الخميس 9 مايو 2024

علماء مصريون عظماء وقصص نجاحهم الملهمة (8) د. رشدى سعيد ورحلة عمر


د.حامد عيد

مقالات7-8-2022 | 14:45

د حامد عيد

"فتنه نهر النيل منذ الشباب وتاق لمعرفة أسراره فخرج لمتابعته فى أول رحلة خارج مصر؛ وأراد أن يعرف كيف نشأ هذا النهر؟ ومتي كانت بداياته؟ وكيف وصل الي  حاله الذي نراه اليوم؟ وماذا كان شكل الوادي والدلتا قبل أن يصلهما الإنسان؟ "

 

  • د. رشدى سعيد واحد من جيل العملاقة الذى قدم لوطنه الكثير من الكتابات العلمية المهمة فى مجال الجيولوجيا والعلوم والسياسة، حيث ربط مسار تجاربه التى خاضها ومر بها. وقد تناولت كتابات كثيرة سيرة الرجل بكل الفخر والتقدير لشخصه وعلمه وانجازاته، ولحسن الحظ انه سجل حياته العلمية والسياسية والشخصية فى كتابه الذى كتبه في الأصل باللغة العربية ثم تُرجم للانجليزية تحت عنوان "رحلة عمر.." فكان بمثابة تقرير ووثيقة مهمة ومثل قيمة كبيرة لمؤرخي مصر من حيث البصيرة التي يقدمونها فى كتابة المذكرات.

 

 

  • ويعد سعيد من أبرز من أنجبتهم مصر في مجال علوم المياه والتعدين، حيث أثري العالم الكبير المكتبة الجيولوجية والثقافية بمجموعة كبيرة من المؤلفات العلمية، وله العديد من المقالات الصحفية في العديد من الدوريات المصرية، كما نشر له أكثر من 100 بحثا علميا في العلوم الجيولوجية.

 

  • كتب بالإنجليزية والعربية عدة كتب منها: ملاحظات تفسيرية فى اصطحاب خريطة مصر الجيولوجية، تعمير شبه جزيرة سيناء، نهر النيل (باللغة الإنجليزية): نشأته واستخدام مياهه في الماضي والمستقبل، الحقيقة والوهم في الواقع المصري،جيولوجيا مصرية (باللغة الإنجليزية)، رحلة عمر ثروات مصر بين عبد الناصر والسادات؛ وهو سيرة ذاتية له. الحقيقة والوهم فى الواقع المصري وجيولوجيا ما تحت سطح منطقة القاهرة والتطور الجيولوجى لنهر النيل وهو عمل موسوعي ضخم يعد من أبرز المراجع العلمية عن النيل.

 

 

  • ولد رشدي سعيد فرج عام 1920 بحي القللي بشبرا، لأبوين مسيحيين قبطيين وأسرة متوسطة الحال وتعود أصولها لمحافظة أسيوط، وذلك بعد عام واحد من الصحوة الكبرى التي شهدتها مصر في أعقاب الثورة الوطنية عام 1919.  والتحق بكلية العلوم بالجامعة المصرية سنة 1937 وكانت سنوات الدراسة بها كما يقول من أسعد سنوات حياته «فقد كان التعليم فيها حرا وفاتحا للأفق، وكان يستمع إلى محاضرات الأساتذة الذين كانوا يوجهون إلى مراجع فى المكتبة.. وكانت الجامعة المصرية بالفعل ــ وعلى الأخص كلية العلوم مؤسسة متقدمة بها الكثير من أفضل الأساتذة الأوروبيين، فقد كانت مصر تتيح لهم، بالإضافة إلى العيش الطيب، الفرصة للقيام بالبحث العلمى، الذى كان ومايزال من أهم علامات الجامعة المتقدمة. كما كانت كلية العلوم آنذاك فى نفس مستوى نظيراتها فى الخارج، «حتى إنها كانت وحتى نشوب الحرب العالمية الثانية ترسل إجابات امتحانات طلاب البكالوريوس فيها إلى جامعة لندن ليشارك أساتذتها فى تقييمها، وكانت تنتقى ممتحنى رسائلها الجامعية من بين أساتذة أكبر الجامعات الأجنبية" وبعد تخرجه من علوم القاهرة عام 1941، رشحه الدكتور مصطفى مشرفة عميد الكلية للعمل موظفا فى شركة القصير للفوسفات فى البحر الأحمر، فقضى بها عاما ونصف العام وصفها بأنها من أخصب سنى العمر، لأنها فتحت عينيه على حقائق الحياة العملية وتطبيقات العلم، وكذلك على حقيقة مأساة المصرى وغربته فى بلده ــ حيث كانت مصر آنذاك تحت الاحتلال البريطانى ــ وكان عصب العمل بالشركة هم عمال التراحيل الذى كانوا يساقون من بلادهم بالصعيد للعمل تحت سطح الارض فى مناجم ذات أعماق سحيقة، وكان هذا العمل الشاق يجُهز على العامل وهو فى الخامسة والثلاثين من العمر على الأكثر..

