بقلم: جمال أسعد
نحتفل هذه الأيام بالذكرى الخامسة والستين لثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢. لا شك أن ثورة يوليو كانت قد أخذت ولازالت وستظل تأخذ الكثير والكثير من الحوار والنقاش الموضوعى وغير الموضوعى المنحاز كلية والرافض بالمجمل ذلك لأن يوليو غيَّرت أوضاعاً وقلبت موازين، فكانت لها آثار وتأثير لا يستهان به سواء كان ذلك على المستوى المحلى أو الإقليمى أو الدولى. كما أن ثورة يوليو لم يسجلها التاريخ ولم تنل الاختلاف أو الاتفاق كونها ثورة غيرت الأوضاع السياسية والاقصادية والاجتماعية تغييراً جذرياً، فكان هذا التغيير لصالح الأغلبية العددية من المصريين، وكان بالطبع ضد الأقلية العددية التى كانت تملك كل شىء وتتحكم فى كل شىء.
ولكن كان الحوار والاختلاف والاتفاق أيضا حول زعيم الثورة الزعيم جمال عبدالناصر ،فهناك ثورات تاريخية غيرت مسار الأحداث فى بلادها بل فى العالم كله ولكنها لم تنسب إلى زعيم بذاته مثل الثورة الأمريكية والفرنسية.
وهناك ثورات مازالت تنسب إلى الزعيم مثل الثورة الروسية ١٩١٧ التي تنسب إلى لينين والثورة الإيرانية ١٩٧١ إلى الإمام الخومينى وثورة يوليو ١٩٥٢ إلى جمال عبدالناصر. والحديث عن الثورات والأحداث التاريخية والتاريخ بشكل عام لا يجب أن يكون الحديث أو الدراسة خاضعة أو متأثرة بالظرف الآنى أو الأحداث الحالية فهذا إسقاط خاطئ على الأحداث بالطبع ينتج نتائج خاطئة . فكل حدث تاريخى هو ابن مرحلته وهو نتاج واقعه المحلى والإقليمى والدولى
أما تأثير الزعيم فهذا مرتبط بشخصية وكاريزما وثقافة ومواقف وقناعات هذا الزعيم نعم من المعروف أن الجينات المصرية جبلت وتوارثت تقديس الحاكم منذ العهود المصرية القديمة عندما كان يتم الخلط بين الحاكم والإله والكاهن. نعم السلطة فى مصر لها مفعول السحر لدى الجماهير حيث السلطة المركزية التى تحكم وتنظم توزيع مياه النيل فى الرحاب المستقر وحفاظاً على هذا الأستقرار. ولكن هل كل حاكم كان مقبولاً لدى الجماهير حتى ولو كان له فريضة الخضوع للسلطة وللحاكم؟ بالطبع ليس كل من حكم مصر كان له كل الخضوع وكل الثقة إلا إذا كان هذا الحاكم موضعاً لهذه الثقة ومستحقاً لهذا الخضوع. ولذلك وبالرغم من أن يوليو كانت انقلاباً عسكرياً قام به تنظيم الضباط الأحرار ثم تحول إلى ثورة حقيقية ومنذ اتخاذ قرارات الإصلاح الزراعى ٩ سبتمبر ١٩٥٢ بعد التفاف الجماهير حوله. ولكن كان ولايزال الحديث كل الحديث عن دور جمال عبدالناصر ليس من جانب المصريين أو الأجانب، وليس من جانب المؤيدين أو المعارضين ولكن كان هذا ما أكده كل أعضاء مجلس قيادة الثورة زملاء عبدالناصر حيث كان هو الزعيم قبل التنظيم وبعده وقبل الثورة وبعدها وحتى الآن فالحديث عن عبدالناصر ليس تأليهاً لبشر ولا عصمة لمخلوق. فعبد الناصر بشر وزعيم أخطأ وأصاب من الطبيعى الاتفاق والاختلاف حوله. ولكن هذا يجب أن يكون على أرضية موضوعية وتحليل علمى وعلى ضوء معطيات الواقع الذى تحول فيه عبدالناصر وإخوانه فى ذلك الوقت كما أن الحديث عن عبدالناصر ليس المقصود به التقليل من قدر أو دور الآخرين ولكن هو قراءة للحدث بعيداً عن عبادة الفرد التى لا ترى إلا خطأ وبعيداً عن القراءة غير الموضوعية التى تنطلق من المصلحة الذاتية والمزاج الخاص مثل ما يحدث حتى الآن من جوقة الكارهين لناصر وبعد وفاته بسبعة وأربعين عاماً. فمن طبيعة الأشياء أن الإنسان من حقه أن يدافع عن مصلحته وأن ينتمى إلى مصالح طبقته. فلا يمكن أن تتفق مصلحة الرأسمالى مع مصلحة العامل ولا مصلحة الإقطاعى مع مصلحة الفلاح. ولذا من الطبيعى أن ينحاز إلى يوليو وإلى عبدالناصر كل من استفاد من الثورة لأنها حققت له مكاسب وعلى كل المستويات ومن الطبيعى أيضاً أن يقف ضد الثورة كل من أضير منها بشكل مادى على من أممت شركاتهم أو صودرت أملاكهم والمنفعة والضرر هنا ليس على الأرضية المادية فقط ولكنها أيضاً على المستوى النفسى
فهناك من لم تكن من مصلحتهم ثورة يوليو وكانوا معها وهناك من استفادوا من الثورة ولم يتحمسوا لها ولازالوا حيث إنهم كانوا أبناء المعدمين وغير القادرين والثورة أتاحت لهم فرص التعلم والتوظف والترقى. فمن لم يكن على الأرضية الطبقية للثورة وانحازوا لها فهؤلاء لديهم الوعى السياسى والثقافى الموضوعى والآخرون هم مرضى نفسيون يتطلعون إلى طبقات أعلى دون امتلاك المقومات لهذا. فقد رأينا أغلب أعضاء مجلس قيادة الثورة من الطبقة المتوسطة وهذه الطبقة كانت تمثل تطلعاً للأغلبية فى ذلك الوقت ولكنهم قد انحازوا إلى الفقراء الذين قد قامت الثورة من أجلهم.
