منذ القرون الوسطى اهتم المستشرقون الأوروبيون بالإسلام، فترجموا الكثير من الكتب والمخطوطات التي تناولت الدين الإسلامي، كعقيدة وكتراث ثقافي،ولم تكن كل الكتابات بالدقة والأمانة، سواء بسبب سوء فهم واستيعاب، وسواء "لحاجة في نفس يعقوب"، بيد أن ذلك الاهتمام تغيّر تماما في عصرنا الحاضر، خصوصا في القرن العشرين، فأصبحت الكتابات أكثر موضوعية، وأدقّ اهتمامًا وتحليلًا.
تناول المستشرقون مختلف المجالات ذات الصلة بالدين الإسلامي، من الكتابة عن العقيدة، وعن التنزيل الكريم، وعن سيرة الرسول (ص) وعن الخلفاء والتاريخ اٍلإسلامي في مختلف العصور، وصولًا إلى الاهتمام باللغة العربية، لغة القرآن الكريم، وإلى الآداب والفنون الإسلامية، من الفنون الزخرفية إلى دراسة عمارة المساجد.
وانصبت جهودهم على اكتشاف المخطوطات المجهولة وتحقيقها ونقلها إلى اللغات الأوروبية، كما كان الاهتمام بترجمة معاني القرآن الكريم، وبالسيرة النبوية وشخصية الرسول (ص) ملفتًا للنظر.
وعن النبي العربي وسيرة حياته وأحاديثه الشريفة، صدر العديد من الكتب بمختلف اللغات، ومنها مؤلفات جانيه وإيرفنج وكريل وبوير وبوهل وسواهم، ومنها كتاب مايكل هارت «المئة.. ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ»، وفيه كانت الصدارة الأولى للنبي محمد (ص)، كما كانت مثل هذه الصدارة في كتاب "الأبطال" لتوماس كارلايل، وهذا الكتاب ترجمه محمد السباعي وصدر في سلسلة "كتاب الهلال" عدد شهر فبراير سنة 1978.
وفي مقالتي هذه، سأعرض بمزيد من التفاصيل موضوع ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات أوروبية مختلفة، خصوصا في القرن العشرين، وبصرف النظر عن مستوى الترجمة ودنوّها من الدقة، فإن الإقدام على هذه الترجمات كان له مردود إيجابي جدير بالتقدير، إذ عرّف القراء غير المسلمين بمعاني الكتاب المنزل، وهم لا يقرأون اللغة العربية أساسًا، ويؤكد هذا المردود السعي لاقتناء هذه الترجمات من المكتبات ورواج النسخ بمبيعات عديدة.
ومما لا شك فيه أن ترجمة معاني القرآن الكريم ليست بالمهمّة السهلة، ويتطلب ذلك معارف كثيرة: في الفقه والشريعة وتاريخ نزول الآيات وظروفها، وفهم واستيعاب الكلمات الصعبة والتي تحتاج إلى تأويل وتتطلب سندًا من كتب التفاسير التي أصدرها أئمة وعلماء مسلمون؛ ومنهم على سبيل المثال: "جامع البيان في تأويل القرآن" المعروف بتفسير الطبري، أو "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي، أو "تفسير القرآن العظيم" الشهير بتفسير ابن كثير، أو "الكشاف عن حقائق وغوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" المعروف بتفسير الكشاف للزمخشري، أو "مختصر في تفسير القرآن" للجلالين، أي جلال الدين المحلي الذي ألّف القسم الأول من الكتاب، وجلال الدين السيوطي الذي أكمله. وتعدد هذه المؤلفات بأقلام هؤلاء العلماء يفسّر صعوبة المهمة، خصوصا بالنسبة لأجنبي، ليست اللغة العربية لغته الأم، ولا هو مسلم في الولادة والنشأة والتربية.
ثمة عدد كبير من المترجمين المسلمين الذين نقلوا معاني القرآن الكريم إلى لغات أوروبية مختلفة، منهم من ولد مسيحيًا واعتنق الإسلام كالمستشرق الإيطالي روبرتو بيكاردو، المولود سنة 1952، واعتنق الإسلام في منتصف سبعينات القرن العشرين وأصبح يدعى حمزة بيكاردو، أو المستشرق الأمريكي توماس بالنتاين إيرفنج (1914-2002) الذي اعتنق الإسلام في مطلع الخمسينات، وأصبح يدعى الحاج علي أبو النصر، أو السفير الألماني فيلفريد هوفمان (1931-2020) الذي اعتنق الإسلام سنة 1980 وأصبح معروفًا باسم مراد هوفمان، وقد تميّزت ترجمته التي صدرت عام 1990 ببساطة أسلوبها الأمر الذي يسّر على قراء اللغة الألمانية استيعاب معاني القرآن الكريم.
