الثقافة مدينة كاملة، بها العديد من الشوارع والميادين، لكل منها مسماه الخاص، وذووه وخاصته، الشعر، الأقصوصة، القصة، الرواية، النثر، النقد، الدراسات البحثية، الفنون على اختلاف تعداداتها، لها أيضًا مضامير خاصة بها، كل هذا منظومة كاملة متكاملة، تعطيك رؤية شاملة لهذه الدولة أو تلك، وما هي ثقافات الشعوب، وعلى أي درج تقف، درج صاعد أو هابط، الثقافة هي قراءة جادة لمفردات الشعوب، نحن هنا نتحاور مع كاتب وشاعر وقاص وروائي، إذا هو يمتلك مفردات كبيرة ومتميزة بعالم الثقافة والفكر، والكتابة على تعدد صفوفها، الكاتب الجزائري المعروف (فيصل الأحمر).
إذا أردنا أن نرتاد عوالم (فيصل الأحمر) الإنسانية والإبداعية وحتى إصداراته، ماذا تخبرنا عنها؟
كانت لي تجربة غريبة بعض الشيء، فقد أصبت ببعض التعقيدات الصحية باكرا في حياتي بسبب بعض الأمراض الوراثية التي أرى اليوم وبعد ثماني سنوات من ظهورها بأنني أتعايش معها بشكل معقول جدا، والتجربة هي كتابتي لكتابين في السيرة الذاتية: خزانة الأسرار (2019) وسجلات الخافية (2022)... وقد جاء في العنوان الفرعي أو الملاحظة التجنيسية للكتاب الأول (سيرة شبه ذاتية) وهي ملاحظة أسالت كثيرا من الحبر... أذكر هذا لأنني كنت مترددا بعض الشيء في إتمام تلك النصوص وإخراجها للقراء... كثيرون قالوا إن سن السابعة والأربعين ليس سنا مناسبا لكتابة سيرة ذاتية... أما أنا فكنت انظر إلى الأمر بشكل مختلف تماما: ما كتبته هو شهادة حية حول حياتي... وحول تكويني الثقافي والكتابي، هي شهادة حول ما شاهدته وما قرأته وما(ومن) لعب دورا في حياتي وفي تكويني.
في رأيي أننا لا نعيش كثيرا من التجارب الصاخبة، أو هي صاخبة لكن دون جلبة، تجاربنا المهمة تحدث في الظل مثل كل شيء جميل وعميق ولذيذ ونافع، الأجنة في الأرحام، الخمور والزيوت في بطون حاوياتها، الحكمة في رحم السنين والمحبة بعيدا؛ في مدن القلب والروح الخفية.
أعتقد أننا لن نجد كثيرًا من الأشياء في السيرة الذاتية تبرر ما في الكتب، ولا العكس وارد أصلًا.
كنت قد كتبت كُتيبًا عن الصلة بين الحياة والكتابة عنوانه (حياة في كتابة)2017... وعلى صفحته الأولى دونت ملاحظة أعتقدها تجيب هذا السؤال: لا حياة لي خارج الكتب، كل شيء جميل وجدته أو رأيته وخفت عليه من الضياع فخبأته في كتاب.
لحظة الهرولات الأولى نحو الكتابة مؤكد أنه لم ولن تغادرك، ماذا عن لحظة الميلاد الأولى لك وولوجكم عالم الثقافة الحرب؟
المحاولات الأولى كانت على أيام التعليم الإعدادي ثم المرحلة الثانوية. صدفة وأنت في الثالثة عشرة تكتشف ثلاثة أشياء تعمل متضافرة على جعلك كلمة كتابة أو أدب تترددان بشكل مشبوه حولك... كلمات سوف تتردد حتى تصبح أنت مقتنعا بأنها ظل لمعنى ما يرتبط بك... الأول هو اهتمام مدرس اللغة العربية بمواضيعك الإنشائية التي لم تكن من قبل شيئا مذكورا... وفي أحسن الأحوال تكون قد حظيت فيما قبل بملاحظة عابرة: هو تلميذ متفوق له علامات عالية في كل المواد... "كل المواد" تعبير تجنيسي بائس جدا لأنه يجعلك تشبه الأشياء المبتذلة التي تصبح توصف بـ "عدة أغراض" أو "كل الأشياء".
