اُختتمت مساء اليوم، فعاليات مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الثالث والثلاثين، الذي نظمته وزارة الأوقاف على مدى يومين، بعنوان: الاجتهاد ضرورة العصر (صوره.. ضوابطه.. رجاله.. الحاجة إليه)، انتهى المشاركون بالمؤتمر، بعد استقراء البحوث، وبعد يومين متتابعين من العمل العلمي المتواصل في ثماني جلسات علمية، إلى إصدار البيان الختامي متضمنًا أمرين: وثيقة القاهرة لتعزيز ثقافة الاجتهاد، وبعض التوصيات الأخرى.
وجرت فعاليات الاختتام بحضور كوكبة من وزراء الأوقاف والشئون الإسلامية، والمفتين، والعلماء، والمفكرين، والمثقفين، والبرلمانيين، والإعلاميين، والكتَّاب، من مختلف دول العالم، حيث أجمع المشاركون في المؤتمر على توجيه الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسي، لرعايته المؤتمر، وعلى ما لمسوه من إنجازات عظيمة تُذكر فَتُشكَر في عهده، مقدرين ما أجراه الله (عز وجل) على يديه من حفظ أمن وأمان مصر واستقرارها، والعمل الدؤوب على نهضتها وتقدمها، وعلى دعمه للفكر الوسطي المستنير ونشر أسس السلام العالمي والعيش المشترك بين الناس.
وأجمع المشاركون على إصدار وثيقة القاهرة لتعزيز ثقافة الاجتهاد، لتكون نبراسًا يُستضاء به في هذا المجال وتتضمن الاجتهاد ضرورة العصر وكل عصر، وبابه مفتوح بل مُشرَع إلى يوم القيامة، غير أن له أصوله وضوابطه ورجاله الذين أفنوا حياتهم في طلب العلم الشرعي وفهم أصوله وقواعده ومآلات الأمور ومقاصدها ممن يدركون فقه المقاصد والمآلات والأولويات، وتقديم المصلحة على المفسدة، ومتى تحتمل المفسدة اليسيرة لتحقيق المصلحة العظيمة، وكيف يكون الترجيح بين مصلحة ومصلحة باختيار أعظمهما نفعًا، وكيف يكون الترجيح بين مفسدة ومفسدة باختيار المفسدة الأخف منهما ضررًا.
وشملت الوثيقة التأكيد على الحاجة الملحة لإرساء وترسيخ قواعد الاجتهاد وضوابطه، وبخاصة الاجتهادُ الجماعيُّ في القضايا التي لا يمكن الاعتماد فيها على الأقوال الفردية، والتي تتطلب الفتوى فيها خبرات متعددة ومتكاملة، ولا سيما في القضايا الاقتصادية والطبية والبيطرية والمناخية وشئون الهندسة الزراعية والوراثية وغير ذلك من مفردات حياتنا ومستجدات عصرنا التي تحتاج إلى رأي أهل الخبرة لتُبنَى عليه الفتوى، فالرأي الشرعي في القضايا الحياتية المستجدة يُبنى على الرأي العلمي ولا يسبقه.
وأفادت الوثيقة بأن الاجتهاد الذي نسعى إليه يجب أن ينضبط بميزان الشرع والعقل معا، وألا يُترك نهبًا لغير المؤهلين وغير المتخصصين أو المتطاولين الذين يريدون هدم الثوابت تحت دعوى الاجتهاد أو التجديد، فالميزان دقيق، والمرحلة في غاية الدقة والخطورة؛ لما يكتنفها من تحديات في الداخل والخارج.
