الخميس 16 مايو 2024

قضية الهوية في الحرب الروسية الأوكرانية

مقالات13-10-2022 | 18:39

استند الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في تبريره لعملياته العسكرية الأخيرة في الأراضي الأوكرانية إلى ما هو أبعد من الادعاء بمنع انضمام أوكرانيا إلى تحالف شمال الأطلسي (الناتو) ليشمل طموحًا أكبر وهو الهيمنة على أوكرانيا سياسيًّا، واقتصاديًّا، وعسكريًّا، مرتكزًا على الوحدة التاريخية والثقافة المشتركة بين البلدين.

 تُعد مسألة الهوية إحدى أبرز الذرائع التي روجت لها روسيا لشن عدوانها، وجاء ذلك صراحةً في الخطاب الذي ألقاه «بوتين» في فبراير 2022؛ مشيرًا إلى أن الهوية الأوكرانية جزء لا يتجزأ من نظيرتها الروسية، وأن التغيير الذي طرأ عليها ما هو إلا صناعة غربية؛ بهدف التصدي للمصالح الروسية.

كان الاعتقاد السائد أن نسبة كبيرة من الشعب الأوكراني - خاصةً في الأقاليم الناطقة بالروسية في شرق وجنوب البلاد - سترحب بالتواجد الروسي، وإعادة الاندماج في مجال النفوذ الروسي، إلا أن الأحداث العدائية التي بدأتها روسيا في أوكرانيا منذ عام 2014 وحتى الآن خلقت حالة من الرفض الشعبي الأوكراني، وساعدت على تعزيز الهوية الوطنية الأوكرانية في مواجهة الغزو الروسي.

 بدأت تلك الأحداث باندلاع «ثورة الكرامة» في فبراير 2014، والتي أسقطت النظام السياسي الأوكراني وأطاحت برئيسه المنتخب «فيكتور يانوكوفيتش» - المعروف بولائه لروسيا - وذلك بسبب تراجعه عن توقيع اتفاق تجاري شامل مع الاتحاد الأوروبي كان من شأنه التأثير سلبًا على الاتفاقيات التجارية الأوكرانية مع روسيا، بكونها أكبر شريك تجاري لأوكرانيا في ذلك الوقت. 

تصاعدت الأحداث ووصلت إلى حد التدخل العسكري الروسي من أجل مساندة الرئيس المخلوع، وحماية المصالح الروسية داخل الأراضي الأوكرانية، وبالفعل نجحت روسيا في السيطرة على مواقع استراتيجية وحيوية في شبه جزيرة القرم أدت في نهاية المطاف إلى ضمها لروسيا بموجب الاستفتاء الذي أُجري في مارس 2014، ناهيك عن «حرب دونباس» التي شنتها روسيا بدعوى حماية المكون الثقافي الروسي ودعم الانفصاليين، وأسفرت عن انفصال إقليمي «دونيتسك»، و«لوهانسك».

عززت تلك الأحداث المتوالية من حالة الانقسام الأوكراني الروسي ورغبة الأوكرانيين في الانفصال عن الموروثات الروسية ليس فقط بالنسبة للسكان الغربيين الناطقين بالأوكرانية فحسب، إنما شمل أيضًا بعض سكان الأقاليم الشرقية والجنوبية الناطقين بالروسية.

كيف تطورت الهوية الوطنية الأوكرانية؟ 

إن الاتجاه نحو الاعتزاز بالهوية الوطنية الأوكرانية لم يكن فقط وليد تلك الأحداث، إنما كانت له العديد من الدلالات خلال العقود الماضية التي تطورت بفعل تلك التدخلات، ومنها ما يلي:

-الموافقة على الاستفتاء الذي أٌجري عام 1991 والمتعلق بالاستقلال عن الاتحاد السوفيتي بنسبة 92.3 في المائة من الناخبين حتى في المناطق الناطقة بالروسية في شرق أوكرانيا.

