السبت 27 ابريل 2024

كارين أرمسترونج.. الراهبة التي جذبتها روحانية العمارة الإسلامية إلى أن تخصصت في الدفاع عن الإسلام

كارين أرمسترونج

تحقيقات5-10-2022 | 20:57

د. إيهاب عبد السلام

الكتابات في السيرة النبوية كثيرة قديمًا وحديثًا، وإذا كان من الصعب أن يتجرَّدَ كاتب تمام التجرد في تناول موضوع ما، فغالبًا ما تؤثر عواطفه على كتابته، فإن هذا التجرد يكون أكثر صعوبة إذا كان الموضوع يتناول شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن الطبيعي أن تسيطر العاطفة على الكاتب سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، وتزداد أهمية العمل وما يمثله من إضافة في الدراسات الإنسانية بقدر ما يتسم به الكاتب من حيادية إلى جانب ما يحيط به من معلومات تخص موضوعه، ودقته في انتقاء الموثوق منها، وفي هذا السياق تأتي أهمية كتاب «محمد - سيرة النبي» للمستشرقة كارين أرمسترونج، والذي نتناوله في هذا المقال، خاصة وقد كتبته للمتلقي الغربي المعبَّأ بتصورات عدائية تجاه الإسلام ونبيه، فالكتابة المنصفة، أو شبه المنصفة عن النبي عليه السلام، من شأنها أن تختصر كثيرًا من المسافات التي ينبغي أن يقطعها من يصحح صورة الإسلام لدى ذلك المتلقى، ولا يغيب عنا أن الخطاب من غربي ليس مسلما من شأنه أن يكون أكثر قبولا لدى ذلك المتلقي. 

 

بدأت كارين أرمسترونج حياتها كراهبة داخل الأديرة المسيحية، وتخصصت في الاطلاع الموسع على الأديان السماوية، فتكونت لديها اقتناعات تتجاوز أسوار تلك الأديرة، ووجدت بالبحث المنصف أن تلك الأديان لا تحمل للبشر سوى رسالة الحب والسعادة على هذه الأرض، ورغم ذلك اتخذت أكثر الحروب دموية حيثياتها من تلك الأديان، فآلت الكاتبة على نفسها تصويب تلك الرؤى بكتاباتها وأبحاثها، التي بذلت من أجلها جهدا كبيرا، ليس فقط بين صفحات المراجع، وإنما سفرا بين البلدان، ومحاورةً واستماعا واستيعابا للآراء المختلفة.

 

وكان لاطلاع المؤلفة الواسع على الأديان السماوية وتاريخها دور كبير فيما تقدمه من حجج مقنعة لكل فكرة تطرحها، لتصحح مفاهيم مغلوطة، بُنِيت على أكاذيب وأوهام تجاه الآخر، فتجدها تشير كثيرا على مدار الكتاب إلى تلك الخشبة التي لا يراها من يشير إلى القشة في عين سواه.

 

في المقدمة أشارت المؤلفة إلى تهافت فكرة التخلِّي عن الدين، ورصدت رغبة شعوب العالم في نهاية القرن العشرين إلى العودة إلى الإيمان، ونبذ فكرة الإلحاد، وفي هذا السياق أصبح من المهم التعرف إلى هذه الأديان دون تزييف، خاصة وقد تقارب العالم ولم تعد إقامة الأسوار العالية بين الأمم وحول المدن مناسبة أو ممكنة، تقول في المقدمة: "لقد تقلص حجم العالم إلى حد مذهل، فكشف لنا عن مدى ترابطنا المحتوم، ولم نعد قادرين على اعتبار أنفسنا منفصلين عن غيرنا في المناطق النائية من الكرة الأرضية، أو قادرين على أن نترك أبناءها لمصيرهم، بل نحن نتحمل المسئولية عن بعضنا البعض، ونواجه أخطارا مشتركة، كما أصبحنا قادرين على احترام الحضارات الأخرى وتقديرها... لقد بدأت حواجز المسافات الجغرافية تتهاوى، وكذلك حواجز العداء والخوف، وهي التي كانت تفصل الأديان بعضها عن بعض، وتضع كلا منها في غرفة محكمة الإغلاق... ولكن الكراهية القديمة للإسلام تواصل ازدهارها، على جانبي المحيط الأطلسي، ولم يعد يمنع الناس أي وازع عن مهاجمة ذلك الدين، حتى ولو كانوا لا يعرفون عنه إلا أقل القليل".

 

وأشارت الكاتبة إلى أن نجاح الإسلام في الانتشار في أوروبا وشمال إفريقيا، ولَّد كراهية لدى الغربيين تجاهه، وخوفا غير مبرر منه، حتى صار ذلك إرثا ثقافيا للأوروبيين الذين يدعون العقلانية في أحكامهم، ولكنهم في الحكم على الإسلام لا يبدون عقلانيين البتة، تقول الكاتبة: «من الخطأ أن نظن أن الإسلام دين يتسم بالعنف أو بالتعصب في جوهره، على نحو ما يقول به البعض أحيانا، بل إن الإسلام دين عالمي، ولا يتصف بأي سمات عدوانية شرقية أو معادية للغرب، والواقع أنه عندما التقى المسلمون لأول مرة بالغرب الاستعماري إبان القرن الثامن عشر، بُهِرَ الكثيرون منهم بحضارته الحديثة وحاولوا محاكاتها».

