الإثنين 29 ابريل 2024

محمد فتحي المقداد: الكتابة جزء من تشاركيّة الحياة بسلام مع الآخرين وفتح آفاق التواصل

محمد فتحي المقداد

ثقافة9-8-2022 | 21:14

أحمد طايل

أنا من أشد المؤمنين أن الثقافة لا تعرف الحدود والأسلاك الشائكة، الكلمة تنتقل ولا تعترف بلجان التفتيش ومحاكمها، الثقافة شريان دم يسرى بلا توقف بين الشعوب، وهى الطريقة المثلى لتحقيق الوحدة بين الشعوب، ومن صغري وأنا عاشق للقراءات متعددة الأجناس الإبداعية والفكرية، لكُتّاب وكاتبات وطننا العربي، ومن هنا عرفت وقرأت للكثير، وتأثرت بكتاباتهم، من أجل هذا كان لنا هذا الحوار مع الكاتب والأديب السوري (محمد فتحي المقداد).

إن أردنا أن نطرق الباب، وندخل إلى العالم التعريفيّ الخاص بكم، انسانيا وفكريا، ماذا تقول؟

بتوقيت بُصرى: أنا ابن السّنابل الذهبيّة، المعجون بحُمرة ترابها، كأنّ التّاريخ أبى واستكبر إلّا أن يُروّيها بماء الغُزاة والعابرين، ذهبوا جميعًا إلى غير رجعة، وبقي ذكرهم في ذمّة التّاريخ. 


أنا الآن من مُدن الأطراف من أقصى جنوب الجنوب في سوريا، كانت يومًا تهفو القلوب إليها، ومقصد القاصدين. منذ أوّل نبضة للحياة استنشقت عبق التّاريخ وصخب الحضارة، مراتع طفولتي عند موطئ قدم النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، في محيط "الرّاهب بحيرا"، و"مبرك النّاقة" التي حملت نسخة مصحف سيّدنا عثمان رضي الله عنه إلى الشّام.


من (بُصرى أسكي شام) بتسميتها العثمانيّة، وحديثًا (بُصرى الشّام) من محافظة درعا. حسب تأريخ أمّي خديجة: أنّها ولدتني سنة الصّهاريج، أيّام المَحْلِ، وانحباس المطر لسنوات تتابعت، يحملها القطار عبر الخط الحديدي الحجازي، وما إن وضعتني حتّى درّت السّماء بوافر خيراتها. وحسب التقويم الحكوميِّ كما هو مُسجَّلٌ في وثائقها الدّالة والتي تثبت أنّني أنا بذاته، فإنه يكون: (1 1 1964). أحد أبناء الحرّاثين، يزرعون ليأكلون، جباههم مُكلَّلة بقطرات عرق لؤلؤيَّة تيجان العزِّ. 


تهجَّأتُ بُصرى مع أول كلمة نطقتّها: (ماما)، في مدرستها الابتدائيّة الشرقيّة في عُرفنا، ورسميًّا (مدرسة بصرى الشام الثانية للبنين)، ثمّ إلى المرحلة الإعداديّة والثانويّة في مدرستها الوحيدة التي تضمّ المرحلتيْن معًا، وفي 1982 حصلت على الثانويّة العامّة، ولم أتابع الوصول لجامعة دمشق الحلم، لظروف اجتماعيّة قاهرة. وتوجّهتُ بعد ذلك للخدمة العسكريّة الإلزاميّة، ومن ثمّ إلى سوق العمل عندما اِمْتَهنتُ برغبتي مهنة "حلّاق رجّالي" وما زلت حتّى كتابة هذه الكلمات منذ عام 1986م.

مؤكد أن البدايات والمناخ الذى عشت به المراحل الأولى من الحياة، كانت حجر الزاوية، لامتهان الكتابة، أرجو الإفاضة بهذا؟
 

لا يزال مسقط الرأس (بصرى الشام) منجمًا ناضجًا بالحكايا والقصص والأساطير المتناقلة والمتداولة. وما على الكاتب إلَّا الانتباه والالتقاطات الذكية، لينتج نصًا أدبيًا معتبرًا نوعيًا، والمخزون الحكائي المختزن في ثنايا الذاكرة، هو المادّة التكوينيّة عندي، ما تزال تندّ بطزاجتها رغم تباعُد  الزمان عنها بمسافات من العقود. 

مجالس القرية كما يطلق عليها عندنا هي المضافات، وساحة الحارة  بمساءاتها المليئة بالضجيج، هذه الأجواء بحدّ ذاتها المدرسة الأولى في مرحلة ما قبل التعليم الابتدائي الحكوميّ، ومجتمع بخصوصيته الريفيّة الفلاحية، أعتقد أنّ تشابهاته مع باقي البيئات العربية والشرقية عمومًا، لا يختلف إلا ببعض التفاصيل والخصوصيات الجغرافية، وأنماط السلوك المحددة لتلك النشاطات، كما أن للتراتبات الاجتماعية الناظمة لعيش الأسرة تفرض شروطها على الجميع؛ فليس من السّهل الخروج على هذه التراتبات، التي هي بمثابة ثوابت مجتمعيّة، يضاف إلى ذلك كله، طبيعة الجغرافيا والتاريخ اللذان يُكلِّلان ويُجلِّلان بصرى وأهلها بمهابة مليئة بالحب والعطاء.


