الأحد 5 مايو 2024

نهر القمر في نيويورك

مقالات7-7-2022 | 14:55

بعض المشاهد والأدوار الأيقونية في تاريخ السينما تظلُّ محفورةً في أذهان وقلوب محبي الفن السابع مهما مَرَّ الزمان.

يطلقُ النقَّاد تعبير «signature role» على هذه الأدوار المقترنة بنجمٍ أو نجمةٍ معينين ولا يتخيل المرء سواهم في هذا الدور، ولاسيَّما حينما يرتبط المشهد بموسيقى تصويرية ناعمة يعشقها الملايين حول العالم، ومنها مشهد النجمة أودري هيپبورن في فيلمها الشهير «الإفطار عند تيفاني Breakfast at Tiffany's» من العام 1961، في دور «هولي جولايتلي» وهي تعزف على الجيتار جالسةً على إفريز نافذتها وتشدو بالأغنية المحببة لقلوب الجماهير«نهر القمر Moon River».

أحداث الفيلم مستمدة من نوڨيلا للكاتب الأمريكي ترومان كابوتي، والتي تحمل نفس العنوان وصدرت في العام 1958، ولكن السيناريو بَدَّلَ كثيرًا في شخصية «هولي» بما يناسب الطابع الكوميدي والاجتماعي للفيلم.

مَثَّلَ هذا الفيلم نقلةً كبيرةً لأودرى هيبورن، وخاصةً بعدما تعرضت أفلامها السابقة له لردود فعلٍ نقديةٍ قاسيةٍ، كما كان يحمل طابعًا أمريكيًّا خالصًا على عكس ما تتسم به معظم أفلامها من أجواء أوروبية.

تدور الأحداث حول حياة سيدة المجتمع «هولي جولايتلي»، ذات الأصول الريفية من تكساس، والتي تترك أهلها وتغادر إلى نيويورك مدفوعةً بالرغبة في الثراء والزواج من أغنى رجل في العالم، وتنغمس في حياة اللهو والعبث الليلي، ولا تعود إلى بيتها كل يوم إلا مع بداية الصباح، بعد أن تتناول إفطارها وقهوتها وهي تقف أمام واجهة متجر تيفاني تتأمل المجوهرات المعروضة، كما في المشهد الافتتاحي. تلتقي بجارها في المسكن وهو كاتب شاب طموح يُدعى «بول فارجاك» تدعمه ماديًّا صديقة تكبره في العمر، تبدأ قصة حب فيها الكثير من الشد والجذب بين «هولي» و «بول» رغم اختلاف ميولهما وقناعاتهما حيال مفاهيم الحب والاستقرار والانتماء.

بعدما قرأت أودري هيبورن الرواية  تخوفت من أداء الدور، إذ كانت «هولي» في الرواية فتاة ليلٍ وذات طبيعةٍ منفتحةٍ بعكس شخصية أودري المنطوية، وتركز الرواية على ما تعانيه الأرواح من ضلالٍ وتيهٍ مريرين في مجتمعٍ ماديٍّ فظٍّ.

 بل إن الكاتب ترومان كابوتي كان يرى أن شخصية «هولي» ذات السمات القاسية الصعبة كان من الأفضل إسنادها إلى مارلين مونرو، والتي كانت أجدر بالدور في رأيه خاصةً لما في الرواية من طابع seriocomic  أي يجمع بيد الجد والهزل، لولا تفضيل شركة باراماونت لأودري هيبورن ضد رغبته. 

تطلب الأمر من أودري هيبورن بضعة أسابيع من المواظبة على تمارين الصوت وعزف الجيتار بعد اقتراح فكرة المشهد الشهير من المخرج بليك إدواردز والموسيقار هنري مانشيني، وتأجل تسجيل الأغنية وتصوير المشهد إلى أن تأكدت أودري من قدرتها على الأداء بثقةٍ كافيةٍ، وأنها تقدم أفضل ما لديها.

