في آخر طبعة لجزأي كتابه (المحاكمة من محكمة الصمت إلى محكمة التاريخ)، يبدأ عالم الاجتماع اليمني البروفيسور حمود العودي بإعادة قراءة المواقف والسرديات المتعلقة بالتاريخ الاجتماعي لليمن، فينطلق في رحلة غوص لأعماق التاريخ، ويعيد تفكيك وتركيب الأطروحات والأحكام المتعلقة بفهمنا لطبيعة التفكير المختلفة بين الحضارات القديمة، مرورا عبر الزمن حتى التاريخ المعاصر، وصولا إلى محنته الشخصية التي تعد انعكاسا لما يتعرض له رواد التنوير العرب من محاكمات واتهامات ومضايقات على خلفية أفكارهم. تكوّن الجزء الأول من كتابيه الصادر عن مؤسسة أروقة بالقاهرة أخيرا، من ثلاثة ملفات رئيسية: الملف الأول، حاكم فيه ما ورد في التاريخ والتراث العربي عن المجتمع اليمني معيدا توجيه الأنظار إلى علاقة الإنتاج وأثرها في تكوين العقل الجمعي للشعوب، وانتقل لقراءة الأبعاد النظرية للمضامين الاجتماعية والعقلية في التراث الحضاري اليمني، وصولا إلى المدخل الاجتماعي في التاريخ والتراث العربي من البعد القطري إلى البعد القومي. يذهب العودي إلى القول بأن "أي مجتمع إنساني قد يستطيع أن يوجد ويستمر بلا دين ولا لغة مكتوبة وبلا سلطة سياسية أو دولة، وحتى بلا نظام عائلي بالمعنى الذي نتعارف عليه اليوم، لكنه لا يستطيع قط أن يوجد ويستمر دون مصادر اقتصادية للعيش وبلا طراز معين من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية"، وبناء عليه يعتبر المدخل الاجتماعي الاقتصادي هو المتغير الأساسي الأول الذي يفسر كل المظاهر الأخرى في حياة أي مجتمع بما فيها الدينية والسياسية واللغوية التي تعدو كونها متغيرا تابعا للمتغير الأساسي، ومستمدة وجودها منه، إلا أنه يرى أن قراءة التاريخ العربي لمم تنطلق من هذه الحقيقة فبدت "مشوهة ومقلوبة على رأسها إلى حد المسخ".
أورد العودي عدة أمثلة على تسطيح العقل العربي بالقول مثلا إن فأرا حطم سد مأرب، أو أو أن إماما لكل زمان ومكان قد اختفى في السرداب منذ مئات السنين.
"هذه الأكاذيب والسخافات الممعنة في هزء وامتهان العقل البشري وإفساد رشده وذوقه وخلقه يجب اليوم أن تنتهي"، هكذا يذهب الباحث باعتبار كتابه جهدا في هذا الاتجاه ولهذه الغاية: قراءة جديدة في قوانين وطبيعة تطور العقل العربي وتاريخه الاجتماعي بهدف تصحيحه، مقسما التراث العربي إلى رسمي وشعبي، والأخير ما هو غير مكتوب ولا مقنن ولا يعتمد الإلزام والجبر، لأن هذه من خواص الأول/الرسمي المستمد فاعليته من قوة القانون والسلطة السياسية وأجهزتها.
