليل تتحول الدار إلى نقطة مشتعلة، من بعيد، بعيد جدًّا أراها كنجمة متمردة فى ليلة شتوية، شديدة الظلمة، رابضة فى مكانها كسفينة أوقفها قائدها فى وسط البحر مضاءة من كل الاتجاهات، وحدها تقف الدار شامخةً وسط فراغ مظلم، وحشائش شيطانية، تحاول أن تحجبها عن العالم، لكنها تقاوم.

لا يعرف أحد تحديدًا متى سكن الأستاذ هذه الدار؟ ولا متى بنيت هذه الدار؟ يقولون إنها الدار الوحيدة التى بقيت من الفيضان الذى ضرب زمامنا قبل 100 عام. رفعها الجن عن الأرض، فنجت من الدمار الذى أتى على قريتنا والقرى المجاورة.

قبل كل أهالى القرية كنت أمر بجوار الدار عند الصباح ذاهبًا إلى مدرسة ناصر الثانوية، كنت الولد الوحيد الذى وصل إلى الثانوية، والفلاح الوحيد فى المدرسة، سخروا منى أجبت عن سؤال المدرس: بلدك اسمها إيه؟ لم أعرف سبب سخريتهم، ولماذا فلتت هذه الضحكة المجلجلة من هذا البغل الصغير.. هل يضحك اسم "أم الستين"؟ الحظ أنقذ هذا البغل، فلو سمعه الحاج رضوان لقسمه إلى نصفين.

- دول عالم جاهلة.. لا عارفة "أم ستين" ولا حكايتها

يرد الحاج رضوان على من يسخرون من الاسم، ويبدأ فى الرواية: كانت ليلة صيفية عادية، يجلس الرجال يدخنون الشيشة عند الترعة، وحولهم، وبالقرب منهم تتبادل النساء الحكايات، وكانت "أم الستين" تجلس وحدها لا تتحدث مع أحد، تنظر إلى الماء الراكد، وتلقى كل فترة بحجر فيه، فتصنع دائرة، تتسع وتتسع حتى تختفى عندما تلتصق بالشط الثاني, وفجأة سمع الجميع صوت صرخة مكتومة، "أم الستين" سقطت فى الترعة، قفز الرجال فى الماء، وظلوا حتى الصباح يبحثون عنها لكنها فص ملح وذاب. وحتى اليوم لم نعثر لها على أثر. لكننا رأينا لها كرامات. فعندما اجتاح الفيضان زمام بلدنا، خرج من الترعة 60 طفلا، وظلوا طوال الليل يجرون فى الشوارع، يصرخون ويوقظون النيام، ولولا هؤلاء الأطفال لمات كل سكان القرية.

حكاية الحاج رضوان لا تنتهى عند هذه النقطة، لكنه يكمل عن كرامات كثيرة لـ60 طفلا وأمهم "أم الستين".

يمر فلاحو القرية بجوار الدار كل يوم ذهابًا وإيابًا إلى حقولهم، لا ينظرون إليها، دقوا طريقًا يبعدهم عنها، الحكايات عن الدار وساكنها لا تتوقف، لكنهم يتهامسون وهم يتحدثون عنها، فى إحدى سهرات الصيف سمعت جمعًا من النساء يتحدثن عنها، قالت إحداهن إنها كانت تمر بجوارها فسمعت صراخ امرأة لا يتوقف، وعندما اقتربت من سور الدار، نبح عليها كلب أسود، فنزل حيضها فى اللحظة ذاتها.

مصمصت النسوة شفاههن، والتقطت أخرى خيط القصة، وحكت أنها مرت فى صباح يوم جمعة بجوار الدار، فسمعت نشيدًا يهز الدار، وكلما اقتربت من السور اختفى الصوت، وما إن تبتعد حتى يعود الصوت أقوى من قبل، خافت، وتعثرت ووقعت ومن يومها أقسمت أن لا تمر بجوار الدار مرة أخرى.

لم يكن أبى ككل أهل القرية، لم يحكِ لى يومًا عن الأستاذ إبراهيم، ولم أسمعه يشارك فى الحكى عنه. مرة واحدة سمعته يقول لخالى "الجن لا يسكن البيوت، والبشر. الجن حر، والحر لا يحبس نفسه فى دار، أو داخل شخص"، تعجب خالى، ولم يرد على أبى، وتمتم وهو يغادر دارنا: "والله شكلك إنت كمان ملبوس يا أخويا".

اعتاد أبى أن يحدثنى فى أشياء كثيرة لا أفهمها، حدثنى وأنا فى السابعة عن خلق الكون، وحكى لى كلامًا كثيرًا عن المادية الجدلية، وروايات، مكسيم جوركى، ودون كيخوتى، حدثنى عن أدبيات اللغة عند نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، كان يميل إلى يوسف إدريس كثيرًا، ويفضله على نجيب، يرى هيكل نصابًا، وأحمد بهاء الدين هو الأستاذ الحقيقى للصحافة المصرية، لم يكن أبى سوى فلاح بسيط لا يعرف طريق القراءة، لكننى اكتشفت سره.