كما أن المستشرق الفرنسي اليهودي أندريه شوراكي (1917-2007) أصدر سنة 1990 ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الفرنسية، لكنني في هذه المقالة سوف أسلط الأضواء على المترجمين المسيحيين.
وبالرغم من أنني سأتناول ترجمات القرن العشرين، إلا أنني أبدأ بكلمة مختصرة عن فريدريش روكرت (1788-1866) الشاعر والمستشرق الألماني، هو لم يترجم معاني القرآن الكريم كاملًا، بل ترجم بعض السور والآيات، وبرغم تحفظات البعض على ترجمته بسبب عدم الاستيعاب الصحيح لبعض المعاني، فلقد لفتت جمالية هذه الترجمة الأنظار، خصوصًا ترجمته لسورة الإخلاص، وقد صاغها مستخدمًا أسلوب السجع، غير المألوف في اللغة الألمانية، لكنه الأقرب قدر الإمكان من النص الأصلي، علمًا بأن هذه السورة القصيرة ليس بها ما يصعب على الفهم أو ما يحتاج إلى تأويل خاص.
في القرن العشرين برزت ثلاثة أسماء لمستشرقين ألمان مسيحيين قاموا بترجمة معاني القرآن الكريم: رودي باريت وهارتموت بوبزين وعادل تيودور خوري.
رودي باريت (1901-1983) أبوه قسيس مسيحي، وهو اهتم منذ الدراسة الجامعية بموضوع الإسلام، كدين وتراث. مارس التدريس الجامعي وألّف العديد من الكتب المختصة بالإسلام. كان سنة 1941 أستاذ كرسي الإسلاميات واللغات السامية في جامعة بون.
وتولّى المهمة نفسها في جامعة توبنجن من عام 1956 إلى تقاعده سنة 1968. ومن أبرز مؤلفاته كتاب "محمد والقرآن" (صدر سنة 1979) وفيه تناول الرسالة المحمدية وارتباطها بالقرآن الكريم. على أنه قبل ذلك كان قد أنجز المشروع الكبير المحبب لديه، أي إصدار "ترجمة قرآنية علمية جديدة مشروحة شرحا موجزا".
وقد صدرت هذه الترجمة سنة 1971، في مجلدين، الأول خصص للترجمة، والثاني به الشرح والحواشي الملحقة بالترجمة. وقد أجمع الخبراء الألمان والعرب على اعتبار ترجمته هي الأدقّ بين الترجمات، وإن كانوا قد لاحظوا أنها مفرطة في الأكاديمية، ولغتها علمية تنقصها الجمالية. وفي ذلك قال المستشرق الألماني الكبير يوزف فان إس "لقد ارتبط اسم رودي باريت بهذا الإنجاز. وبعد صدوره لم يعد أي مستشرق ألماني متخصص بالدراسات الإسلامية يستخدم أيًّا من الترجمات القرآنية السابقة (...) وقد فضّل باريت الدقّة على الأناقة اللغوية، ويبدو أنه من العسير أن يحصل المرء على كليهما معا".
أما المستشرق الألماني المعاصر هارتموت بوبزين (1946-...) فلقد نشر ترجمته لمعاني القرآن الكريم سنة 2004 بالتزامن مع احتفال معرض فرانكفورت الدولي للكتاب باللغة العربية. وقد تخصص في علوم اللاهوت الإنجيلي واللغات القديمة في جامعة ماربورج، وفيها نال شهادة الدكتوراه. أما شهادة الأستاذية فنالها أوساط الثمانيات في جامعة ايرلنجن، وأصبح أستاذ كرسي العلوم الإسلامية. ومن أبرز مؤلفاته الأخرى في التراثين الإسلامي والعربي: كتاب "الدراسات القرآنية في أوروبا" و"الأفعال الشائعة في اللغة العربية المعاصرة" وكتاب "النبي محمد".
وأما عادل تيودور خوري (1930- ...) فهو راهب مسيحي ولد في لبنان ودرس الفلسفة واللاهوت في الجامعة اليسوعية في بيروت، ونال درجة دكتوراه دولة من جامعة ليون في فرنسا سنة 1966، ثم انتقل إلى ألمانيا وما زال مقيما فيها حتى يومنا هذا. شغل منصب أستاذ علوم الأديان في كلية اللاهوت الكاثوليكية في جامعة مونستر من 1970 إلى 1993.