يعتبر العودي الأرض والإنسان عمودا الإنتاج وفق علاقتهما الاعتمادية/ التبادلية ببعض، ويقسم الجغرافيا اليمنية حسب طبيعتها، ليصل إلى استنتاج مفاده أن صعوبة وقسوة التضاريس اليمنية دفعت باتجاهين: الأول إصرار الإنسان اليمني على تطويع الطبيعة ببناء المدرجات لزراعية والسدود؛ والآخر بخل الطبيعة في عوائدها، حيث تتطلب جهدا أكثر لإنتاج أقل من احتياج الفرد المنتج، وأن الحضارات الأكثر استقرارا ارتبطت بالأرض المفتوحة كريمة العطاء، بعكس الجبال البخيلة، فالأرض متغير ثابت، والإنسان متغير تابع في علاقتهما وهذه العلاقة لا تؤثر في علاقة الإنتاج فقط بل في طراز معيشة المجتمع: "الحقيقة الجوهرية التي يمكن الخروج بها في هذا الصدد هي أن علاقة الإنسان اليمني برقعة أرضه الزراعية قد تجاوزت عبر التاريخ مجرد المنفعة الاقتصادية اللازمة للبقاء، ومالت هذه العلاقة إلى أن تشكل المدخل والبعد الأساسي لتكوين شخصية هذا الإنسان ونمط تفكيره وعلاقاته".
ويعطي العودي أهمية قصوى للدلالات الاقتصادية للقوى الإنتاجية في المجتمع اليمني القديم، انطلاقا من واقع أرضه وموقعها، كمدخل أساسي لقراءة دورة الإنتاج والعلاقة بين الأرض والإنسان حسب متغيرات المناخ والجغرافيا، فالموارد الاقتصادية الناجمة عن هذه التركيبة كرما وشحا، سهولة وصعوبة، ممانعة واستجابة، قلقا وطمأنينة، تعد صانعة النمط السلوكي المميز لإنسان مجتمع ما عن غيره، فقد اتجه اليمني القديم للتعدين والتجارة لخلق علاقة تكامل بين عوامل الطبيعة تمنحه البقاء، لعدم اطمئنانه لعوامل الطبيعة ورغبته في التفوق عليها، بطريقة خلقت عقلية متحررة من القيود والخرافات الغيبية وأكثر واقعية.
"إن أي تغير وتطور يحدث في قوى وأدوات الإنتاج لا بد أن يلحقه بالضرورة تغير وتطور في علاقات الإنتاج"، هكذا يفسر العودي اعتباره (قوى الإنتاج) هي المتغير الأساسي، و (علاقات الإنتاج) هي المتغير التابع في معادلة الحياة اليمنية القديمة، وهذا يفسر أيضا الطابع اليمني المتميز لنظام الملكية – خاصة في مراحل الازدهار الحضاري-، حيث يقوم على العمل الجماعي للاستصلاح والاستثمار والإدارة المركزة التي تشرف أيضا على "نمط الحيازات الفردية والعائلية الصغيرة".
فلم تكن الملكيات الإقطاعية موجودة بشكل مثبت في اليمن القديم، وإن توسع الملكية الفردية كان يرتبط بمراحل الانكماش والتراجع الحضاري، أي أن نمط الملكية والإدارة الجماعية للأرض الزراعية كان أحد عوامل وتمظهرات الازدهار الحضاري في اليمن القديم، وهذه الخصوصية اليمنية منعت سيطرة طبقة إقطاعية على أخرى عاملة نتيجة غزارة الموارد كما حدث في الحضارتين الهندية والمصرية على سبيل المثال، وهذا يفسر ميل الحضارة اليمنية إلى الإنتاج المرتبط بالحياة من سدود وطرقات وحصون، بعكس تضخم الإرث الحضاري المرتبط بالموت والحياة الأخرى، كبناء الأهرامات في مصر.
وفقا لهذه المعطيات من وجهة نظر العودي، فإن النخبة الحاكمة في اليمن القديم كانت تعكس قوة اجتماعية عسكرية بالدرجة الأولى وليس ثراء اقتصاديا، وبالتالي كانت ملزمة بمشاركة القرار مع القوى الاجتماعية الأخرى، وهو ما انعكس في المجالس النيابية التمثيلية للمجتمعات المحلية التي تشارك الملك سلطة اتخاذ القرار، ولا يحق له إصدار قرار ما قبل تداوله معهم، فالدولة اليمنية القديمة قامت على تجمعات واتحادات قبلية مستقرة وزراعية، وليس قبائل متنقلة كما هو في مناطق الجزيرة العربية الأخرى، ولهذا كانت تحمل تسمية "شعب/شعبم"، وليس قبيلة في النقوش القديمة.
