الأربعاء 26 يونيو 2024

قيادة محترمة .. وأسلحة حديثة .. وإصرار على استرداد الأرض هكذا أعاد «الزعيم» بناء الجيش

23-7-2017 | 17:44

بقلم –  لواء د. نصر سالم

بعد مائة عام من الحملة الفرنسية على مصر، وهى الحملة التى فتحت عيون العالم على مصر وعيون مصر على العالم. كان مصطفى كامل يناضل الاستعمار البريطانى، وكان المؤمنون بالقومية العربية يرون أن الروابط الحقيقية تأتى من القومية التى تضم الشعوب داخل الوطن العربى بمسلميه ومسيحييه، ثم كانت الهجمة الصهيونية على العالم العربى وتطور الثروة الهائل نتيجة اكتشاف البترول وما تبعه من مظاهر البذخ والثراء فى الدول البترولية الذى أدى إلى قيام الحواجز بين الدول العربية.

بعثت هذه التناقضات الغليان فى العالم العربى، وأشد ما كان هذا الغليان فى مصر وما أحدثه من أثر عميق فى الروح المصرية.

كان ثمة توق إلى الحرية وإلى الكرامة وإلى حق الفرد فى أن يكون فخوراً بنفسه وببلاده.. لكن الأمل فى ذلك كان ضئيلاً.

كان الملك فاروق يحكم مصر، نصف فى المائة من سكانها يستأثر بنصف الدخل القومى كله وكان الفساد قد استشرى وترعرع فى ظل الحرب العالمية الثانية، والأحزاب السياسية هوت وانهارت وراحت تهيم بلا هدف ولا غاية وكانت القوى الحاكمة فى مصر وقتها هى السفارة البريطانية والقصر الملكى وحزب الوفد.

وجاء حادث ٤ فبراير عام ١٩٤٢ ودخول الدبابات الإنجليزية إلى قصر الملك، واضطراره إلى الخضوع للإنجليز وتعيين مصطفى النحاس رئيساً للوزراء.

كان تأثير هذا الحدث فى المصريين ساحقاً ومدمراً وخاصة فى الضباط الشبان فى الجيش المصري، حيث قرر أحدهم وهو «جمال عبدالناصر» ألا تتجرع مصر قط كأس الذل مرة أخرى بهذه الطريقة.

وبدأت حركة الضباط الأحرار كحركة متكاملة منذ هذا التاريخ، وبدأ «عبدالناصر» يخطط للثورة، وأخذ يبحث عن القوى الوطنية التى يستطيع التعاون معها وكانت جماعة الإخوان المسلمين تحظى بدعم وتأييد شعبى، كما انجذب أيضا للشيوعيين غير أن أسلوب الإخوان فى التفجيرات والاغتيالات لم يلائم ميوله.

وكان مقته للإرهاب هو الذى أنقذ حياة الملك فاروق ليلة خلعه من العرش ذلك أن كثيرين من الضباط الأحرار كانوا يرغبون فى قتله، إلا أن عبدالناصر هو من دافع عنه ليس من أجل شخصه ولكن ليحفظ للثورة طهارتها من الدماء التى كانت ستطال من هم وراء فاروق.

تلك كانت طبيعة العالم الذى اقتحمه عبدالناصر ليلة الثانى والعشرين من يوليو ١٩٥٢ ليلة ارتدى بدلته العسكرية وودع زوجته وأبناءه، وأودع أخاه ما كان لديه من مال (٣٠ جنيها) ليعنى بأمر عائلته إذا ساءت الأمور ومضى لينقذ الثورة. وفى الوقت الذى رأى فيه أعضاء مجلس قيادة الثورة أن يقوموا بانقلاب كلاسيكى فيحتلوا القصر الملكى وبقية الدوائر الحكومية، رأى عبدالناصر أن النجاح يأتى من السيطرة على الجيش، وهكذا ركزوا على احتلال قيادة الجيش ومحطة الإذاعة وكان رأيه «إذا سيطرنا على الجيش انتزعنا العصا التى كان الملك يهدد بها الشعب».

ولو أنهم احتلوا القصر لحدث تبادل نيران وأريقت الدماء.

