الخميس 26 سبتمبر 2024

هكذا تغنّى الأدباء المسيحيون العرب بالإسلام

وصفي قرنفلي

ثقافة14-10-2022 | 14:19

فارس يواكيم

بدأ اهتمامي بكتابات المسيحيين العرب في موضوع الإسلام عندما قرأت في مجلة "الهلال" بالذات (عدد نوفمبر1976) مقالة بعنوان "شاعر عربي مسيحي يكتب عن محـمد" (والعنوان نشر على غلاف المجلة أيضا) مع مقدمة تشير إلى أن الشاعر هو السوري وصفي قرنفلي وجاء فيها "هذه القصيدة هي ثمرة من ثمرات الوحدة الوطنية التي تمتد بجذور عميقة في الوجدان العربي بين المسلمين والمسيحيين و[الهلال] تعيد نشر هذه القصيدة ليتذكر الجميع أن العرب أمة واحدة، وأن الصراع الطائفي في الوطن العربي ليس له جذور حقيقية". 

 

وفي القصيدة مديح لا لبس فيه، وعن قناعة، للإسلام وللرسول (ص). وفي مطلعها ردّ على الذين اتهموه بالنفاق: "قد يقولون شاعر نصراني/ يُرسل الحبّ في كذاب البيانِ/ يتغنّى هوى الرسول ويهذي/ بانبثاق الهدى من القرآنِ/ ينتحي الجبهة القويّة يحدوها رياءً، والشعر لا وجداني/ كذبوا والرسولِ، لم يجرِ يومًا/ بخلاف الذي أكنّ، لساني/ أوَ عارٌ على فتى يعربي/ أن تغنّى بالسيد العدناني؟/ أوَ ليس الرسول منقذ هذا الشرق من ظلمة الهوى والهوانِ؟".

 

أثار نشر هذه القصيدة وما جاء في مقدمة "الهلال" لها في نفسي الرغبة في وضع كتاب أساسه هذا الموضوع، خصوصا وأن قصيدة وصفي قرنفلي نُشرت في مجلة "الرسالة" القاهرية سنة 1934، وبقيت غافية في ظلال النسيان 42 عاما إلى أن أحيت مجلة "الهلال" وجودها. ورأيت أن الموضوع على جانب كبير من الأهمية لكي يدرك المسلمون الكتابات الإيجابية بأقلام مسيحيين عن الإسلام ورسوله (ص)، ولكي ينتبه المسيحيون إلى ما كتبته نُخَبهم عن قيم الإسلام، وقررت أن أؤلف كتابا عنوانه "الإسلام في شعر المسيحيين" وقد صدر عن دار "الفرات للنشر والتوزيع، بيروت، 2016. 

 

وخلصت في بحثي إلى أن المسيحي العربي يتعرف على الإسلام في مجتمع بلده منذ تفتح وعيه وبداية إدراكه. ولأن اللغة العربية هي لغته الأم، وهي في الوقت نفسه لغة القرآن الكريم، فقد سهل عليه ولوج عالم الثقافة الإسلامية. وعند الذين احترفوا الأدب منهم برزت ملامح هذه الثقافة في كتاباتهم. 

 

وثمة أدباء عرب معروفون مسيحيون صدّروا كتبهم بالبسملة. منهم الأديب ناصيف اليازجي في كتابه "العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب" ورجل الدين الخوري يوسف عون لدى نشره ترجمته للإنجيل. ولا غرابة في ذلك، فالمسيحي يؤمن بأن الله رحمان ورحيم. أما الأديب اللبناني مارون عبود، فسمّى ولده البكر "محمد" إجلالا للنبي العربي (ص). وكتب سنة 1926 قصيدة عنوانها "محمد مارون" ذكر في تقديمها "رُزقت ولدا فسمّيتُه محمدا (...) وكان أول من قدّر هذا العمل وأُعجب به أشدّ الإعجاب صديقي المرحوم أمين الريحاني". ومن مستهلّ القصيدة: "عشتَ يا ابني، عشت يا خير صبي/ ولدته أمّه في "رجبِ"/ فهتفنا واسمُهُ محمدٌ/ أيها التاريخ لا تستغربِ/ خفّف الدهشة واخشع إنْ رأيتَ ابن مارون سميًّا للنبي/ أمُّهُ ما ولدته مسلمًا/ أو مسيحيًا ولكن عربي/ والنبيُّ القرشيُّ المصطفى/ آية الشرق وفخر العربِ/ يا ربوع الشرق اصغي واسمعي/ وافهمي درسًا عزيز المطلبِ".     