اعتبر هنري مانشيني استلهامه لموسيقى «نهر القمر» أمرًا فريدًا في مسيرته الفنية، إذ بمجرد قراءته للسيناريو كان يعرف جيدًا ما سيؤلفه، وقدمت له أودري هيبورن بعينيها الجميلتين دفقات كبيرة من الإلهام جعلته أكثر عاطفية مما هو عليه. كان مانشيني معتادًا على تأليف الموسيقى التصويرية بعد مشاهدة أي فيلم بالكامل، ولكن اختلف الأمر مع فيلم «الإفطار عند تيفاني»، وحينما التقى بأودري للمرة الأولى كان واثقًا أن الأغنية ستكون ذات خصوصيةٍ، لتيقنه من إمكانيات صوت أودري هيبورن في تقديمها على نحوٍ جميلٍ يتسم بالشجن بلا أملٍ، ولتشجيعها اقتصر لحن الأغنية على مساحة أوكتاف واحد.

كانت المفارقة الغريبة في العرض الأولي للفيلم في رغبة مدير الإنتاج في حذف مشهد الأغنية من الفيلم، بل ومعظم الموسيقى التصويرية، الأمر الذي اعترضت عليه أودري هيبورن بشراسةٍ وقالت أنه لن يحدث إلا على جثتها، وبالطبع امتثلت الشركة لرغبتها في نهاية الأمر.

كتبت أودري رسالةً إلى مانشيني مشيدةً بموسيقاه الساحرة: «فيلم بدون موسيقى كطائرة بدون وقود. مهما كان جمال الأداء إلا أننا ما نزال على أرض الواقع، لكن موسيقاك حَلَّقَتْ بنا عاليًّا. ما لا نستطيع قوله بالكلمات أو أدائه بالتمثيل قد عَبَّرْتَ أنتَ عنه بنغماتكَ بالنيابة عنا في خيال ومرح وجمال. شكرًا لكَ يا هانك.»

شَكَّلَتْ كلمات أغنية «نهر القمر» للشاعر الغنائي المعروف جوني مرسر نقطةً محوريةً هامةً في مسيرته وإعادة انطلاقٍ جديدةٍ له، بعد توقفه عن كتابة الأغاني في منتصف خمسينيات القرن العشرين مع انتشار موسيقى الروك أند رول.

ثم جاء تتويج النجاح بأن فازت أغنية «نهر القمر» بجائزة أوسكار أفضل أغنية للعام 1961، وفي العام التالي نالت جائزة جرامي. فمنذ عرض الفيلم أمام الجمهور للمرة الأولى وحتى الآن يبقي مشهد أودري هيبورن عازفةً على الجيتار وصوتها يتدفق بمزيجٍ من مشاعر الحنين والإحساس بالضياع والتوق لما هو أجمل في المستقبل ماثلًا بجلاء لا ينقطع أمام محبي السينما.

قَدَّمَ المخرج بليك إدواردز كل ما يضمن نجاح الفيلم؛ من الروح الكوميدية الخفيفة، إلى الاحتفاء بأجواء نيويورك وصخبها ومباهجها، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة مولعةً بكل ما هو جديد، مع الالتزام بالكود الأخلاقي المتفق عليه في هوليوود في تلك الأيام. ورغم التباين الضخم في شخصية «هولي» ما بين الرواية والفيلم إلا أن أودري هيبورن قدمت دورًا لا يُنْسَى بتجسيدها لمشاعر تلك الشخصية الجامحة ذات الطبيعة البرية التي لا تعرف القيود، ولكنها ترضخ للحب والانتماء في نهاية الفيلم في مشهدٍ تحت المطر مع نغمات وكلمات «نهر القمر» المحببة لقلوب عشاق الفن حول العالم حتى وإن كانوا لا يعرفون قصتها وما صاحبها من ملابسات جديرة بالتذكر.