 

 

  • كان د. رشدى سعيد مهتم بالبحث العلمى ولاشىء غيره، فدرس الماجستير من خارج الجامعة، وشاءت المصادفات أن يعين معيدا عام 1943، ليعيش فى علوم القاهرة أسعد لحظات حياته، وفى عام 1945 تم إرساله فى بعثة علمية إلى زيورخ، ولكنه تركها وسافر إلى جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية وحصل منها على الدكتوراه فى الجيولوجيا عام 1950، وقضى هناك عاما إضافيا قام خلاله بالتدريس ونشر عددا من الأبحاث فى أمهات المجلات العلمية العالمية.. ويقول عن هذه الفترة:«وأخذت أتبادل الأبحاث مع المشتغلين بفرع العلم الذى تخصصت فيه، مما جعل من مكتبتى واحدة من المكتبات النادرة، حتى إنها كانت الأساس الذى أسهم فى بناء وحدة البحث العلمى التى بنيتها فى كلية العلوم عند عودتى من البعثة».

 

  • رغم الإعداد الطويل لـ رشدي سعيد علمياً ومعرفيا فقد أثر هذا في تعقيد حياته العلمية في الجامعة، ولم يجدها سهلة أو ممهدة، كان وصوله إلي الجامعة وله كمّ من الإنتاج العلمي المتميز صدمة للكثيرين.  فعندما عاد الي مصر، كان يحلم بالجامعة وبناء قسم الجيولوجيا علي مستوي رفيع، يكون ندا لأعرق جامعات العالم، فسعي جاهدا لمد الجسور مع الهيئات العلمية، والمحلية والعالمية وشركات البترول وهيئة الأبحاث الجيولوجية لتسهيل رحلات الطلاب في الصحراء والتزود بالعينات والبيانات والعمل علي بناء مكتبة متخصصة وتزويدها بأحدث المطبوعات والدوريات العلمية. إضافة إلى مشاركته في تعريب منهج تدريس العلوم في كلية العلوم، بالاشتراك مع نخبة من كبار العلماء من عدة أقسام علمية مختلفة. هذا وقد تركت شخصيات عديدة بصمة في تكوين «رشدي سعيد» في الجامعة والحياة العامة منهم «سلامة موسي» ود.مصطفى مشرفة الذى كان يعده ليكون استاذا مرموقا بالجامعة المصرية .

 

  • وفى مذكراته يقدم د. رشدى سعيد تفاصيل كبيرة حول مساعيه ونضاله، لكنه يكرس اهتمامًا أقل للآثار الأوسع لتطور العلوم والتكنولوجيا في مصر. وكان اهتمامه في الغالب بتأريخ جهوده لإصلاح الهيكل البيروقراطي والتنظيمي للهيئة المصرية العامة للتعدين وتبسيط الإنتاج والعمل في مشاريع مثل مناجم الفوسفات في البحر الأحمر.

 

  • يقول رشدى سعيد إنه خرج فوق سفينة متهالكة عقب الحرب العالمية الثانية بأعوام قاصداً امريكا «بداية» وكانت القومية تجري في عروقه، عندما التحق بجامعة الملك فؤاد الأول حيث عقد عليه اساتذته الأمل ليفتح الطريق لمصر في مجال علوم المياه والتعدين لذا دفعوا به نحو (هارفا رد) من أجل أن يدشن مشواره الأكاديمي ويعود لوطنه الأم، وعند عودته 1951 كانت مصر حبلى بالثورة وكان أول مصرى ينال درجة الدكتوراه من جامعة هارفا رد الأمريكية فى الخمسينيات.

