تَجري الرِياح بِما لا تَشتهي السفن، فرياح التغيير التي هبت من تونس تحولت إلى تسونامي مدمر على معظم الدول العربية، لم ينج من آثاره بلد وإن كانت القاهرة قد امتصته وتجاوزته بصعوبة بالغة، لكنه أكل الأخضر واليابس في كل من حلب، طرابلس، صنعاء، فسُحب اليأس والإحباط تجمعت في سماء المنطقة التي وقعت شعوبها فريسة لأنياب الفوضى وأوهام التغيير.
(1)
ولنتأمل تجربة تونس الخضراء بشكل خاص، حيث هلت 2021 والمشهد السياسي التونسي ضبابي بالكامل ومناخها الاجتماعي ملبد بالغيوم وانسداد الأفق، فالتدهور الاقتصادي والفساد الإداري يخيمان على الأجواء العامة بعد "العشرية السوداء" من سيطرة حركة النهضة على مفاصل الدولة.
ومع تولي "قيس سعيد" أستاذ القانون، ابن الطبقة الوسطى، الذي ليس له حزب ولا ينتمي إلى أي تيار سياسي ولكنه يمتلك ظهيرا شعبيا معتبرا يثق فيه كرئيس نظيف اليد وناصع الذمة، في مواجهة قوة الفساد والرجعية المتأصلة.
وبسبب رفض سعيد التعديل الوزاري بتغيير 11 وزيرا وما نتج عنه من صراع على الصلاحيات الدستورية بينه وبين "هشام المشيشي" رئيس الوزراء المدعوم من نواب البرلمان المنتمين لحركة النهضة، وكنتيجة لفشل الحكومة في مواجهة (كوفيد -19) وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وخروج مظاهرات ضدها، استغل قيس الموقف فأقال رئيس الوزراء وأمر بتجميد أعمال البرلمان. وعين "نجلاء بودن" رئيسة وزراء لتكون أول سيدة تتولى هذا المنصب عربيا. ودخلت تونس في حالة من عدم الاستقرار بعد تكوين جبهة الخلاص المعارضة، وإصدار حكم قضائي بحبس المنصف المرزوقي وإلقاء القبض على رئيس الوزراء السابق حمادي الجبالي.
(2)
وبالالتفات بالذاكرة إلى منتصف القرن الماضي وبعد إزاحة آخر بايات تونس محمد الأمين باي، تولى الحبيب بورقيبة رئاسة الجمهورية، وكان لديه مشروع ضخم لبناء دولة مدنية حديثة، فتم وضع دستور عصري سنة 1959، وخصص 30% من ميزانية الحكومة للتعليم المجاني ووضع خطة للتطوير لمدة 10 أعوام تحت إشراف الأمين الشابي، مما صنع طبقة وسطى عريضة ذات ثقافة رفيعة محبة للفن والحياة استمرت لأجيال وأجيال.
وفي الجانب الاقتصادي اتبع النظام الاشتراكي المسمى "التعاضد" بإدارة الوزير "أحمد بن صالح" فتى بورقيبة المدلل فعمل على بعث طرق حديثة في الزراعة وبنى مصانع متطورة للسكر والفوسفات، ولكن التجربة فشلت وحوكم بن صالح بتهمة الخيانة العظمى وسجن شهورا قبل أن يهرب إلى الجزائر. وقد اهتم الحبيب اهتماما بالغا بتحرير المرأة، وانتشل الكثير من التونسيات من براثن الفقر والجهل ودفع بهن إلى التعليم الجامعي، وأسهم في إصدار قوانين تقدمية بعضها مثيرة للجدل مثل التبني وإلغاء تعدد الزوجات ومنح النساء الحق في الإجهاض، ولم تخل شخصية بورقيبة من مسحة دكتاتورية مثل أقرانه في ذلك الوقت حيث بطش بخصومه مثلما فعل مع رفيق كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي الصالح بن يوسف، الذي تحول إلى خصم لدود للرئيس وانتهى أمره في سويسرا مقتولا. كما وقع الحبيب كدأب غيره من الحكام أسيرا لسحر الكرسي فعض عليه بالنواجذ حتى بلغ من العمر أرذله وأصيب بـ ألزهايمر، وقلب الطاولة على الجميع من حوله، عندما نفى ابنه للخارج، وأبعد سكرتيره وكاتم أسراره علال العويتي، وطلق زوجته "وسيلة بن عمار" رفيقة عمره ودربه التي كان لها دور مؤثر في تعيين وعزل الوزراء والسفراء وبقية شؤون الحكم، ثم ارتكب الذنب الذي لا يغتفر عندما عدل الدستور ليظل يحكم تونس مدى الحياة! حتى أتى "بن علي" لينزعه نزعا من الكرسي، وبالرغم من كل ذلك فما زال يحظى بقدر كبير من احترام وحب التونسيين ولقب بـ "المجاهد الأكبر" فهو الحبيب الحبيب، تمتع بكاريزما خاصة وبلاغة في ارتجال الخطابات التي تدخل القلوب، كما أنه عاش ومات وذمته المالية نظيفة.