عبدالناصر كان من طبقة متوسطة بعد دخوله الحربية ولكنه لم ينس انتماءه الطبقى الأساسى فهو ابن عبدالناصر حسين ابن قرية بنى مر مركز أبنوب محافظة أسيوط والذى كان يعمل موظفاً بالبريد. كان يمكن أن يتطلع إلى طبقة أعلى من المتوسطة خاصة أنه كان يمكن أن يترقى فى الجيش ليصل إلى لواء أى باشا. ولكنه أحس بالفقراء وأحب الوطن وانحاز إلى الجماهير حباً فيها وليس كرهاً فى طبقة البكوات والباشوات حيث بعض المرضى يقولون إن عبدالناصر كان ينتقم من الأغنياء لأنه ابن البوسطجى!! فكيف انحاز عبدالناصر إلى الفقراء. كان الإصلاح الزراعى بعد حوارات كثيرة مع الوفد والإخوان وكلاهما رفض لانحيازهم لطبقة الكبراء.
الإصلاح الزراعى الذى لايزال يلقى العنت والرفض كان هو القرار الحقيقى الذى حول الانقلاب إلى ثورة حيث كان مجتمع النصف فى المائة حيث كان الإقطاعى يملك الأرض ومن عليها من البشر ليحولهم إلى عبيد وأقنان حيث كانوا يشيئون البشر. الإصلاح الذى حول الأجير المعدم إلى مالك لخمسة أفدنة بما يعنى تحولاً نوعياً فى المعيشة والانتماء الطبقى. يقولون ومازالوا إن الإصلاح الزراعى قضى على الملكية ونقص الحيازات بما أضر بالزراعة. وهم ينافقون ويكذبون كما يتنفسون لأنهم بعيدون عن الموضوعية. فللأسف الشديد يتم النظر والتقييم للإصلاح الزراعى على أن الملكية التى تزيد عن مائتى فدان تم توزيعها بمعدل خمسة أفدنة نعم هذا حدث. ولكن الذى لا يعرفونه أو لا يذكرونه. أنه بالتوازى مع توزيع الخمسة أفدنة كان هناك سياسة مكملة وهى تبنى الحركة التعاونية حيث تحولت الجمعيات الزراعية بالقرى والنجوع إلى مكمل لدور بنك التسليف الزراعى الذى تحول إلى بنك التنمية الزراعى الذى أصبح متخصصاً فى خدمة الفلاح فى ذلك الوقت. فالبنك يمول الجمعيات التعاونية بسلف مدعمة لا تتجاوز فائدتها ٥٪ فقط وتتكلف الدولة فرق سعر الفائدة.
كانت الجمعيات مع البنك مع الوحدات الزراعية بالمراكز توفر كل الخدمات الزراعية من ميكنة وتقاو وبذور ومبيدات. والأهم هنا هو ما يسمى بالتجميع الزراعى أى أن يتم تضييق مساحات شاسعة تصل إلى آلاف الأفدنة لكى تزرع محصولاً واحداً مثل القطن حيث يتم الاهتمام والمتابعة لهذه المساحات بعيداً عن التفتيت المزعوم حيث كان القطن يتم رشه بالمبيدات بالطائرات لاتساع المساحة. هذا هو الإصلاح الزراعى وهذا هو ما كان يحدث حتى وفاة عبدالناصر. ولا علاقة لعبدالناصر ونظامه لما حدث بعد ذلك من إلغاء نظام التجميع الزراعى وإلغاء الحيازات الزراعية المجمعة وترك الفرصة لكل من يزرع ما يريد وحيث تم إفشال الزراعة المصرية على يد يوسف والى الذى سلم التاريخ الزراعى المصرى على مدى التاريخ لإسرائيل. فتحولت الزراعة إلى زراعات ترفيهية وأصبحنا نستورد كل طعامنا من الخارج.