وتضمنت الوثيقة أن المساس بثوابت العقيدة والتجرؤ عليها وإنكار ما استقر منها في وجدان الأمة لا يخدم سوى قوى التطرف والإرهاب وخاصة في ظل الظروف التي نمر بها؛ لأن الجماعات المتطرفة تستغل مثل هذه السقطات أو الإسقاطات لترويج شائعات التفريط في الثوابت؛ مما ينبغي التنبه له والحذر منه، فإذا أردنا أن نقضي على التشدد من جذوره فلا بد أن نقضي - كذلك - على التسيب من جذوره، فلكل فعلٍ ردّ فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه .. وأن شروط المجتهد الفرد يجب أن تتوفر في مجمل أعضاء المؤسسات العلمية الاجتهادية الجماعية المعتمدة متكاملين.. والدعوة إلى تجريم الفتاوى الفردية في قضايا الشأن العام لغير المتخصصين، والعمل على توسيع دائرة الاجتهاد الجماعي المؤسسي.
وأكدت الوثيقة ضرورة الاهتمام بقضية الثابت والمتغير، والاستفادة من القياس على الأشباه والنظائر في ضوء فهم علل الأحكام ومقاصدها، وسعة الشريعة ومرونتها، وذلك لمواكبة النوازل والأمور الحادثة والطارئة والمستجدة مع الحفاظ على ثوابت الشرع الشريف.. وأن الاجتهاد في القضايا المستحدثة التي تواجه المسلمين وغيرهم في مختلف أنحاء العالم وبخاصة قضايا الأقليات المسلمة هو واجب الوقت؛ لرفع الحرج والمشقة عنهم، والإسهام في اندماجهم الجاد والبناء في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها.
كما تضمنت التأكيد على أن الاجتهاد العصري المنضبط وتعزيز ثقافته بين المجتمعات والأمم والشعوب هو الضمانة الأساسية لإثراء العقل الجمعي بالتجديد المستدام، وحماية البلاد والعباد من مغبة الجمود والتشدد والشذوذ الفكري والسلوكي.. وأن الاجتهاد المعتبر هو الاجتهاد المبني على قواعد الشرع الراسخة.. وأن مفهوم الاجتهاد بمعناه الصحيح يؤكد عظمة الشريعة الإسلامية ومرونتها وسعتها، ويعفي الأمة من فتاوى الجهال والمنحرفين وغير المؤهلين.
وأشارت الوثيقة إلى التنبيه على خطورة الجمود وتداعياته ومخاطر الأخذ بظواهر النصوص أو استدعاء بعض الفتاوى التي ناسبت ظروفًا معينة في أوقات معينة وإسقاطها على غير مظانها، مع ضرورة تأهيل المجتهدين بالتأهيل العلمي: تفسيرًا وحديثًا وفقهًا وأصولًا ولغة، مع دراسة الواقع وظروف الناس، وصولا لصحيح الفهم والاجتهاد الذي يتسق وفقه الواقع ومقاصد الشرع.. وأنه على علماء كل عصر أن يجتهدوا لزمانهم في ضوء مستجداته الحضارية، ومشكلاته الجديدة، من خلال التفكير والبحث العلمي، وإعمال العقل في فهم صحيح الشرع، مع التوصية بعمل موسوعة عصرية لقضايا الاجتهاد، وهو ما كلفنا به فريق العمل بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.
ونبهت الوثيقة أيضا إلى أهمية الاجتهاد الجماعي والمؤسسي؛ لأنه أكثر عمقًا ودقة، وأحرى إصابة، كونه يضم الكثير من العلماء والخبراء المتخصصين، كما أنه سبيل ضامن إلى اتحاد الرؤية في حل كثير من المشكلات.. وضرورة إعداد جيل من العلماء وتكوين الكوادر العلمية الكافية التي تدرك مقاصد الشرع والمراد منها وتتوفر فيها شروط الاجتهاد وأحكامه وضوابطه؛ لتقوم بفرض الكفاية في تعاملها مع الأحداث والوقائع وإعمال العقل فيما يقع من النوازل الكبرى والحوادث المعضلة، والبحث عن حلول شرعية لها تتسق وفقه الواقع.. وضرورة تفكيك خطاب التطرف، والعمل على نشر سماحة الإسلام ووسطيته، وبناء الوعي الصحيح حول مفهوم المواطنة التي هي ركن أصيل في بناء الدول.