وعندما انكشف أمر الثورة قبل موعدها وعلم بها الملك ورجاله وأرادوا القبض على الثوار والفتك بهم، كان قرار عبدالناصر هو التقدم للأمام وإتمام الثورة قبل موعدها، وليس الرجوع للخلف.

وبعد نجاح الثورة.. كانت شجاعته فى مواجهة الموت فى حادث المنشية عام ١٩٥٤، طريقه إلى حب الناس والالتفاف حوله.

لقد بدأ صراعه مع الإنجليز حول الجلاء عن منطقة القناة ورفض الانضمام إلى حلف بغداد، ثم إصراره على بناء السد العالى وقرار تأميم قناة السويس ليواجه العدوان الثلاثى الذى جمع إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، ويكسب انتصارا سياسيا دوليا ساحقاً، فقد دمر آخر قواعد الاستعمار فى مصر وأصبح زعيم العرب بلا منازع وواحداً من القادة السياسيين فى العالم.

أما دور عبدالناصر فى بناء جيش مصر الذى كان أحد مبادئ الثورة الستة والتى قامت من أجلها «هو بناء جيش وطنى قوى سليم» لذا كان شغله الشاغل بعد الثورة هو كسر احتكار السلاح وإمداد جيش مصر بسلاح حديث يستطيع أن يواجه به ما يواجه مصر من عدائيات وتهديدات فعقد أول صفقة سلاح شرقى مع الاتحاد السوفييتى وكانت أسلحة تشيكية حديثة، ومنذ ذلك التاريخ وقوى الشر تدبر لهذا الجيش المؤامرة تلو الأخرى، فبعد صمود الجيش فى مواجهة العدوان الثلاثى وما أحدثه من مكاسب لمصر بعدها، وخروجه إلى خارج الحدود للوقوف إلى جانب الشعب اليمنى فى ثورته، كانت أسبابا كافية لأن تخطط الولايات المتحدة الأمريكية ما عرف بـ «خطة اصطياد الديك الرومي» التى نفذتها إسرائيل فى يونيه ١٩٦٧ - وأجهزت على جيش مصر الذى كان لسوء مستوى قيادته وقتها سبب لهذه الهزيمة أقوى من كل الأسباب التى امتلكها الأْعداء.

ويتحمل عبدالناصر المسئولية كاملة ويعلن ذلك على الشعب ويقرر التنحى عن الحكم ويفسح الطريق لقيادة أخرى.. ولكن الشعب يرفض الهزيمة ويصرخ فى زعيمه ابق مكانك ما هاهنا يترك الربان سفينته وسط الأنواء العاتية. ويعود عبدالناصر، بأمر الشعب ليبنى لمصر جيشها من جديد ويزيل آثار النكسة استعداداً لتحرير الأرض.

كانت نقطة البدء بعد حرب يونيه مباشرة - هى إعادة بناء القوات المسلحة بعد أن فقدت الجزء الأكبر من أسلحتها ومعداتها وفقدت الثقة فى قياداتها. وتحطمت الروح المعنوية لرجالها. فكانت خطوته الأولى هى عزل القيادات التى كانت سبباً فى الهزيمة من مناصبها وتعيين قيادة جديدة تتميز بالانضباط والعلم العسكرى الغزير. وكان البناء النفسى والمعنوى للرجال من أشق الأعمال وأكثرها أهمية أمام القيادة العامة للقوات المسلحة والقيادات التى تولت القيادة بعد الحرب. وكان من الضرورى تعيين قيادات عسكرية محترفة قادرة على القيام بمسئولياتها بدءاً من القائد العام حتى قادة التشكيلات فى أفرع القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية وأخذت الأمور تسير فى طريقها الصحيح الذى يؤدى إلى تحقيق الأهداف القومية وإعداد الدولة وقواتها للحرب، وهكذا عادت المفاهيم العسكرية الصحيحة لتصبح هى السائدة بعد أن كانت مفقودة قبل حرب يونيه، وبهذه الروح الجديدة أعيد البناء. وبعد دراسة وتحليل قدرات العدو وقدراتنا فى ذلك الوقت والمستقبل المنظور، تقرر إنشاء قوة جديدة هى «قوات الدفاع الجوي» لمواجهة قوات العدو الجوية المتفوقة. وهذا يعنى تفرغ قيادة القوات الجوية لإعادة بناء قدراتها تنظيماً وتسليحاً وتدريباً وإعداداً للقتال وإنشاء وتجهيز المطارات، وأصبح لدينا قوتان تعملان ضد السلاح الجوى الإسرائيلى. وقد أثبتت هذه التجربة نجاحها الرائع فى حرب أكتوبر ٧٣ وكان من أبرز الموضوعات التى عولجت وقتها هو توجيه المخابرات الحربية إلى عملها الرئيسى فى جمع وتحليل المعلومات عن العدو، وبعد أن كانت نقطة ضعف القوات المسلحة قبل حرب يونيه ١٩٦٧ أصبحت من أكبر نقاط قوتها فى نصر أكتوبر ١٩٧٣.