صدفة سيكلفك أستاذ الموسيقى الذي كان هو أستاذ التربية الفنية أيضا (قبل أن تقرر قوة ما في البلاد أن تحذف هاتين المادتين من المناهج لمدة عشرين سنة من النظام المحارب للأحزاب الإسلامية بسلاح مبتذل: الاستيلاء على مزايدات الإسلاميين والمبالغة فيها، لأجل الظهور بمظهر المتدين، ومن الغريب أن يتفق الإسلاميون وخصومهم في السلطة القائمة على حذف الموسيقى والرسم والتربية الفنية من المناهج)... سوف يتم تكليفك بمهمة جمع وتدوين المواضيع التي سوف تنشر على مجلة المدرسة الحائطية .
والأمر الثالث هو الشغف المباغت في الثالثة عشرة بقراءة الكتب؛ بتلك العادة غير المعهودة في حياتك الغبية السابقة: الغرق لساعات طويلة طويلة مع كتاب...تكتشف أن خلف جدران حياتك المعهودة غرفا كثيرة مدهشة لم تكن أصلا تشك في أنها موجودة.
تبدأ النصوص مترددة... والآراء حولها متضاربة... وقليلون من يدلونك على عيوبك... أغلب من في محيطك لا يدري إن كان العيب عيبا أصلا.
ثم تأتي المرحلة الجامعية فيدخل في حسابك النشر في الجرائد والمشاركة في الملتقيات، وهذا هو المحك الأساسي والرئيس... لأنه يتم فضحك أمام العالم جملة جملة... لحظة لحظة... هنا تجبر على رفع سقف تحديات النص.
ما هو يا ترى الكتاب الأول الذى جذبك وفتح أمامك باب القراءات وبشغف، ماهو، وهل مازلت تحتفظ به وتعود إليه؟
أعتقد أن هنالك ثلاثة كتب قد رسمت لي مسارا معينا التقيت بها في مفترق الثالثة عشر والرابعة عشر: راقصة المعبد لتوفيق الحكيم، مغامرات آرسان لوبان، ورواية جول فيرن "من الأرض إلى القمر" لا أدري لماذا هذا الترتيب، ولماذا أتتني هذه الكتب تحديدا من قبل أساتذتي في تلك المرحلة، يبقى أن عالم الكتابة بالنسبة لي سيكون دوما عالما تأمليا يربط أفكارا مركبة وداكنة مثل الحياة والموت بأفكار حمراء وردية مثل صورة جسد المرأة الراقصة في مسرحية توفيق الحكيم، هنالك في أدبي كله على ما أعتقد كاتب لا يتحرك كثيرا؛ جالس يتأمل ويتكلم بطريقة ذكية، شخصية تشبه شخصية بطل مسرحية توفيق الحكيم الذي يشبهنا نحن الكتاب جميعا: أشخاص كل مغامراتهم تحدث داخليا، يتأمل امرأة بهيجة تثيره فيكتب لتتحول المكتابة إلى شيء يشبه اللذة الجنسية أو يشبه طاقة الحياة الخلاقة، او شيئا كمثل هذا مع آرسن لوبان انطلق لدي هاجس التحقيق الذي هو محرك كتابي بامتياز، سواء لدي أنا على المستوى الشخصي أو على مستوى الكتابة في مطلق أمرها، فالكتابة هي دوما عملية تحقيق تقيمه الكلمات في العالم الملموس، تحقيق تقوم به الكلمات لكشف شيء ما (جريمة؟) يتستر في عالم الموجودات.
أما عن جول فيرن فقد أخذت فكرة جديدة تماما، وهي أنه يمكن للرواية ألا تشبه عوالم الأفلام المصرية والغربية التي كنت متعودا عليها، يمكن للرواية أن يكون فيها أناس غريبو الأطوار هم علماء لا تهمهم قصص الحب، يتحدثون بالأرقام والبيانات العلمية حول طريقة إطلاق قذيفة تصل إلى القمر، كم كان ذلك الاكتشاف رائعا.