 

وأشارت الكاتبة إلى دور الأجهزة الإعلامية في تشويه صورة الإسلام والمسلمين لدى المواطن الغربي، وذكرت مثالا لذلك تغطية موضوع سلمان رشدي «هذه الأجهزة قامت بتغطية إعلامية واسعة لأقوال المسلمين الذين تعالت أصواتهم تأييدا للفتوى التي أصدرها آية الله الخوميني بإهدار دم سلمان رشدي، وكانت تلك التغطية أكبر كثيرًا من تغطية آراء الأغلبية الذين عارضوا الفتوى، والواقع أن السلطات الدينية في المملكة العربية السعودية، وشيوخ الجامع الأزهر في القاهرة، -وهو الذي يتمتع بمكانة مرموقة- عارضوا تلك الفتوى قائلين إنها غير قانونية وغير إسلامية، فالشريعة الإسلامية لا تسمح بالحكم بالإعدام على أحد دون محاكمة، ولا تمتد سلطتها القضائية إلى خارج العالم الإسلامي، وفي مارس 1989 عُقد المؤتمر الإسلامي، الذي أعلنت فيه أربع وأربعون دولة عن رفضها بالإجماع لفتوى الخوميني (من مجموع الدول الإسلامية الأعضاء البالغ خمسا وأربعين دولة) ولكن أنباء ذلك الرفض لم تحظَ إلا بإشارة عابرة في الصحافة البريطانية، بحيث ظل الناس أسرى الانطباع الخاطئ بأن العالم الإسلامي كله يدعو إلى إراقة دم رشدي».

 

وتمضي الكاتبة في تفنيد التهم الموجهة للإسلام والتي تكلست منها تصورات خاطئة لدى الغربيين؛ كنظرة الإسلام للمرأة وهوانها وختان الإناث ونحو ذلك من تعميمات غير دقيقة، يتم اجتثاثها من مذاهب دون أخرى، اعتمادًا على جهل المتلقي الغربي بالفقه الإسلامي، وقد أظهرت الكاتبة ثقافة واطلاعًا جيدًا على الأحكام الفقهية في المذاهب الأربعة.

 

لقد اتخذت كارين أرمسترونج منهجًا مقنعًا في كتابها، فكانت تورد حيثيات شيطنة الإسلام لدى الغربيين وتفندها، ثم تذكر وقائع لدى غير المسلمين تشبه تلك الحيثيات، بل قد تكون أشد سوءًا، ويتم التغاضي عنها رغم ثبوتها، ففي الفصل الأول من الكتاب بعنوان: (العدوُّ محمد) تتبَّعت الكاتبة حملات تشويه المسلمين، وفندتها؛ فبينما صور الإعلام الغربي المسلمين الذين أحرقوا رواية آيات شيطانية بالهمجية والإرهاب وعدم قبول الآخر، وعدم الاستعداد لأية حوار فكري، تتساءل الكاتبة: «تُرى هل استطاع أبناء بريطانيا وهم يشهدون المسلمين المقيمين في مدينة برادفورد أثناء إحراقهم الرواية المذكورة، أن يقيموا علاقة من لونٍ ما بين ذلك الحدث وبين حوادث إحراق الكتب في أوروبا المسيحية على مر القرون؟ إذ حدث في عام 1242 على سبيل المثال أن قام الملك لويس التاسع، ملك فرنسا، الذي كان يشغل منصب قديس رسمي في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بإدانة التلمود اليهودي، باعتباره هجومًا خبيثا على شخص السيد المسيح، ومن ثمَّ أصدر أمرًا بحظر الكتاب، وأُضرمت النار في النسخ المصادرة أمام الملك، ولم يكن لويس التاسع على استعداد لمناقشة خلافاته مع الجاليات اليهودية في فرنسا بالوسائل السلمية والعقلانية وقال ذات يوم: إن الأسلوب الوحيد للنقاش مع أحد اليهود هو أن تقتله بطعنة نافذة في بطنه إلى أقصى ما يصل إليه السيف».

 

وذكرت المؤلفة العديد من الحجج الموثقة بمصادرها على أن الغرب المسيحي لا الإسلام هو الذي لا يطيق التعايش مع الآخر، وأن العداء بين الإسلام والغرب بدأ بهجوم الغربيين على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسردت على ذلك شواهد بداية من إسبانيا الإسلامية التي سمحت لليهود والمسيحيين بالتعايش الحر الآمن في ظل الإسلام، ورغم ذلك لم يستطع غير المسلمين كف لسانهم عن النبي عليه السلام.

