من المعروف أن هناك تجانس وانسجام بين المطربين والموسيقيين، خصوصا وأنهم مرهفي الحس، وتنساب من بين أناملهم أروع الألحان ومن حناجرهم أغاني الوجد والأشجان، ففي ظاهرهم تاتكف وتكامل يسعى إلى الإبداع وأيضا مودة في تعاملاتهم الشخصية، وقديما لم يكن الأمر بينهم يخلو من المنافسة التي تصل إلى حد المقالب، وأحيانا كانت تنشأ الصراعات التي قد تصل إلى ساحة القضاء.

وهناك وقائع كثيرة يمكننا أن نرويها في وقت آخر، لكن ما حدث للفنان هاني شاكر واضطره لتقديم استقالته يعيد إلى أذهاننا صورة الصراع القديم بين طوائف الموسيقيين والمطربين، والذي تجدد في عصرنا الحالي تقريبا بنفس صورته القديمة.

صراع قديم يتجدد

فكر أهل الموسيقى والطرب في بداية الخمسينيات في تكوين نقابة تنظم عملهم وترعى حقوقهم وتعين المحتاج منهم، وتولت السيدة أم كلثوم أمر النقابة التي انضم إليها عباقرة الطرب ومبدعي الموسيقى، ومنهم الشيخ زكريا أحمد ومحمود الشريف ورياض السنباطي وأحمد صدقي مع نجوم الطرب في الزمن الجميل، وأصبحت كوكب الشرق أول نقيب للموسيقيين.

لم تستوعب هذه النقابة جميع الموسيقيين والمشتغلين بفنون الغناء والطرب في الأفراح، فاجتمعوا وكونوا نقابة لهم مستقلة برئاسة السيدة بهيجة حافظ وخلفها بعد ذلك محمد الكحلاوي، وكان البعض يطلق على هذه النقابة الأخيرة "نقابة العوالم"، لأنها تضم عددا من عوالم الأفراح ومن على شاكلتهم ممن ضاقت عنهم النقابة الأولى.

غلق نقابة المطربين والموسيقيين

أصدرت المحكمة حكما بإغلاق نقابة المطربين والموسيقيين "نقابة العوالم" بعدما تحرر محضرا يؤكد قيام البعض بلعب "الميسر" داخل النقابة، فاستأنف مجلس إدارتها الجديد هذا الحكم، واستقال على الفور نقيبها محمد الكحلاوي بعد حكم المحكمة، وذلك حسبما جاء في مجلة الكواكب عدد 23 يونيه 1953، في باب "حدث هذا الأسبوع" .

وهناك خبر أخر في نفس العدد ونفس الباب يفيد بأن النقابات الفنية الثلاث تسلمت في الأسبوع الماضي نصيبها من "حفلات التحرير" التي أقيمت يوم 23 يناير 1953، فكان نصيب نقابة الممثلين 584 جنيها، ونقابة السينمائيين 584 جنيها، أما نقابة الموسيقيين الأصلية فكان نصيبها 129 جنيها، رغم أن أعضاءها تقاضوا أجورا تزيد عن 2500 جنيه.

عضويات لمن لا يستحق

يتضح من الخبر الأخير أن هناك ثلاث نقابات فنية عام 1953، وهي الممثلين والسينمائيين والموسيقيين، بجانب غلق النقابة الرابعة وهي نقابة العوالم، ولكن يبدو أن هناك ثغرات في القانون المهني الذي وضع أخيرا مشروع النقابات الفنية الثلاث، فظهر خبر ثالث في الصفحة المقابلة في نفس عدد الكواكب يؤكد أن ولاة الأمور سيعيدون النظر في القانون المهني، فقد أبدى بعضهم اعتراضه على ترك باب العضوية مفتوحا بغير رقابة من لجنة تشبه لجنة الجدول.

معركة عبد الوهاب والكحلاوي

نشرنا في مقال سابق الصراع الذي دار بين الموسيقار محمد عبد الوهاب بصفته نقيبا للموسيقيين، وبين المطرب محمد الكحلاوي، وذلك حسبما جاء في مجلة الكواكب عدد 16 فبراير 1954، أي بعد أشهر معدودة من إغلاق نقابة العوالم واستقالة الكحلاوي، فقد أكد الكاتب الصحفي أنور أحمد في مقال له تحت عنوان "هذه المعركة" بأن "خناقة" نشبت بين الأستاذ عبد الوهاب والمطرب الكحلاوي في الأسبوع الماضي حول نقابة الموسيقيين، فقد صدر في العام الماضي قانون نقابات العمال، الذي تنص المادة السابعة فيه على عدم جواز تكوين أكثر من نقابة لأبناء المهنة الواحدة.

فأسرع الكحلاوي بإيداع أوراق نقابته في مكتب العمل، وبذلك أصبح لها كيان قانوني يمنع تكوين نقابة أخرى، فلما أودع عبد الوهاب أوراق نقابته نازعه الكحلاوي في صفة هذه النقابة، بل وطالب بحل نقابة الموسيقيين الأصلية والأستيلاء على أموالها لحساب نقابته .. وتقدم الكحلاوي ببلاغ إلى البوليس يتهم فيه عبد الوهاب وأعضاء مجلس نقابته بمخالفة القانون وارتكاب جريمة الإعتداء على حق الغير، فرد عليه عبد الوهاب برفع دعوى يطالب فيها الكحلاوي بتعويض كبيرلأنه قدم ضده بلاغا كاذبا.

رغم تأكيد أنور أحمد بأن سبب المشاكل هو خضوع أهل الفن لقانون النقابات العمالية آنذاك، وأن تنفيذ قانون نقابات المهن الفنية سيقضي على تلك الصراعات، إلا أن ذلك لم يكن الواقع أو الحقيقة، فالحقيقة تشكلت أولا عندما أغلقت نقابة الموسيقيين الأصلية أبوابها أمام طائفة "العوالم"، فنتج عن ذلك تكوين نقابة موازية وهي "نقابة العوالم"، ويبدو أن عجلة الزمن تعيد نفسها، فما حدث مؤخرا هو صورة من الأحداث القديمة السابقة، فهناك طائفة فناني "المهرجانات"، التي قد عارض البعض انتسابها لنقابة الموسيقيين، وأيضا بعد صدور قرار من النقابة بإيقاف ما يزيد عن 20 منهم عن الغناء في الأماكن السياحية وأقامة الحفلات في مصر .. فمنهم من تقدم لعضوية النقابة "كتصاريح سنوية" ومنهم من لا يرقى إلى مصاف نجوم الطرب المعتمدون في الإذاعة.