أما في بداية الثمانينيات، لمع دور الوزير الأول محمد مزالي الذي قال عنه بورقيبة إنه خليفته في الحكم وكان قاب قوسين أو أدنى من كرسي الرئاسة، ولكن تآمرت عليه مجموعة زين العابدين مع بنت أخت الرئيس "سعيدة ساسي" وخلع وقبض على ابنه وصهره، ونجح هو في الهرب الى الجزائر متنكرا، وفي غفلة من الزمان يتم تعيين "بن على" رئيسًا للوزراء في نوفمبر 1987 وبعد شهر واحد من توليه المهمة يستغل الحالة الصحية لبورقيبة ويخلعه ويستولي على السلطة فيما عرف بـ "الانقلاب الطبي". ومن مفارقات الحياة أن يعيش بورقيبة 13 عاما بعد عزله إلى أن توفي سنة 2000 عن عمر 97 عاما
(3)
بدأ "بن على" حياته العملية ضابطا عاديا تزوج من نعيمة الكافي بنت جنرال في الجيش التونسي، ثم تمت ترقيته وعمل في المخابرات، وبعدها وزيرا للداخلية ثم طلق نعيمة بعد 25 عاما من العشرة، وتزوج من ليلى الطرابلسي
وافتتح حكمه بالتصالح مع الإسلاميين وإخراجهم من السجون والإفراج عن كل من الأمين العام لاتحاد الشغل الحبيب عاشور وراشد الغنوشي ورفع الحظر عن النقابات، وأحيا دور جامع الزيتونة، وفي أول زيارة خارجية ذهب للسعودية لأداء العمرة، وللمفارقة كانت المملكة مكان هروبه وملاذه الأخير.
وشهد الاقتصاد في عهده شيئا من الاستقرار وانتعاشا قويا للسياحة الأجنبية، قبل أن يتخذ مظاهرات حرب الخليج الأولى بما صاحبها من أعمال شغب، ثم حادث حريق مقر حزب التجمع حجة لإنهاء شهر العسل مع الإسلام السياسي والزج بهم في السجون، وحظر حركة النهضة والحزب الشيوعي التونسي، ووسط هذه الأجواء حجز الغنوشي تذكرة ذهاب إلى لندن بلا عودة، واختارها منفى له، وفي منتصف الألفية هيمن الفساد وسادت المحسوبية وتوحشت البطالة.
حيث ترك "زين العابدين" حرية التصرف لزوجته ليلى التي سحرته بجمالها وذكائها وأنجبت له الولد الذي انتظره طويلا، ما أدى إلى زيادة نفوذ عائلة "الطرابلسي" فتكونت شبكة مقننة من الفساد استفحلت في جسد البلاد كالسرطان مما دفعه إلى الهاوية، وكانت شرارة السقوط حادثة إشعال "بوعزيزي" النار في نفسه على مسمع ومرأى من العالم.
(4)
وبعد شهور من هروب "بن على" أقبل التونسيون بكثافة على صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في أول انتخابات حرة آملين في مستقبل مشرق لبلدهم على إثر انتخاب المجلس التأسيسي حيث فازت حركة النهضة بـ89 مقعدا من 217 عين "المنصف المرزوقي" رئيسا للجمهورية بصلاحيات محدودة، وشكلت حركة النهضة الحكومة ووضع دستور جديد دامت فترة إعداده عامين، وأثناء تحضيره وفي فبراير 2013 حدث زلزال سياسي باغتيال "شكري بلعيد" ولم تكن تلك حادثة عارضة إذ تبعها في يوليو من نفس العام اغتيال السياسي المعارض محمد براهمي، ودخلت البلاد في دوامة ليس لها من قرار، وكنتيجة طبيعية سقطت الحكومة، وبعد عام حصل حزب نداء تونس بقيادة السياسي المخضرم "الباجي قائد السبسي" على المركز الأول في الانتخابات التشريعية بـ85 مقعدا، وتراجعت النهضة للمركز الثاني بـ69، ثم فاز السبسي بكرسي الرئاسة بعد مساندة معظم قوى التيار المدني معه ضد المرزوقي.
استهل حكمه بحادث متحف باردو الإرهابي الذي قتل فيه 22 سائحا أجنبيا، ورغم ذلك اتبع سياسة التوافق والاعتدال في كل شؤون الدولة، كما انتهج مع حركة النهضة سياسة المُراوحة فكان العداء تارة والملاينة تارة أخرى ثم في النهاية تحالف معهم، وفي تلك الأثناء نال الرباعي الراعي للحوار الوطني التونسي جائزة "نوبل للسلام". وعين الباجي رئيس وزراء قوي "يوسف الشاهد" وفي ذاك الزمان حدث جدل واسع وضجيج شديد من المحيط للخليج العربي بسبب سن قانون المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة بتونس وتلك قصَة وللقصَة قصة! بينما يشتد المرض بالسبسي ويموت وينتهي معه حزب النداء، وتأتي الانتخابات الجديدة بـ"قيس سعيد".
(5)
ولأن يسير قيس سعيد في طريق مغاير ساعيا إلى تغيير دستور الثورة بآخر جديد نظامه رئاسي وكلف "الصادق بلعيد" بإعداده وصياغته، وبعد مرور الاستفتاء على الدستور 2022 بنجاح، فإن الكرة الآن في ملعب الرئيس قيس هل يلم شمل البلاد ويحقق آمال وطموحات الشعب ويدعو لتشكيل حكومة ائتلافية من كل الأطياف، ويغلق صفحة العشرية السوداء، وتتواضع الأحزاب والتيارات السياسية بما فيهم جبهة الخلاص المعارضة و"الاتحاد العام التونسي للشغل" على خارطة مستقبل لإنقاذ البلاد والعباد من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وهل ستأتي الرياح بما يشتهيه التونسيون، وتولد الجمهورية التونسية الثانية في 25 يوليو كما ولدت في الماضي على يد "بورقيبة" لتبقى تونس "خضراء ليلها أخضر وفجرها أخضر" هذا ما ستنبئنا به الأيام المقبلة.
[email protected]