متى بدأ هاجس الكتابة يداعب أمرك؟


منذ بداية وعيي وتكويني، كنت أنظر بإعجاب لأسماء الكتاب والمؤلفين على أغلفة الكتب، المحفزات كثيرة منذ البداية، رغم الإحباطات والعقبات، بالتصميم والإرادة استطعت وضع قدمي على نقطة الانطلاق، خاصة بعد امتلاكي لجهاز حاسوب، ودخولي عالم الشبكة المعرفية (الأنترنت)، وكسر حواحز الانبهار والتهيُّب، حددت مسار رغبتي، وبحثت عن زاوية وجدت فيها نفسي، لتحقيق ذاتي. 


مولودك الأول كاتبا، ماذا يعنى لك، وكيف استقبل بالوسط الثقافي؟


مولودي البكر كان فيما بين (2009/2010) رواية "بين بوابتين" و"تراجانا" ما زالتا مخطوطتين، فكانت عبارة عن ذاكرة وعيي الأوّل وتطوّرات بعد ذلك. بعبارة أوضح كانت سجلًا توثيقيًا. فلو نشرت في وقتها لكانت علامة، مع التطورات المعرفية التي اكتسبتها، وخاصَّة تقنيَّات السَّرد القصصيِّة والروائيَّة، لا أعتقد أنها تتوافق معه، لمستواها السردي البسيط المباشر بطروحاته. 


والولادة الثانية جاءت مع نشر كتابي الأول (شاهد على العتمة) العام 2015 في بغداد. كانت طباعته هدية من الصديق والشاعر (علاء الأديب)، تبنّى الكتاب من فكرته الحداثية الجديدة الطرح، اعتبارًا من إشكالية العنوان الانزياحية، إلى تقنية الكتابة ذات والمزيج ما بين القص والخاطر والنثر الأدبي، ذات بعدٍ ترميزيٍّ تأمُليٍّ مُثيرٍ لدواخل القارئ، لملاحظة المحيط والواقع، يُلقي بمفاتيح نُصوصه للقارئ والمتلقِّي، وكنت أتلقِّى كثيرًا من الإطراء والاستحسان من خلال المنتديات الأدبيَّة، ووسائل التواصل (الفيسبوك). 


لماذا تكتب، ولمن؟
 

عندما أكتبُ أكونُ سعيدًا، أكتب لأحيا مع أصدقائي وقُرّائي. الكتابة جزء من تشاركيّة الحياة بسلام مع الآخرين. وفتح آفاق التواصل؛ لتذليل صعوبات الحياة، في سبيل إسعاد الإنسانيّة. 

إلى أيّ أيديولوجيا كتابية تنتمى، ولماذا؟


بطبيعتي لا أحب التأطير الأيديولوجي الفكري، لأنها كابح من كوابح الإبداع؛ فقد كتبت الرواية والقصة والقصَّة القصيرة جدًّا والخاطرة والمقالة الأدبيَّة والنقديَّة، بتقنيَّات تطوَّرت نتيجة الخبرات التي اكتسبتُها على مدار سنوات، وأحاول أن أكون أنا بذاتي وأسلوبي في أيِّ نصٍّ أكتبُه، أرى طريقي بوضوح، أتابع بهمَّة للوصول بمشروعي إلى نهايته التي أرجوها له. 


المكان والزمان بكتاباتك، مدى تأثرك بهما؟


كثيرًا ما أتوقَّف عاجزًا أمام تنفيذ فكرة، لأنَّ غُموض المكان بذهني غير واضح، تكتنفه غِلالَةٌ سوداء تحجُب خيالي، وتمنعه من الانطلاق، فالمكان أساسيٌّ من أُسُس الكتابة الروائيَّة والقصصيَّة على الأخصِّ، ويجب توافقه ضمن تدرُّجات التوقيت المتسلسل بشكل منطقيٍّ، بحيث لا يجعل صَدْعًا وفراغًا في ذهن القارئ. ووفق هذا المنحى، لا أستطيعُ الكتابة بلا مكان أو زمان. مُتخيّلان بتفاصيلهما المُعشْعِشَة في ذهني. 