 

  • اختار الدكتور رشدي سعيد تخصصاً نادراً وهو جيولوجية مصر وأصدر مجموعة من المراجع العلمية المتخصصة نالت إعجاب علماء العالم وأصبح معترفاً بها علي المستويين المحلي والعالمي. وبذلك انتقل الدكتور رشدي سعيد من الجامعة إلي المجتمع ومن العلم إلي الثقافة حين استطاع أن يقتحم الموضوعات المسكوت عنها مثل نظام الحكم وعلاقة الحكومة بمؤسسات المجتمع المدني وبالسلطة الدينية وموضوع الأقباط في إطار الجماعة الوطنية، إلي جانب دوره في الاكتشافات التعدينية التي مكنت مصر من التغلب علي ما فقدته بعد احتلال سيناء.
  • عاد رشدى سعيد إلى مصر للتدريس وأصبح عضوًا يحظى باحترام كبير في المجتمع العلمي الدولي، وقام بتأليف العمل الرائد "جيولوجيا مصر". كما خدم د. رشدى سعيد في الحكومة لأول مرة في 1961-1962 كعضو في مؤتمر مكلف بصياغة وثيقة للتعبير عن فلسفة نظام جمال عبد الناصر ومثلت الأساس لحزب سياسي. ثم عين عضوا في مجلس الشعب عام 1964 ضمن العشرة الأفراد من الشخصيات  العامة الذين صدر لهم قرار تعيين من الدولة؛ وظل عضوا في ثلاثة برلمانات حتي عام 1976 ، شغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية والأمن القومي خلال عام 1971، أختير عضوا في البرلمان  الدولي خلال الفترة من ( 1964- 1976 ) ممثلا للشعبة البرلمانية المصرية. وقد شغل منصب رئيس هيئة المديرين في الهيئة المصرية العامة للتعدين حتى استقالته في عام 1977. وفي عام 1981 غادر إلى الولايات المتحدة بعد أن أمر أنور السادات باعتقاله، إلى جانب حوالي 1536 شخصية سياسية وفكرية بارزة.

 

  • قادت الجيولوجيا الدكتور رشدى سعيد إلى خبرة عميقة فى معرفة مشاكل مصر، واختار أن يكون طرفا أصيلا فى كل المراحل التى مرت على مصر، ففى مطلع الأربعينيات من القرن الماضى، عمل لمدة عام ونصف فى شركة القصير للفوسفات، وفى مرحلة ثورة يوليو، توافق هو مع مشروعها السياسى ومع قائدها جمال عبدالناصر، فكان عمله رئيسا لمؤسسة التعدين، وتم تكريمه من قبل الرئيس عبد الناصر في عام 1962، حيث سلمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي، ثم قلادة النيل. وحصل على جائزة الريادة لعام 2003 من الجمعية الأمريكية لجيولوجيي البترول، وذلك تقديرا لأعماله العلمية في مجال جيولوجيا مصر والشرق الأوسط، التي وصفتها بأنها فتحت آفاقا جديدة لتطبيق هذا العلم في مجال البحث عن البترول في المنطقة.

 

  • ظهر مشروع رشدي سعيد أول مرة عام 1995، وتم نشره في كتاب صدر ؛ بعنوان: «مصر المستقبل. المياه.. الطاقة.. الصحراء»؛ واجه به تبديد الأرض الزراعية وتلويث مناخ وتربة وادي النيل بمخلفات الصناعة، وإهدار مياه النيل في مشروع توشكى الفاشل، كما توقع له، وتنبأ بمطالبة دول منابع النيل بحصص أكبر، وكانت حصص أغلب هذه الدول لا تتجاوز المياه المهدرة في مشروع توشكى، وكان يستهلك وحده عُشر حصة مصر المائية. وابتعد مشروع رشدي سعيد عن الوادي والدلتا.. محذرا من سيطرة وهم نقل الزراعة إلى الصحراء على عقول المسئولين المصريين. واعتبر سعيد أن مشروعه بداية لتغيير وجه مصر، وتحويل وادي النيل إلى محمية طبيعية للزراعة المتقدمة، وجعل الصحراء روضة صناعية؛ تعتمد في تمويلها على توجيه الأموال المهدرة في مشروعات تخفيف الزحام في المدن القائمة، وفي إقامة الكباري العلوية والطرق الدائرية وقطارات الأنفاق.. وغيرها من المهدر في الااستصلاح التقليدي للأراضي الصحراوية، وتوفير تكلفة نقل المواد الأولية والطاقة إلى المصانع بعد أن انتقلت المصانع إلى مناطق الاستخراج

 

  • ومن أبرز المشاريع التي ظل يحلم بها رشدي سعيد مشروع تحويل وادي النيل لتعمير الصحراء الشاسعة في مصر وتحويلها إلى أراض مأهولة بالسكان حيث  يعتمد تعمير جزء من الصحراء على ربطه بوادي النيل بشبكة محكمة من المواصلات والاتصالات. ويقترح إقامته في المنطقة الواقعة شمال الصحراء الغربية والتي يحدها شمالاً البحر المتوسط وجنوباً منخفض القطارة وواحة سيوه بسبب اعتدال مناخها وانبساط تضاريسها وقربها من مناطق حقول الغاز الطبيعي ومراكز العمران والبحر الذي يمكن استخدام مياهه في التبريد في كثير من الصناعات.

