الخميس 27 يونيو 2024

توفيق الحكيم المجدد : الحرب والسلام والحرية

21-7-2017 | 15:20

د. مدحت الجيار

ارتبط توفيق الحكيم في تاريخنا الأدبي الحديث بالتجديد في عدة أشكال أدبية . فمن بداية القرن العشرين اهتم بالمسرح العربي كجزء من المسرح العالمي .  وهو من تلك اللحظة  يحمل راية التجديد . فهو مجدد المسرح العربي الأول ، بعد الرواد الأوائل كالنقاش والقباني  فقد توقف هؤلاء الرواد عند حد الإفادة من القصص القديم وقصص الحب القديمة من العصر الجاهلي حتى عصر الحكيم وقصص الحب الغربية الشائعة في المسرح الأوروبي ، وألف ليلة وليلة ، والرواد الأوائل مزجوا أعمالهم بالتلحين والاستعرض تمشيا مع مستوى الجمهور .

      أما الحكيم فقد دفع المسرح العربي في طريق المسرح العالمي مهتما بالنصوص العالمية الكلاسيكية . والأساطير ، مما جعل مسرحه يجاري المسرح العالمي بشهادة الأجانب والفرنسيين بخاصة . ويكفي القول بأن مسرحيته ( أهل الكهف ) حظيت باهتمام المسرحيين المختصين فترجمت ، ثم عرضت على المسرح الفرنسي بباريس وسط نجاح كبير ، رفع شأن المسرح المصري .

   ومن هنا لم يتوقف الحكيم وطور من أدواته بعد أن كتبت عنه مقالات كثيرة أفاد منها في تطويع الأدوات المسرحية لكل ما يريد . وتوازى نتاجه من تلك اللحظة مع المنتج العالمي ، وكلما حدث تطوير وتحديث في المسرح العالمي ، أدخله الحكيم إلى النص والعرض المسرحي العربي . كما حدث في اللا معقول ، والعبث ، وتفوق بأن جعل المتغيرات عربية وفي سياقات يفهمها المتلقي العربي ويتمتع بها .

                                       2 

حدثت المتغيرات في شكل المسرحية وفي لغتها . وكان حريصا على التدرج مع المتلقي ابتداء من لغة الحياة اليومية أو كما أسماها لغة الصحافة المتفاصحة بعيدا عن المعجم القديم المفارق للحياة المعاصرة ، حتى وصل إلى كتابة المسرحية الفلسفية التي تناقش القيم الإنسانية مثل العدالة وصراع الخير ضد الشر ، حتى وصل إلى المسرح العقلاني بممارسة الحوار على الورق ، فأنشأ مسرح القراءة ، في زمن كانت فيه الأمية منتشرة في العالم العربي . لكنه راهن على المتعلمين والشباب منهم بخاصة ونجح في توصيل الرسالة المسرحية والأخلاقية  .

    نعم جدد الحكيم وفق خطة طويلة الأجل ، ضخت دماء الجديد بين فترة وأخرى . ونظرة إلى مسرحية ( محمد ) ثم مسرحية ( يا طالع الشجرة ) ثم مسرحية الخيال العلمي . نجد  الإستفادة من خيال العلم في إثراء خيال الأدب كانت ناجحة على يد الرائد توفيق الحكيم، كما كانت موفقة مع مسرحية " رحلة إلى الغد" لتوفيق الحكيم (1978) فاتحة جيدة لمسرح الخيال العلمي المستفيد من رحلات الفضاء وسفائن الفضاء وما يعد للرائد من استعدادات وتجهيز على الأرض ثم في الفضاء، في سياق تسابق المعسكرين.

وكان ذلك مناسبا لزمن توفيق الحكيم حيث كانت رحلة الغد ( جاجارين) بدايتها مع منتصف الخمسينات فأفاد من منجز العصر ( الإنسان الآلي) الذي يسيطر الآن في تسيير كل شيء خارج حدود الجسد البشري . ومن ثم كانت تخيلات الكاتب من قبيل الخوف والتحذير، فكانت تخيلات توفيق الحكيم من قبيل الفرح بانتصار الإنسان ومنجزه العلمي، وذلك في مسرحيته (رحلة إلى الغد ) .