لقد أسرع الاتحاد السوفييتى بإمداد مصر بالأسلحة والمعدات تعويضاً عما خسرناه فى حرب يونيه ١٩٦٧ مع إعطاء الأسبقية لطائرات القتال وأسلحة الدفاع الجوع ويلى ذلك أسلحة المدفعية والدبابات والمعدات اللازمة لتقوية الدفاعات فى منطقة القناة.

وأمدنا الاتحاد السوفييتى بعد المعركة مباشرة بـ ٢٥ طائرة ميج ٢١ وعدد ٩٣ طائرة ميج ١٧ وتم الاتفاق على إرسال ٤٠ طائرة ميج ٢١ جديدة.

ولكن هذه الطائرات كانت من الناحية الفنية أقل كفاءة مما لدى إسرائيل من حيث المدى أو القدرات النيرانية، لذا طلب عبدالناصر نوعاً جديداً من الطائرات القاذفة المقاتلة بعيدة المدى حتى لا تبقى إسرائيل متفوقة وقادرة على ضربنا بينما نحن لا نستطيع الرد عليها.

وفى الوقت الذى كان يتم فيه إعادة بناء القوات المسلحة، كان التخطيط لأعمال القتال يسير بخطى ثابتة تتمشى مع نمو قدرات القوات. وبذل عبدالناصر جهداً كبيراً لسرعة إعادة البناء.

وبرغم أن هذه المرحلة كانت تتطلب الحفاظ على هدوء جبهة القتال، إلا أنها شهدت بعض المعارك التى أثبتت للعدو أننا لسنا جثة هامدة بل مازال لدينا القدرة على القتال، ومن هذه المعارك.

معركة رأس العش، وهى المكان الوحيد فى سيناء الذى لم تكن إسرائيل قد احتلته جنوب مدينة بور فؤاد، فدفعت قوة مدرعة مدعمة لاحتلالها فتصدت لها قوة من الصاعقة المصرية دمرتها وأفشلت الهجوم.

أما القوات الجوية فقد قامت بتنفيذ عدد من الطلعات بأعداد تصل إلى ٢٠ طائرة فى الطلعة ضد تجمعات دبابات العدو وعرباته المدرعة واشتبكت مع طائرات العدو وأصابت له طائرتين فى رد عملى وإشارة واضحة لإسرائيل أن قواتنا الجوية ببقاياها من حرب يونيه - لم تفقد قدرتها على القتال - كان ذلك يومى ١٤، ١٥ يوليو ١٩٦٧.

أما القوات البحرية فقد كان لها شأن آخر يوم ٢١ أكتوبر عام ١٩٦٧ حين خرج لنشان صاروخيان من قاعدة بورسعيد البحرية وتصديا، للمدمرة إيلات الإسرائيلية - التى حاولت استعراض قواتها أمام شواطئنا، فأغرقاها وعليها طاقمها داخل المياه الإقليمية المصرية.

إن عبدالناصر الذى غادر دنيانا يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ - لم يكن قرير العين فقط لأنه حقن دماء الفلسطينيين والأردنيين وأعاد الود والسلام بينهما، ولكنه كان قد فعل ما فوق طاقة البشر فى إعادة بناء قواتنا المسلحة، وأصبح مطمئناً من قدرتها على استعادة الأرض وحماية العرض.