خلال السنوات الأخيرة من حكم الاتحاد السوفيتي، فاق عدد المتحدثين بالروسية عدد المتحدثين بالأوكرانية في معظم الأقاليم الشرقية. وبحلول عام 2001 ازداد عدد المتحدثين بالأوكرانية في كافة أنحاء البلاد باستثناء شبه جزيرة القرم، وإقليمي دونيتسك، ولوهانسك. أما اليوم يعتبر أكثر من ثلثي المواطنين الأوكرانيين اللغة الأوكرانية اللغة الرسمية للبلاد حتى في المناطق الشرقية.

انعكس هذا التحول الثقافي للشعب الأوكراني على سياسات الدولة؛ ففي عام 2019 أصدر الرئيس الأوكراني السابق «بيترو بوروشنكو» (2014 – 2019) قرارًا بجعل اللغة الأوكرانية اللغة الرسمية للدولة، وإلزام جميع وسائل الإعلام بالنشر باللغة الأوكرانية مع إمكانية نشر نسخ موازية بلغات أخرى، الأمر الذي وصفه «بوتين» آنذاك بـ «الإبادة الجماعية» التي ارتكبتها الدولة الأوكرانية.  

عقب عام 2014 فقدت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو، والتي تأسست في الأيام الأخيرة من الاتحاد السوفيتي كفرع يتمتع بالحكم الذاتي من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، عددًا كبيرًا من أتباعها خلال السنوات الأخيرة بسبب علاقاتها بالصين التي تروج لفكرة النفوذ الروسي لدول الاتحاد السوفيتي.

وفي عام 2018 أعلنت كنيسة كييف انفصالها عن كنيسة موسكو بموافقة من بطريركية القسطنيطينية، مما أدى إلى إعلان القطيعة بين بطريركية موسكو وبطريركية القسطنطينية المسكونية، ومع كنيسة الروم الأرثوذكس بالإسكندرية وكنيسة اليونان؛ بسبب اعترافهم جميعًا باستقلال كنيسة كييف. 

عقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 تنامت الدعوات إلى انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بشكل كبير، وذلك بغض النظر عن مدى استعداد أي من المنظمتين لقبول أوكرانيا، فقبل عام 2014 بلغت نسبة المؤيدين للانضمام إلى الناتو أقل من 50 بالمائة، أما في أوائل العام الجاري (2022) وصلت تلك النسبة إلى 62 بالمائة، كذلك يدعم أكثر من ثلثي الأوكرانيين (68 في المائة) العضوية في الاتحاد الأوروبي.

على الرغم من ذلك، إلا أنه ما زالت هناك بعض الدعوات المؤيدة للنفوذ الروسي باقية في أركان المجتمع الأوكراني من المواطنين، والسياسيين، وأفراد الجيش، وأجهزة الأمن وبرز ذلك بشكل واضح إبان ضم شبه جزيرة القرم.

تستهدف روسيا في حربها تلك الفئة الموالية، ويأتي على رأسها المعارضة المؤيدة للرئيس الأسبق «يانوكوفيتش» المخلوع (2010 – 2014)، الذي روج للروسية باعتبارها لغة مشتركة، ودعم المؤسسات الدينية المرتبطة بالصين، وفَضَّل التكامل الاقتصادي والسياسي الوثيق مع روسيا.

 حققت تلك السياسة مكاسب إستراتيجية مهمة لروسيا، وهو ما أعلن عنه «بوتين» مؤخرًا بضم أربعة أقاليم أوكرانية، تمثل حوالي 15 في المائة من الأراضي الأوكرانية، وهي: دونيتسك ولوهانسك في الشرق، وزابوريجيا وخيرسون في الجنوب، وذلك بموجب استفتاءات شكك الغرب في نزاهتها، شأنها شأن الاستفتاء الذي ضمت بموجبه روسيا شبه جزيرة القرم.

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن استمرار التدخل الروسي في الشأن الأوكراني، منذ عام 2014 وحتى الآن، لم يجعل الأوكرانيين يرضخون لروسيا بل بالعكس ساعد على خلق حالة من الانقسام الشديد بين الهويتين بشكل يصعب على الأوكرانيين تقبل فكرة إعادة الاندماج مع روسيا مرة أخرى لاسيما في ظل حكم الرئيس الأوكراني الحالي «فولوديمير زيلينيسكي» الذي انتُخب عام 2019 في ظل ظروف الاحتلال والحرب.

** باحث بمكتبة الإسكندرية