لمن تقرأ الآن؟ وعن من تبحث عن كتاباته بشكل دائم؟


في الثلث الأخير من العام الماضي إلى هذه الفترة. دخلت مشروع قراءة. بداية مع "ماركيز" في رائعتيْه (خريف البطرك الحب في زمن الكوليرا)، ثمّ الأمريكيِّ "جورج أورويل" (1984) مع رائعة أستاذه البريطانيِّ "إلدوس هسكلي" (عالم جديد شجاع)، وأخير عشت لأشهر مع الروائي الياباني "هاروكي موراكامي" في رواية (1984) والسبب في اختيار هذه التنويعة هو وحدة الموضوع في هذه الطائفة من الروايات؛ ففهمت المرحلة الأناركيَّة التي نحن في لُجّتها، أوالإنسان الشَّبَكيِّ، وكيفية فهم الأمن السيبراني، في ظل التقدم الهائل، الذي بدوه تغوّل على الحريَّات الشخصيَّة. وانتزاع الخصوصيات، وجعلها متاحة يشاركها صاحبها مع الآخرين. إضافة لقراءات مختلفة هنا وهناك، لأنني أكتب ولا أنقطع في معظم الأيام. 

السيرة الذاتية دائمة التواجد بكتابات أي كاتب، هل ترى أن هناك ضرورة لسكب بعضا من السيرة بكتابات أي كاتب؟


كل نص يحمل سمات وروح كاتبه. والكتابة تجربة، فمن الممكن أن تكون تجربة كاتب ثرية فيها من العبرة والعظة والحكايا والرؤى. وبالنتيجة هي تجربة إنسانية، ولا ضير من سكبها بشكل أدبي مضمون قصصي وروائي. ليكون مقروءًا على نطاقات واسعة. فما دمنا نكتب تجارب الآخرين، فلماذا لا يكتب الكاتب تجربته إذا مليئة مثقلة بمحتواها.

 

ما العمل الذى استأثر على فكرك، وتعاود قراءته مرارا؟


كثيرة هي الأعمال التي قرأتها بالعربيَّة والمترجمة من اللُّغات الأخرى. بصراحة قراءاتي الأخيرة التي ذكرتها في سؤال سابق. كانت عميقة ومعمقَّة، تعلَّمتُ منها أشياء كثيرة، والقرآن هو الذي أعاود قراءته بلهفة في كلّ وقت.

بمن تأثرت، وهل التأثر بآخرين أمر يضيف شيئًا للكاتب أم لا؟


في كتاباتي لمقالاتي الأدبيّة التي عنونتُها بـــ (مقالات ملفّقة بجُزأيْه)، كنتُ قد قرأت كتاب العربي (نبش الغُراب) للكاتب الاستثنائي (محمد مستجاب) رحمه الله، وسلبتني طريقة كتابته بأسلوبها المميّز عمّا قرأتُ سابقًا، فحاولت تقليد أسلوبه، ونجحت في مسعاي. 


قرأت وتعلّمت على سبيل المثال لا الحصر: من كتابات الرّافعي رحمه الله، اعتبارًا من: من وحي القلم، رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وحديث القمر. وقرأت الأيام والوعد الحق لطه حسين، والعقاد. وغازي القصيبي، وتركي الحمد، ومحمد شكري، وحنا مينة، وعبد السلام العجيلي، وغيرهم الكثير الذي يضيق المكان عن ذكرهم جميعًا. كلُّ ذلك كوّن عندي خليطًا شكّلت به أسلوبي في الكتابة. 

هل يخضع رسم الشخصية لديك لمنطق ثابت؟ أم يرسمها الموقف داخل العمل الإبداعي؟


بداية كانت خبرتي متواضعة في كتابتي الروائيَّة، كثيرًا ما كنتُ أتصوَّر الشخصيَّة تقوم بدورها، من وحي وضرورات الموقف السَّرديِّ المُتأتِّي بمعطياته المتولِّدة، أمّا بعد ذلك؛ صرت أستطيعُ رسم ملامح الشَّخصيَّة وشكلها، لتتحرَّك، وتقود الحدث إلى الوْجهة التي أريدها. 


وجرّبت إلى حدِّ الآن عدّة تجارب في هذا المجال؛ ففي روايتَيْن لي: (دوّامة الأوغاد 2016) و(الطريق إلى الزعتري2019) السّرد المشهدي التناوبي، في كل فصل هناك مشهد للرجال وآخر للنساء بمسار معين للحدث، كما أنّ أسلوبهما كان أقرب للسيناريو، وفي روايتي (فوق الأرض) جرّبت الكتابة بتقنيّة اللَّوحات الفارغة، التي تجعل القارئ يكمل ما يراه مناسبًا للوحة، وهو بذلك يكون شريكًا معي في العمل. 

وفي تقنيّة أخرى جديدة في روايتي (خلف الباب) المنجزة حديثًا؛ استخدمتُ أسلوب الاعتماد على وسائل الحواس، خاصّة حاسّة السّمع، والمونولوجات الداخليّة. 


أمّا في روايتي (خيمة في قصر بعبدا) قيد الطبع الآن؛ فقد قامت على شخصيّة الكاتب السّارد العليم، الذي قاد العمل كبطل ارتبط بالأحداث، ومن خلاله ارتبط به السَّاردون في العمل. لذلك جاءت تجربتي في الكتابة الروائيّة متنوّعة الأساليب، والتوجُّهات؛ لإفساح المساحات الكافية لخبرتي المُتجدِّدة في الكتابة.

Dr.Randa
Dr.Radwa