هذه الكتب الثلاثة لا تزال في مكتبتي أنظر إليها دوما نظرة استغراب وتعجب؛ وأسأل نفسي: ماذا لو أن ما وقع بين يدي ساعتها هو كتب ثلاثة أخرى. كيف كانت الأمور ستكون يا ترى؟
كتاباتك الأولى قبل النشر، كيف كان رد الفعل على أسرتك الصغيرة وأصدقاؤك المقربين؟ من أول ما آمن موهبتك؟
في مرحلتي الجامعية، ومنذ عامي الأول في جامعة قسنطينة العريقة شرعت في نشر نصوص كثيرة منها ما هو مقالات أدبية وفكرية أبانت عن ثقافة لا بأس بها وأسلوب ذكي جذاب في التحرير بالنسبة لمتوسط الكتاب ولمن هم أترابي، ومنها ما هو أشعار، وكثير منها كان قصصا يبدو أنها كانت على درجة عالية من الجودة، وهذه القصص هي التي دفعت شخصين ممن كانوا مشرفين على الصفحات افبداعية ساعتها احدهما الكاتب الصحفي الشهير الطاهر يحياوي الذي كان ينشط ساعتها رابطة إبداع التي كانت أنشط جمعية في ذلك الوقت البائس، والثاني هو المسرحي الأكاديمي الشهير احسن تليلاني، وكلاهما كان يقولها علنا: نصوصك على درجة من النضج تجعلك مجبرا على التفكير في تحرير كتاب للنشر بدلا من نصوص مختصرة مبتسرة مجهظة بالضرورة لأجل احترام مساحات النشر في الصحافة.
المرحلة الموالية ستكون بعد حوالي عشر سنوات في عام 2002 حينما سيشرع الكاتب الكبير الطاهر وطار في نشر عملي الروائي الأول: رجل الأعمال متحديا لجنة القراءة التي اعترضت على العمل بسبب الكلام النابي الذي كان فيه، وسوف يقول جملة هامة ساعتها (أعتقد أن ذلك كان في عام 2004)؛ فقد سئل في بعض الحوارات عمن يرشحهم لخلافته روائيا فأدرج اسمي ضمن قائمة فيها أربعة أسماء روائية شابة، وكان ذلك من أعلى الأوسمة التي علقت على صدري في سنواتي الأولى.
عد بنا إلى إصدارك الأول، ما هو؟، وكيف كان صداه عليك وعلى محيطك العائلي والنقاد والصحافة الأدبية ربما؟
كان كتابي الأول ديوانا شعريا عنوانه "العالم تقريبا!"...احتوى على كل نقاط القوة التي لا بد منها في ديوان البدايات وضم كل النقائص الممكنة المتوقعة لأول الغيث الشعري... كان ديوانا يحمل نبرة خاصة: شعر متهيب من الإيقاع والنغمية التي كثيرا ما تمحو ملامح الشعراء فتجعلهم جميعا سلالة واحدة، وفيه تحد صارخ لقواعد الشعر التي كانت مهيمنة منذ الستينيات حتى التسعينيات (هو ديوان صدر في عام 2000 م )... ولكنه ديوان متسرع جدا، فيه كثير من الآثار الظاهرة لشعراء كنت مولعا بهم من أمثال: محمود درويش، عبد الله البردوني والشعراء السيرياليين.