وشددت الوثيقة على بيان أهمية التجرد في الاجتهاد، بألا يشوبه ميل حزبي أو طائفي أو عرقي أو قبلي أو أي علة تخرج به عن مساره الصحيح، وضرورة نشر الوعي بين الناس بالتفرقة بين الاجتهاد والتقول بالرأي، فالاجتهاد قائم على أسس وقواعد وضوابط وشروط، أما التقول بالرأي فلا أساس له وقد يَنْسِب صاحبه إلى الشرع الشريف ما ليس فيه لعدم فهمه للنص وعدم تعمقه ومعرفته به.
أما بعض التوصيات الأخرى، فشملت: ضرورة قيام المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية بنشر ما استقرت عليه المجامع الفقهية والعلمية في شأن خطورة التعامل مع العملات المشفرة بنظامها الحالي، حتى لا ينزلق الناس في تعاملات نقدية تدخل ضمن دائرة الغرر، مع التأكيد على أن رفض التعامل بالعملات المشفرة لا يرجع إلى عدم مواكبة المستجدات العصرية وإنما يرجع إلى ما يحفها من جهالة وغرر، واشتمالها على المضاربة العشوائية، وعدم ضمانة الدول لها.
وتضمنت التوصيات: التأكيد أن صك النقود من الجهة الشرعية لا بد أن يكون خاضعًا لسلطة ولي الأمر لمنع الالتباس والفساد والمضاربة والغرر والتصرفات غير المشروعة داخل المنظومة النقدية.. والتأكيد أن التلوث البيئي مشكلة إنسانية تستدعي تضافر الجهود للقيام على حلها بالاجتهاد والبحث العلمي المستنير، والكف عن كل نشاط يسبب تلوثًا بيئيًّا أيًّا كان نوع هذا التلوث.. والتأكيد على أن الشريعة الإسلامية قد دعت للحفاظ على البيئة وحمايتها ورعايتها، والمحافظة على مواردها من الاستنزاف وسوء الاستخدام وكل ما يضر بها، ونهت نهيًا شديدًا عن الإفساد في الأرض، ومنه إفساد البيئة الذي يعد من التجاوز المنهي عنه.
ونبهت التوصيات الأخرى أيضا إلى أهمية نشر الأبحاث والدراسات المتعلقة بالبيئة ووسائل الحفاظ عليها على نطاق واسع لتصبح ثقافة إنسانية مشتركة، مع العمل على إيجاد وعي بيئي جماعي بالدور الحيوي الذي تؤديه المناطق الخضراء بصفة عامة والتشجير بصفة خاصة، حيث يعد الحفاظ على المناطق الخضراء وعلى سائر المقومات البيئية مطلبًا دينيًّا واجتماعيًّا ووطنيًّا.. والدعوة إلى التعاون والتلاحم الدولي من أجل مقاومة التعدي على البيئة، والترويج الثقافي لمخاطر التعدي عليها وكيفية الوقاية من مخاطرها، مع تكاتف الجهود الدولية في تفعيل المبادئ الحاكمة والقوانين الرادعة لتصرفات المتسببين في تلوث البيئة على جميع المستويات الوطنية والدولية.
وفي هذا الصدد أشاد المشاركون في المؤتمر باستضافة جمهورية مصر العربية لمؤتمر الأمم الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول تغير المناخ Cop 27 الذي سيقام بمدينة شرم الشيخ في شهر نوفمبر من العام الحالي، وأكدوا في مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الثالث والثلاثين، ثقتهم الكاملة في قدرة الدولة المصرية على تنظيم مثل هذه المؤتمرات العالمية، مقدرين دور مصر في خدمة القضايا الدولية والإنسانية.