ولأن العمل الجماعي قيمة مقدسة في المجتمع اليمني القديم، فقد نتج عنه حقوق فردية وأنماط فكرية مختلفة ومستوى مرتفع من الديمقراطية، ومثل جوهرا لغياب النظام العبودي والرق في اليمن القديم عكس الحضارات الأخرى، كما أن العمل الجماعي لم يكن سخرة كبناء مقبرة في حضارة أخرى لا يستفيد منها من بنوها، بل كان مقابل الاستفادة من المشاريع الجماعية أو نظام العمل المجتمعي التعاوني في صوره المبكرة للغاية، فبناء السد أو الطريق هو بنية تحتية للحياة والأحياء.
وفي نفس الوقت كان التدين بسيط وهامشي في اليمن القديم بحيث لا يخضع الأفراد لمشيئة الحاكم لأسباب دينية، وهذا ما عكسته النقوش التي احتوت مضامين اجتماعية واقتصادية تعكس نزعة عقلانية متحررة، وعندما دخل الإسلام إلى اليمن لم يكن هناك أصنام أو أوثان يعبدها اليمنيون، ولم يركنوا لآلهة تصلح لهم معيشتهم بل اتجهوا للتحكم في عوامل الطبيعة بشكل عملي مباشر.
في هذا الإطار الاعتقادي كانت المرونة وسرعة تغيير الأفكار ميزة يمنية خاضعة لمبررات منطقية للقبول بها أو رفضها، فأمطارهم الموسمية مثلا، جعلتهم يبنون السدود ولا يركنون للطبيعة أو الآلهة لتغيير المناخ، ولا بناء المقابر والمعابد العملاقة كحضارات أخرى، ولم يفسروا تقلبات الطبيعة وفقا لأسباب الخير والشر بل عملوا على قهرها أكثر من تفسيرها، وتعاملوا على معطيات المنطق ما قبل الموت وليس ما بعده، فقد عكست النقوش القديمة معادتهم للموت وسخريتهم من الدهر، وزينوا قصورهم وليس مقابرهم.
يتفق العودي مع المؤرخ الراحل مطهر الإرياني، بأن التدين والاعتقاد والطقوس في الأساس عن رغبات الإنسان واحتياجاته التي عجز عن تحقيقها في الواقع، فلجأ إلى الخرافة والغيبيات وإيجاد وسائط بينه وبين الآلهة، وذلك أيضا ينطبق نسبيا على المجتمع اليمني القديم في مراحل الضعف والانهيار حين لجأ إلى الديانة اليهودية والمسيحية، ولكنه في الوقت نفسه تعامل معها سياسيا أكثر من تعامله معها عقائديا، فلم تتحول إلى نظام ديني شامل، ولم تدم طويلا حتى تتكرس كعقائد بل كانت موجات سياسية ارتفعت وتلاشت خلال قرن واحد، والعقائد الدينية لا تنحسر بهذه السرعة.
وما يعزز ذلك أن النقوش اليمنية القديمة كانت ذات مضامين عملية مناسباتية تخلد انتصارات القادة وتوثق مواسم الحصاد، تأتي نهايتها بصورة هامشية إشارات إلى الآلهة ولا تتصدرها، "عدم استسلام عقول ووجدان قدماء اليمنيين للوثنيات والغيبيات المطلقة وربط شؤون حياتهم ومصيرهم بها هو الذي مكنهم من بناء نموذج حضاري إنساني وعلماني واضح". يؤكد العودي استنتاجاته بشأن الاعتقاد في اليمن القديم، ولتعزيز حجته يستند أيضا إلى ما أورده المؤرخ يوسف محمد عبدالله بأن أكثر من عشرة آلاف نقش يمني قديم تم تحقيقه وتوثيقه، ليس فيها ما يروي بوضوح تصورات اليمنيين القدماء الدينية.