أصدر العديد من المؤلفات التي اهتمت بتعريف القارئ الألماني بالدين الإسلامي، كما اهتمت بالحوار بين الإسلام والمسيحية. وفي 1987 أصدر الجزء الأول من ترجمة معاني القرآن الكريم بعنوان "القرآن. عربي-ألماني. ترجمة وتفسير علمي" وواصل إصدار بقية الأجزاء التي بلغ مجموعها 12 جزءا.
وقد صرّح بقوله "وقفت أربعين عاما من عمري في سبيل ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية، ألّفت خلالها 80 كتابا و250 مقالة توخيًّا للحقيقة والدقة في عملي، لكي أمهد الأرضيّة لتقديم الصورة الحقيقية عن الإسلام لغير المسلمين".
وبرغم هدفه النبيل القاصد إقامة جسر تلاقٍ بين الإسلام والمسيحية، فلقد أخذ عليه البعض تماديه خلال التفسير في إبراز أوجه التشابه بين القرآن والإنجيل"، علما أن عادل تيودور خوري أنجز هذه الترجمة بالاشتراك مع الأستاذ المسلم محمد سليم عبد الله.
وفي فرنسا صدرت في القرن العشرين عدة ترجمات لمعاني القرآن الكريم، منها تلك التي أنجزها رينيه خوّام (1917-2004) وهو من أسرة سورية ومن مواليد حلب. أصدر في فرنسا العديد من ترجمات التراث العربي الإسلامي، من أبرزها ترجمة "ألف ليلة وليلة". وقد نشر ترجمته لمعاني القرآن الكريم سنة 1990. على أن الأشهر هما ترجمة البروفسور جاك بيرك (1910-1995) والمستشرق ريجيس بلاشير (1900-1973).
وجاك بيرك عالم اجتماع وأحد كبار المستعربين الفرنسيين. من مواليد الجزائر، درس في جامعتي الجزائر والسوربون، وعاش وسط ثقافتين مختلفتين: المسيحية الفرنسية والإسلامية الجزائرية. من أبرز مؤلفاته: "دراسات في التاريخ الريفي المغربي" و"الشرق الثاني" و"الإسلام يتحدى" و"العرب بين الأمس والغد" إلى جانب كتابه الأساسي "ترجمة معاني القرآن الكريم".
وقد أصبح عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة بترشيح من عميد الأدب العربي طه حسين. وكان بيرك قد كتب مقدمة لكتابه "القرآن محاولة ترجمة" من 82 صفحة، لكنه وضعها في ختام الكتاب مبررا ذلك بالقول "إن كلام الله لا يجب أن يكون مسبوقا بكلام البشر". ولم تسلم ترجمته من انتقادات بعض العلماء المسلمين، ما جعله يوصي بأن توضع نسخة من كتابه المترجم في قبره ليحكم خالقه عليه.
أما ريجيس بلاشير فقد عُرف باطلاعه العميق على اللغة العربية والأدب العربي، بعدما عاش سنوات في الجزائر والمغرب. لدى عودته إلى باريس شغل منصب أستاذ كرسي الأدب العربي في كلية اللغات الشرقية. وقد ألّف العديد من الكتب، منها: كتاب عن المتنبي "شاعر عربي من القرن الرابع الهجري " وترجمة فرنسية لكتاب " طبقات الأمم" لمساعد الأندلسي.
وقد لخّص في كتابه "قضية محمد" أبحاث المستشرقين الأوروبيين عن حياة النبي محمد (ص). وأصدر ثلاثة أجزاء من كتاب "تاريخ الادب العربي"، بحث فيه نشأة التدوين التاريخي في الإسلام حتى نهاية القرن الخامس عشر، لكنه توفي قبل أن ينجز بقية الأجزاء.
أما ترجمته لمعاني القرآن الكريم فلقد تعرّضت لبعض النقد، لكن ثمة إجماع على جمالية أسلوبه باللغة الفرنسية، الأمر الذي كان له أثر إيجابي في اجتذاب القراء الأجانب، غير العرب وغير المسلمين، للتعرف على التراث الجليل للرسالة الإسلامية.
حسن حسين: صحافي عراقي مقيم في ألمانيا منذ عقود، ومترجم من اللغة الألمانية إلى العربية. في ألمانيا عمل في الصحافة، خصوصا في إذاعة "دويتشه فيله" الألمانية. هو متقاعد حاليا، لكنه لم ينقطع عن العمل الصحافي من خلال مشاركته في ندوات تلفزيونية وإذاعية وعبر منصات التواصل الاجتماعي، كمقدم أو كصاحب مداخلة.