 

واعتبارا من القرن التاسع عشر كان العديد من المسيحيين من أعلام الأدب العربي، بل وحافظ المسيحيون على اللغة العربية وتمسكوا بها، خصوصا في الحقبة العثمانية، وكان الإسلام في نظرهم صنو العروبة والمرجعية الثقافية للعرب. وفي ضوء ذلك نقرأ ما كتبه جبران خليل جبران في نص حمل عنوان "إلى المسلمين من شاعر مسيحي"، قال: "أنا مسيحي ولي فخر بذلك، ولكني أهوى النبيّ العربي وأكبّر اسمه وأحبّ مجد الإسلام وأخشى زواله ... أنا أجلّ القرآن، ولكني أزدري من يتخذ القرآن وسيلة لإحباط مساعي المسلمين، كما أنني أمتهن الذين يتخذون الإنجيل وسيلة للتحكم برقاب المسيحيين". 

 

وعلى هذا الأساس يرجع رفض الأدباء المسيحيين للاحتلال العثماني لبلادهم إلى انتمائهم إلى القومية العربية والتزامهم بها، وهو ما جعلهم يرفضون الاستعمار الأجنبي لبلادهم بكل جنسياته، فرنسية كانت أم بريطانية، حتى وإن كانت هذه الدول "مسيحية". والخلاف مع العثماني ليس لكونه مسلما، بل لأنه يحتل الوطن. وفي كتاب "السراج وأدب الرسائل" يروي د. حديد السراج عن والده الأديب واللغوي السوداني: "كانت للشيخ الطيب السراج علاقات واسعة مع أخوتنا المسيحيين السودانيين الأقباط، الذين كانوا دائما صفا واحدا مع أخوتهم المسلمين السودانيين في مواجهة المستعمرين الإنجليز ومكائدهم والتصدي لسياساتهم المعادية لشعب السودان ومناضليه".   

 

وفي إطار الدعوة للتفهم والتفاهم والتلاحم عبر الوحدة الوطنية كتب العديد من الأدباء العرب، المسيحيين منهم والمسلمين، يدعون إلى التآخي وإلى نبذ الفتن التي تسعى للفرقة بين أبناء الوطن. قال الشاعر الفلسطيني إسكندر الخوري البيتجالي: "لا، لن تنال من اتحاد الملّتين يدُ الفِتَنْ/ كلا، ولن تصدع ما بينهما هذي المِحَنْ". أما الأديب المصري عباس محمود العقاد فأحزنه الصراع الطائفي في سوريا ولبنان فناجى القوم قائلا: "ما في المدامع من شعار كـنـيسـة/ يوم الحنين ولا شعار هلالِ/ أمنازعون على السماء وأرضكم / نهـب لـكـلّ مـنازع ومـوالِ؟!". أما الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي فكتب قصيدة "الحرب العظمى" وفيها يشكو بني قومه المتقاعسين، الذين بدلا من الانتفاض لكرامتهم الوطنية ينشغلون بالتناحر الداخلي: "ما بالُ قومي نائمين عن العـُلى/ ولـقـد تـنـبـّه لـلـعُـلـى الـثــّقــلانِ/ تـُبـّاعُ أحـمـدَ والـمسـيحَ هـوادةً/ ما الـعـهـد أن يـتـنـكـّر الأخـوانِ/ الله ربُّ الـشـرعـتـيـن وربـكـم/ فإلـى متـى فـي الديـن تـخـتصـمـان؟". وتعبير "الله ربّ الشرعتين" مستوحى من القرآن الكريم ": ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة... الآية - سورة المائدة - 48﴾. 

 

وفي بعض النصوص يمكن أن يُفاجأ القارئ بأن الكاتب مسيحي، وذلك لعمق اطلاع الأديب على الثقافة الإسلامية. هذا جبران تويني (أبو غسان) الصحافي والسياسي والأديب اللبناني ينظم قصيدة بعنوان "مناسك الحج" وكأنه قد أدّى فريضة الحج إلى البيت الحرام. قال: "هذا الحـجـيـج أقبلا، مكبـّرا مهلـّلا/ يطوف بالبيت العتيق ساعيًا مهرولا / الله لا إلـه إلا الله، قُـمْ حَـيّ عَلَـى/ طـاف بالـبـيـت محـرمـا وتـهـيـّا/ لـلـقـاء الـرحــمـن بــرّا نــقـيــــّا/ ومـشـى من مـنـى إلى عرفـات/ يـذكـر الـلـه بـكـرة وعـشــيـــــّا/ ويناجي النـبي في مهبط الوحـْي  - هـنـيـئـا   لمـن يناجي  الـنبيـّا/ لـبـّيـك الـلـهــمّ يــا رحـيــــــمْ/ لـك ازدلـفـنـا بـجـوار الـحـطيـم/ من زمـزم نروى، وأكـبـادنـا/ حـرّى إلى غـفـران يومٍ عـظيـم".  