حينما تكتب مؤكد لك رؤى ذاتية ورسائل من خلال كتاباتك، ما هي هذه الرؤى وهذه الرسائل؟، وهل وصلت رسائلك كما أردت؟
سبق أن كتبت شيئا في جريدة لندنية كنت أقول فيه ما فحواه أن الكتابة عندي كما هي الحال عند غيري من الكتاب لا تخرج عن أن تكون إحدى ثلاثة أشياء متكررة دون ملل؛ هي توثيق لحيوات ووقائع أو مشاعر كان الكاتب شاهدا عليها يخشى عليها من الضياع على أديم الزمن، أو هي تأمل فلسفي في الحياة يهدف إلى البت في المتشابهات والمتداخلات أو مراجعة بعض المسلمات، أو هي محاولة لوضع كلمات على أشياء حميمية جدا تستعصي على القول... الكاتب الأول مدون اجتماعي والثاني مفكر والثالث شاعر يهدف إلى فتح النوافذ الداخلية وإفشاء الأسرار الجميلة التي تختفي داخل علب وجودنا المتناهي في السرية. شخصيا أميل إلى الدورين الثاني والثالث، وأحد المشاكل الكبرى التي أعاني منها هي إيجاد منتصف الطريق بين التأمل الفلسفي وبين النزعة التسجيلية التي تنقل الأحداث والوقائع... بحثا عن كتابة حية متفاعلة مع المحيط بحساسية عالية ولكنها كتابة فلسفية تدعونا للتفكير في الإنسان وفي الزمن.
وأعتقد أنني في رواياتي الأخيرة "حالة حب" و" النوافذ الداخلية" ثم "ضمير المتكلم"... وكذا في كتابي السيرذاتيين "خزانة الأسرار" و"سجلات الخافية"... أعتقد أنني قد اهتديت إلى منتصف الطريق بين الهاجسين. فنحن أمام رواية أو فصل أو مقال أدبي ذي شكل جمالي عال، أو نص ببعد تجريبي، ولكنها تبقى نصوصا تقرأ بيسر كبير، مقطعة بشكل تجريبي ولذيذ إلى لقطات صغيرة أو كبيرة وفقرات قصيرة، مشبعة بلغة شعرية تتماشى وإيقاع المشاعر مع محاولات الوفاء داخل الكتاب لما هو في الحياة كما يقول فريديريك جيمسن.
كتبت الشعر، القصة، الرواية، الدراسات البحثية والنقدية، وتميزت، أين تجد نفسك اكتر؟
طريقي صوب النص ليس مؤثثا بالتفكير الأجناسي... أنا أدخل في حالة قلق تبحث لها عن أصداء في عالم الكتابة... كلمات... أطياف جمل... أشكال هلامية بلا ملامح... أصوات هائمة في وديان الكتابة السحيقة ... ثم تبدأ الأشياء بالاتضاح حسب نواميس صعب جدا وصفها ووصف عملها... أما لحظة الكتابة التي يظهر فيها ما سأكتبه، ويخطو الخطوة البسيطة الأخيرة التي هي اختيار الجنس أو النوع الكتابي فما هي إلا جزء متناهٍ في الصغر من المسار الكتابي... وكما دونت ذلك في أكثر من مناسبة فإن الإبداع حالة تواصل مع العالم، هو علاقة جمالية مع الوجود، عين لغوية مسلطة على الكائنات تهدف الى خلق بعد إضافي إلى البعد الفيزيائي الملموس الذي نعيشه بالحواس الخمس ونتلقاه باللغة المتعارف عليها...الإبداع بهذا المفهوم يمكنه أن يمثل الحياة بإيقاع الروح بدلا من إيقاع الجسد الذي نتعود على كونه صامتا مصمتا...في ضوء هذا المفهوم تصبح الأشكال الأدبية التي تعودنا على إعطائها قيمة كبيرة مجرد وسائل لخلق معان غير مألوفة، ولاستنطاق الجوانب الصامتة في الحياة العادية المفرغة من المعنى...وهذا ما يفسر مثلا تقسيم أعمالي بين الرواية، ورواية الخيال العلمي بالدرجة الأولى وبين الشعر ، وشعر الهايكو رأسا...وإن كان المتأمل للاثنين يجد ببساطة انهما كلاهما مقاربتان فلسفيتان للعالم، مقاربة تنفي الواقع المألوف لوضع اليد على الواقع النابي النادر الذي لا عهد لنا به، وهنا يصبح مسارا الخيال العلمي والهايكو متطابقين؛ فهما يقفان أعلى هضبة التأمل والوصف بهدف تجنب الوقوع في مطبات العادي الذي يورث حواسنا ثم عقولنا كثيرا من التبلد.