تبعته فى هذا المساء الصيفى، تعثرت فى الطريق، ووقعت أكثر من مرة، كنت أكتم وجعى، حتى لا يشعر بي. من شباك الدار رأيت أبى جالسًا فى مواجهة الأستاذ، يقرأ عليه ما تيسر من مقالات، وصلت من القاهرة متأخرة يومين عن موعدها، وعندما أنهوها تابع أبى بلهفة ما يتلوه عليه الأستاذ من صفحات لكتب متنوعة فى الأدب والنقد، والشعر والتاريخ والدين، والسياسة، وغيرها ولا أريد أن أنسى فرعًا، لكننى استرقت السمع يومها، وسمعته يجادل الأستاذ ويناقشه، فى ما أضافه صلاح عبد الصبور إلى الشعر المسرحى، أغلق الأستاذ الحوار بعدما قال له "لو فيه عدل فى الدنيا دى تبقى أستاذ فى الجامعة مش فلاح ياد يا سيد".

سبقت أبى إلى دارنا، غيرت ملابسى، وانكمشت فى سريرى، قبلنى، واستلقى إلى جواري.

علاقتى بأبى كانت تتجاوز علاقة الأب بابنه، صرنا صديقين منذ وعيت على الحياة، لم يبخل عليَّ بشيء من علمه، وعندما صرت فى الصف الخامس، قرر أن يفاجئنى بما أعرف مسبقًا، أخذنى إلى الأستاذ، وقال له هذا وهبتي.

الطريق إلى دار الأستاذ كان متعبًا، تملؤه حفر كثيرة، يحفظها أبى، تعثرت فى حجر فحملنى أبى على كتفه، وقفز بى حفرة تبدو عميقة، ماؤها عكر، تنبعث منها رائحة عطن، وصلنا إلى دار الأستاذ، تخلصت من خوفى الطفولى من الجن عندما وقفت أمام باب الدار، وأصابتنى رهبة، ليست خوفًا إنها رهبة مكان أدخله للمرة الأولى، ولا أعرف ما يجرى داخله، عالم جديد سأكون شاهدا عليه بعد لحظات.

لم يكن هناك داعٍ لطرق الباب، أبى يعرف الطريقة التى يفتحه بها، حبل صغير متصل بكالون الباب، يخرج إلى صدر الباب من ثقب صغير، شده أبى فانفتح الباب فورًا، يعرف أبى الطريقة لأنه هو الوحيد الذى يأتى إلى هنا.

جلسنا مشلولين حتى ظهر لنا الأستاذ من خلف مكتبته، كان ممسكًا بكتاب مُترب، وقفنا عندما ظهر، وألقى عليه أبى السلام، فرد دون أن يلتفت إلينا، هو يعرف أن لا أحد يزوره سوى هذا الضيف المواظب على الزيارة.

قال له أبى : معى ضيف، نظر الأستاذ إليَّ، وابتسم متسائلَا: هو؟ رد أبي: نعم، تعلم القراءة والكتابة، وحان وقته.

لم أفهم ما دار من حديث بينهما فى تلك الليلة، كأنى أجلس بين قطبين صوفيين يتناقشان فى فكرة الحلول والاتحاد.

عدنا أنا وأبى قبل الفجر من الطريق نفسه، وأوصانى أن أحفظ الطريق لأننى سأسير فيه حتى أصل، تبدد الخوف الذى تملكنى من الطريق، وسرت أعرف كم حفرة فيه، وكم جدول ماء عليَّ القفز من فوقه، باتت كل الحيوانات الضالة فى هذا الطريق تعرفنى فلا تصرعنى بخوفها.

بعدما أنهينا آخر كتاب فى مكتبته، كنت قد أنهيت سنتى الدراسية الأخيرة فى التعليم الثانوى، وحان وقت رحيلى إلى القاهرة، حيث الجامعة، وكان موعد وصية الأستاذ، لم أكن أعرف وقتها أنها ستكون الأخيرة، فعند زيارتى الأولى للقرية، أبلغنى أبى أن الأستاذ مات، وجده جالسًا على كرسيه، ورأسه ملقى إلى الخلف، وعلى قدميه كتاب.

نفذ أبى وصية الأستاذ، ودفنه فى حديقة الدار، وبجوارها دفن كتبه معه، أعرف أن أبى تعب فى حفرة الكتب، فدفن أكثر من ألفى كتاب ليس أمرًا سهلاً، تحمل أبى مشقة الحفر فى تلك الأرض العطشى، وحزن على الكتب كحزنه على الأستاذ، لكنها الوصية.

رحل الأستاذ، وترك الدار وحيدة، تبكي على فراقه، وكلما يأتي المساء تشتعل القناديل على السور, ويخلق أهالي بلدتنا قصصا جديدة عن عفاريت الأستاذ وداره المسكونه.