 

ومثله الشاعر السوري جاك شماس في قصيدته "خاتم الرسل"، ولولا اسمه الصريح لظنّ القارئ أن الناظم مسلم. قال في مستهلّها: "يا خاتم الرسل الموشّح بالهدى/ ورسول نبلٍ شامخ البنيانِ/ ألقى عليك الوحي طهر عقيدة/ نبويّة همرت بفيض معانِ/ قوّضت كهف الجهل تغدق بالمنى/ ونسفت شرك عبادة الأوثانِ ماذا أُسطّر في نبوغ [محمد]/ قاد السفين بحكمة وأمانِ/ ومآثر الإسلام في سِفر الهدى/ دربُ النجاة وشعلة الفرقانِ/ أنا يا [محمد] من سلالة يعرب/ أهواك دين محبّة وتفانِ". 

 

ويلمس القارئ في قصائد الشعراء المسيحيين مدى تعمق هؤلاء الأدباء في الثقافة الإسلامية، ويكتشف الصلة بين أبياتها ومصادرها الإسلامية. وللشاعر السوري المهجري جورج صيدح قصيدة شهيرة نظمها في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس في مناسبة ذكرى المولد النبوي. استخدم فيها لازمة شعرية تكررت في قفلات المقاطع مستوحيا آية من سورة الرحمن ﴿فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان﴾ معتمدا تكرارها كما تتكرر الآية في السورة، ومقتبسا الصياغة، مع تنويعات طفيفة "يا صاحبيَّ بأي آلاء الرسول تكذبان". وفي العديد من أبيات القصيدة يكتشف القارئ الاستناد على القرآن الكريم. نظم في أحد الأبيات: "لا يعجز الله الذي/ إن قال كنْ للشيء كان" والتعبير مستوحى من سورة النحل 40 ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾. وعندما تقرأ البيت القائل "يوفون بالنذر الذي/ كتب الكتاب له الضمان" يذهب ذهنك فورا إلى سورة الإنسان، الآية 7 ﴿يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا﴾. كما أن قول الشاعر "فرضُ الزكاة محتّم/ لا منَّ فيه ولا امتنان" يستند إلى ما جاء في ختام الآية 20 من سورة المزمل ﴿... وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا﴾.   

 

أما الشاعر الفلسطيني سعيد جريس العيسى فنظم قصيدة عنوانها "من وحي الإسراء" استوحاها مما أتى ذكره في الآية الأولى من سورة الإسراء في القرآن الكريم: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾. قال الشاعر: "سبحان ربّك إذ أسرى بأحمده/ من مسجد الله في إحدى لياليهِ/ يطوي الجزيرة تجوالا وينشرها/ في مَهْمهٍ مقفر جهْمٍ نواحيه/ حتى إذا بلغ [الأقصى] تحفّ به/ ملائك الله، والرحمن يحميهِ/ لوى الأعنّة شطر [البيت]/ هوجُ العواصف يطويها وتطويهِ/ على البراق إلى السبع الطباق/ مصعّدًا، نورُ ربّ العرش يُصبيهِ". وقبل أن يصوغ سعيد العيسى قصيدته "هلال كريم" كان قد قرأ سورة البقرة جيدا واستوعب ما جاء في الآية 189 ﴿يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج﴾. وفي البيت الذي قال فيه "لم يعدم المسكين فيك مبرّة/ ولم يشكو الفقير خواء" استوحى قوله تعالى في الكلام على الصيام ﴿وعلى الذين لا يطيقونه فدية طعام مسكين -البقرة 84﴾. أما قصيدة "ابتهال" فهي نشيد ابتهالي صاغه الشاعر من وحي الحج إلى بيت الله الحرام في معناه ومناسكه. وفي بعض أبياتها بلغ التأثر حدّ النقل حرفيا إلى حد كبير، كمثل قوله "صلِّ واضرع هنا لربّك وانحرْ/ واسفح الدمع في الأديم المطهّر/ ما كبيرٌ إلا وربّك أكبر/ في علاه، مهما طغى وتجبّر". لا يحتاج القارئ لمجهود ليتذكر الآية الثانية في سورة الكوثر ﴿فصَلِّ لربّك وانحر﴾. أما تعبير "الله أكبر" فهو في التراث الإسلامي منذ التنزيل وبدايات انتشار الدين. ﴿... ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون.. سورة البقرة -185﴾.