                                       3

ويعني ذلك أن الكاتب المسرحي لا ينفصل عن واقعه من ناحية، أو عن آخر منجزات الحضارة من الناحية الثانية. فتوفيق الحكيم يخرج سجينين محكوم عليهما بالموت  عبر الفضاء، والسجين في قوانينا الأرض محكوم عليه بالموت فيها ، ولهذا يعطيه الفضاء حرية مزدوجة من الخروج من السجن الأرضي، ومن سجن الكوكب نفسه .

ثم نجد السجين في الصاروخ العابر لجاذبية الأرض، مكتشفا الزميل الثاني على ظهرالكوكب المجهول حيث يكتشفان أن الجرح لا ينزف دما وأن النزيف لا يميت حتى لو كان شريانا مقطوعا

وهكذا تقوم حياة كلها من دورات الكهرباء التي حولت الجسم إلى جسم معدني كهربائيي فعل كل شيء ويجسده بإرادته وخياله. وهنا يستحضر كل منهما ما يشاء من الطعام والشراب والنساء والأصوات والمشاهد مثلما يريدان. ويمكن لهما بالقوة نفسها إرجاع كل شيء إلى العدم. ويعني هذا في نظر توفيق الحكيم وصول الإنسان إلى الحرية: المادية بتحرر الإنسان من آلية جسده. ومعنويا بالخلق والمحو وكأنهما يلعبان بكل شيء في حرية مطلقة بلا حدود- بينما تتقهقر فكرة الموت .

وينقلنا الحكيم إلى مشهد إصلاح الصاروخ تمهيدا للعودة إلى الأرض-وهنا يؤكد المؤلف نسبية الزمن، ونسبية الحياة، ونسبية الموت من خلال رحلة الوصول والعودة من الأرض إلى القمر أو الكوكب المجهول والعودة. وهنا يصف الإنسان العالم بأنه فأر تجارب فقد مر عليهما ثلاثمائة عام بحساب سنين الكوكب المجهول بالنسبة لحساب الأرض.

                                 4

وهو سن الشيخوخة الجديد. وبالتالي فالحرب الذرية قد وقعت على الأرض وهما بعيدان عنها وتحول كل شيء إلى تاريخ قديم على الأرض مما قضى على فكرة الحرب المدمرة فعم السلام.

ومن ثم استخدم العلم لصناعة السلام والتطور على ظهر الأرض. وهذه هى رسالة المسرحية إلى أهل الأرض في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وفي ظل التسابق في امتلاك الأسلحة الذرية.

وبالتالي ينهي الحكيم مسرحيته بعودة الإنسان إلى تركيبه الذي خلق به أعني مزيج العقل والعواطف وفي ظل السلام، والتقدم العلمي. وبذلك تنتهي المسرحية بانتصار الإنسان على الآلة.

هذه هى محاولة الحكيم أعني رسالة الإنسان في اكتشاف ما يحيط به من عوالم وكواكب ليحقق رسالة إنسانية بتدعيم إنسانية الإنسان رغم كل تقدم علمي مهما يكن مداه. وقد رأيناه يكتشف بالسجينين بعضا من ملامح الخلود وملامح الحرية ولكنه أعاد الأمر في النهاية إلى ضرورة أن يعود الإنسان لخلوده المؤقت وحريته النسبية . وأشار إلى ضرورة أن يتمسك الإنسان بإنسانيته مهما تكن ظروف الحياة فوق الأرض أو فوق أي كوكب آخر.

ونلاحظ أن المعلومات التي أتيحت للحكيم حتى عام صدور هذا النص(1978)  تقدم فيها العلم والتكنولوجيا إلى أبعد مما يتصور الحكيم فقد غزا الإنسان مجموعته الشمسية وأرسل سفنه إلى الشمس نفسها واكتشف أسرار الكواكب وسيطر على هذه المجموعة الشمسية كلها

ومن ثم أصبح الصراع

                                 5

ولكن خيال الكاتب البشري جعله- وهو يطلق صرخة تحذير من طغيان الآلة على حياتنا – في صف انتصار الإنسان البشري بحصوله على استقلاله وحريته، وعودته لقيادة الكون من جديد بعد أن تعلم درس ( الحرية) التي فرط فيها برعونته التي جعلته يقتل البشري بالآلي. فلم تبق الحروب شيئا للبشري وألقته ضعيفا قليل العدد خاصة بعد أن اخترع من الأسلحة الفتاكة التي تصيب الكائن الحي فقط دون أن تمس الآلي أو الثروات الموجودة على ظهر الأرض نتاجا للجهد الحضاري لكل أمم البشري وتاريخها الطويل، فتدعوه إلى السلام .

    الاكثر قراءة