 

   وذكرت الكاتبة كثيرًا من المزاعم الغربية لتشويه الإسلام ونبيه: «وَزُعِمَ فيما زُعِمَ أن رجلا يدعى سيرجيوس، كان راهبًا ثم أصبح مارقًا، ومن ثم أُرغم على الفرار من بلدان المسيحية، وكان ذلك ما ينبغي له أن يفعل، ومن ثم ذهب إلى بلاد العرب وقابل محمدا، ولقنه أصول الصورة المشوهة للمسيحية التي أتى بها، وكان الغربيون يقولون إن دين محمد (المحمدية) ما كان ليظهر على الدين كله إلا بحد السيف، وإن المسلمين لم يكن مسموحًا لهم بمناقشة الدين مناقشة حرة في الإمبراطورية الإسلامية، وإن محمدا قد انتهى نهاية تعتبر جزاء وفاقا، إذ هجم عليه قطيع من الخنازير أثناء إحدى نوبات اتصاله بالجن فمزقوه إربًا».

 

وفنَّدَتْ الكاتبة جميع هذه الأوهام، وذكرتْ أن الغرب لا الإسلام هو الذي حظر حرية مناقشة المسائل الدينية.

 

ومن الفصل الثاني للعاشر (وهو الأخير)، سردت الكاتبة السيرة النبوية، معتمدة على المصادر الموثوقة، من بدء الوحي إلى وفاة النبي عليه السلام، وأشارت إلى جهود كتاب السيرة المسلمين وأمانتهم ودقتهم في نقل الروايات ونسبتها للرواة دون تدخل منهم «وهذا في حد ذاته لبرهان على أن هؤلاء المؤرخين القدماء، ورغم تبجيلهم الواضح للرسول، كانوا يُضَمِّنُون سيرهم كل الروايات بكل ما يملكون من أمانة وصدق».

ل

قد بدا أن الكاتبة تعرف جيدا مواضع الداء، فكانت تضع يدها عليها وتعالجها من جذروها، وفي هذا السياق ذكرت أن انتصارات النبي محمد الواضحة بعد الهجرة جعلت الغربيين يرتابون في حقيقة نبوته؛ وسبب ذلك أن العالم المسيحي مسكون بصورة المسح المصلوب، فيميل إلى أن يكون الهوان والفشل مرتبطين بالقائد الديني، ولا يكون النصر إلا للقائد السياسي، ولا تكون تلك الانتصارات إلا باللغة الدنيوية لا الدينية؛ ووضَّحَت الكاتبة المغالطة التاريخية والعقدية في هذا، مُفَرِّقَةً بين البيئة التي بُعِثَ فيها المسيح والبيئة التي بُعِثَ فيها محمد (عليهما السلام)، وتتعجب من أن تسيطر هذه الفكرة على المسيحيين حتى في أثناء شنهم لحروبهم المقدسة على الشرق.

 

ولتوضيح الفرق بين الحالين تقول الكاتبة: «حينما أتى محمد برسالته إلى قومه، كانت بلاد العرب خارج نطاق العالم المتمدّن، وكان نظامها السياسي والاجتماعي في حالة انحطاط، أما المسيحية فقد ولدت إبان زمن الإمبراطورية الرومانية، التي كانت تفرض نوعًا من السلام والأمن الاجتماعي ولو بطرق وحشية، فلم يكن لعيسى والقديس بولس أن يقلقا بشأن النظام السياسي والاجتماعي، لأنه كان مؤسسا بالفعل، وفي الواقع فما كان لرحلات القديس بولس التبشيرية الطويلة أن تتم دون السلام الذي كانت توفره الإمبراطورية. أمَّا في بلاد العرب فكان دم الشخص الذي لم تكن تتوفر له الحماية (القبلية) محلا في الطريق... وخلافا لعيسى، فلم يتمتع محمد برفاهية الميلاد في عالم يسوده السلام، فقد ولد إبَّان حمامات الدم التي وُجدت في بلاد العرب».

 

وعلى هذا النحو من التوضيح والتفنيد مضت الكاتبة، في عشرة فصول، سردت من خلالها سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في قراءة منصفة من راهبة مسيحية، قررت ألا تُلْزِمَ نفسها بأي دين، وأن تقف على مسافة واحدة من الأديان جميعًا، لا تتوخَّى غير الحقيقة والحقيقة فقط، ولعلها اختارت هذا الموقع لنفسها ليكون المشهد الذي تخرجه للناس أكثر إقناعا فلا يقال: ذات عقيدة تدافع عن عقيدتها، حتى إنها أعلنتها صراحة: «لم أعد الآن من المؤمنين بالمسيحية، أو الممارسين لشعائرها، بل لا أنتمي رسميا لأي دين آخر، ولكنني عكفت على مراجعة أفكاري عن الإسلام... فرأيت أن الأنبياء والرسل في جميع الأديان الكبرى يتميزون بأن رؤاهم للحقيقة المتعالية القصوى تتشابه فيما بينها تشابها كبيرا، ومهما يكن التفسير الذي نختاره لهذه التجربة الإنسانية فهي حقيقة لا يمكن إنكارها».

Dr.Randa
Dr.Radwa