 

  • كان الدكتور رشدي سعيد يرى أن أحد أهم جوانب مأساة البحث العلمي في مصر الفشل في اقامة علاقات علمية متكافئة مع الأجانب، والجهل بأولويات البلاد والخضوع للاغراءات والاكتفاء بالشكلية، عند إقامة مثل هذا النوع من العلاقات بين غير الأنداد ولأن الدكتور رشدي هو الذي تولى قيادة مؤسسة التعدين بعد كارثة يونيو 1967، فقد أفرد لها زاوية خاصة قص فيها كل ما قام به ادارياً وتنظيمياً وكشفياً وبحثياً، غير ان سنوات العمل في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب في فترة الرئيس  السادات، قد عوضته عن العجز عن العمل بالداخل، من ناحية، وفتحت أمامه الباب للتأثير الدولي الواسع، حتى كاد ان يصبح رئيساً للاتحاد البرلماني الدولي لولا عدم حماس بعض الاطراف.

 

  • كتب الاستاذ محمد حسنين هيكل فى تقديم كتابه (الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى)، "إن رشدى سعيد رجل تسعى إليه جامعات الدنيا وتستضيفه محافلها-لكن وطنه بشكل ما لم يسمعه بالقدر الكافى، وهو رجل مطلوب فى كل مكان ولكن وطنه لم يستدعه للخدمة العامة إلا لفترة قصيرة فى منتصف الستينات وأوائل السبعينات،ثم أزاحته أجواء السياسة عن مواقع التفكير والتنفيذ لكى يحتضنه هؤلاء الذين عرفوا قدره فى خارج وطنه لسوء الحظ"، ويرى هيكل أنه لولا الحساسية الدينية لصار رشدى سعيد رئيسا لوزراء مصر. 

 

  • على كل الاحوال لقد كرمته جامعات وجمعيات علمية عالمية مثل " جامعة تكساس" عام 1983، و " جامعة برلين" عام 1986، و"الجمعية الجغرافية الأمريكية عامى 1989،2003" وتم منحه جائزة الريادة العلمية وكذلك اختارته عضوا فخريا بالجمعية. بعد رحيله كتب الدكتور محمد نور فرحات: برحيل رشدى سعيد غاب الهرم المصرى الثالث بعد غياب نجيب محفوظ وجمال حمدان.

 

  • إعتبرت الأوساط العالمية الدكتور رشدى سعيد واحدا من كبار علماء الجيولوجيا المرموقين، فيرجع الفضل اليه فى تبسيط هذا العلم، وربطه بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى مصر، ويعد كتابه عن نهر النيل مرجعا رائدا فى هذا المجال، فالكتاب لا يعد فقط تأريخا رائعا لحياة نهر، وإنما تنبيهه إلى أن حضارة مصر قد تكونت بفضله، وتفرض علينا ضرورات الحفاظ عليه، وأن عظمة مصر تتجلى حين يمتد بصر حكامها إلى حيث الأماكن التى تنبع منها، وتمر فيها مياهه.

 

  •  وفى أعقاب أحداث 5 سبتمبر 1981م وخلافه السياسي مع الرئيس السادات، هاجر إلى أمريكا، لكنه كان قريبا لبلده، فشارك بحيوية فى قضاياها بقلمه وصوته. توفي في الولايات المتحدة عن عمر يناهز (93 عاما) في يوم الجمعة الموافق 8/2/2013 بعد حياة حافلة في مجال العلوم، شغل خلالها عضوية البرلمان المصري، كما ألف عدة كتب أحدها من المراجع البارزة عن نهر النيل. وقال الباحث الاقتصادي المصري أحمد السيد النجار، إن سعيد توفي وهو بصحبة ابنته بواشنطن، مضيفًا: ” لا يدري هل ستعيده ابنته إلى مصر أم لا”. وقال النجار، في صفحته على الفيسبوك إن سعيد “يستحق تكريما يليق بقيمته وقامته وإسهامه الرائع في قضايا المياه وحوض النيل في خدمة مصر التي عشق كل ذرة من ترابها وأعطاها عمره وروحه وعصارة فكره… إنه فخر لكل مصري”.
Egypt Air