انحاز عبدالناصر للشعب فكانت المستشفيات العامة فى المراكز والوحدات الصحية فى القرى. كنا ونحن فى مركزى القوصية أسيوط لا يوجد لدينا فى المركز مستشفى وكنا نذهب إلى قرية اسمها فزارة كان بها وحدة صحية للعلاج من البلهارسيا، حيث إن الباشا فى هذه القرية هو الذى أنشأ الوحدة. كان التعليم المجانى الذى لولاه ما كنت أكملت تعليمى الثانوى التجارى حيث إن المصاريف كانت خمسة عشر جنيها ولم يكن للأغلبية استطاعة دفع هذا المبلغ لولا المجانية. كانت مكاتب التنسيق التى تعطى الفرصة بعيداً عن الواسطة فى دخول الجامعة وكانت القوى العاملة التى توفر العمل للجميع بعيدا عن الواسطة والمحسوبية وتوريث المناصب الذى نراه الآن. ناهيك عن مراكز الشباب وقصور الثقافة كل هذه الأشياء لم تمثل بعداً مادياً بل كانت آليات لتغيير جذرى فى الشخصية المصرية وسبيل عملى لإزالة الفوارق بين الطبقات نعم لم يعرف هذه الأشياء ولم يشعر بذلك التغيير غير الذين عاصروا الثورة من جيل عبدالناصر ولم يتناقض فى سياساته الداخلية مع سياساته الخارجية. فالداخلية كانت تهدف إلى تحرير المواطن المصرى من الاستغلال والاستبداد. والخارجية كانت تعنى نفس الهدف وهو تحرير الوطن والأوطان من ربقة الاستعمار الذى كان يجثم على صدورنا ويستغل خيراتنا لصالحه والحديث الآن عن الزعيم لا يهدف إلى منفعة ولا إلى تحقيق مصلحة ذاتية ولا فرصة هناك لنفاق زعيم رحل ولا تمسح فى نظام لم يعد موجودا لكنه حديث فى مناسبة لثورة مجيدة غيرت الواقع المصرى والعربى بل العالم الثالث. ثورة وزعيم لايزال يؤثر حتى الآن فى كل من لا يريد سياساته التى تهدف إلى الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطنى وعدم التبعية لأى قوى غير الانتماء للوطن وللأمة العربية.
ما نراه الآن وما يصيب العرب فى منطقتنا العربية من مؤامرات معلنة وتفتيت وتشرذم مثل ما يحدث فى قضية قطر ودخول إيران والعراق إلى قطر واستقواء قطر بأمريكا وأوربا نظراً للاستثمارات القطرية فى هذه الدول ونتيجة للعلاقة الآثمة مع إسرائيل هذا الذى يصب فى المصلحة الأمريكية والإسرائيلية ويحدث مزيداً من الصراعات العربية العربية ناهيك عن الإسلامية الإسلامية . ما يحدث وما يفعله هؤلاء وهم مازالوا اعداء الناصر ولن ينسوا هذا العداء له لأن عبدالناصر كان يتحرك فى الدائرة العربية والدائرة الإسلامية والإفريقية حيث إن هذه الدوائر تتكامل وتتواصل لصالح الجميع وفى مواجهة كل القوى الاستعمارية التى لا تتغير وإن أخذت أشكالاً مختلفة مات عبدالناصر ولكن لازالت أفكاره وسياساته صالحة فى مجملها وفى منهجها وأهدافها لمواجهة هذا التفتت العربى وهذا التشتت الإسلامى يظل الزعيم وسيرته عبر التاريخ لأعماله ومواقفه وإخلاصه لشعبه وبذل نفسه من أجل الوطن.
والزعيم لابد أن تكتمل صورته ليس على المستوى السياسى والعملى فقط، ولكن أيضاً على المستوى الشخصى والذاتى. عبدالناصر لم يتناقض يوماً بين أقواله وبين أعماله. لم يتحدث عن الفقراء ويعيش عيشة الباشوات. عبدالناصر آمن بالشعب وعاش ومات وهو مع هذا الشعب قلباً وقالباً. حياة عبدالناصر الخاصة يعلمها الآن الجميع ومصداقيته مع نفسه ومع الآخرين ولا يجحدها غير ناكر. عاش عبدالناصر وأولاده مثل غيره من الشعب لم يتعال على الشعب ولم يتاجر بالمبادئ ولم يتنازل عن القيم فأحبه الشعب وطالب ببقائه بعد التنحى الذى لم يكن مفبركاً حسب المدعين وودعه شعبه بعد موته كما لم يودع أحداً وذلك لإخلاص عبدالناصر لشعبه الذى قابل الإخلاص بالإخلاص. عبدالناصر نموذج مصرى أصيل مصرى أحب شعبه وأخلص لوطنه وضحى بنفسه ولم يطلب شيئاً لذاته. فهذا نموذج مصرى لنا جميعاً وللأجيال القادمة فهو أبن مصر وتاريخه ملك لمصر وللمصريين المحبين للوطن الساعين لمصلحة الجماهير كل الجماهير وليس لمنفعة ذاتية على حساب الوطن والجماهير
تحية لشعب مصر فى عيد ثورة يوليو وتوثيقه للقيادة وللعسكرية المصرية التى أنجبت عبدالناصر وزملاءه ومن ساروا على هديهم.
حمى الله مصر وشعبها العظيم.