بقلم – يوسف ورداني
معاون وزير الشباب والرياضة
تزايدت فى السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين المخاطر التى تبثها شبكات التواصل الاجتماعى على استقرار الدول والمجتمعات، والتى أدت فى كثير من الأحيان إلى “إسقاط” هذه الدول، أو “إفشالها” فى حالة استقرار مؤسساتها العامة، وأصبح ذلك الأمر “صناعة” تقوم عليها وتستثمر فيها أجهزة مخابرات دول ومؤسسات غير حكومية دولية ومحلية،
وهى صناعة لها مفاهيمها الحاكمة، ومدخلاتها القائمة على بث روح اليأس والإحباط من خلال الطعن فى الماضى والتشكيك فى الحاضر ونزع الحلم عن المستقبل، ومخرجاتها المتمثلة فى تدنى نسب الرضاء العام فى المجتمع والذى يكشف عن نفسه فى حالة “السخط المدفون” والتظاهرات والاعتصامات والإضرابات وصولاً إلى الانتفاضات والثورات الشعبية، كما أن لها عمليات التحويل الخاصة بها لاسيما بين الشباب والفئات المهمشة.
نشطت هذه الصناعة فى ظروف بيئة جديدة تميزت بازدياد عدد مستخدمى الانترنت فى العالم ليصل إلى ما يزيد على ٣.٥ مليار مستخدم فى ٢٠١٧ وهوس غالبية هذا العدد باستخدام مواقع التواصل الاجتماعى سواء فيس بوك أو تويتر فى التعبير عن أفكارهم ورؤاهم فيما يحدث فى العالم من حولهم. كما تميزت بوجود بعناصر بيئة ضاغطة اتسمت بتدنى الثقة العامة فى أداء النظم السياسية والحكومات القائمة خاصة بين الشباب الذى يغلب عليهم روح التمرد والحماس والاندفاع غير المحسوب تجاه كل ما يمس الشأن العام أو الوسط المحيط بهم، وتغير شكل الحروب بين الدول لتركز على “حروب القلوب والعقول”، وكيفية تغيير اتجاهات منظومة القيم الرئيسية فى المجتمع بصورة تدريجية منتظمة تدرك تعقيدات “النظم المعقدة” وكيفية عملها، وأن الصخر الموجود فى الأنهار لا يتفتت بسبب شدة اندفاع المياه نحوه، بل يتآكل يومياً من وقع الحركة الهادئة للمياه القادرة على تفتيته بصورة مضطردة حتى تجيء اللحظة الحاسمة وتجعله نسياً منسياً.
وزاد من خطورة ذلك فى المجتمعات العربية خاصة فى أعقاب الثورات والانتفاضات الشعبية التى اندلعت فى ٢٠١١ غياب سياسات الحكم الرشيد والديمقراطية الموضوعية عن النظم الحاكمة، وسوء الأوضاع الاقتصادية وعدم إمكانية ضمان الوفاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للقطاعات الأكبر من المواطنين إلا بصعوبات بالغة، وبتوزيع غير عادل فى غالبية الأوقات بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة من ناحية، والغنية من ناحية أخرى، ووجود عناصر وقيادات ميدانية سواء من الشباب أو غيرهم لهم انتماءاتهم ومصالحهم العابرة للحدود، والتى لا تتوافق بالضرورة مع متطلبات الأمن القومي، وهو ما تكشف عنه فى مصر تحقيقات قضية التمويل الأجنبي، وشهادة آن باترسون سفيرة للولايات المتحدة فى القاهرة عن إنفاق بلدها ٦٠ مليون دولار خلال فترة ثورة يناير ٢٠١١ كدعم لبعض المنظمات الحقوقية.
فى وسط هذه الأجواء، نشطت العناصر التى تعمل ضد الدولة الوطنية فى مصر، والتى ظهر وجودها جلياً على مواقع التواصل الاجتماعى فى أعقاب ثورة ٣٠ يونيه وغلق أجهزة الدولة لـ “أكشاك الفجر الكاذب” على نحو دفع عدد من المثقفين والصحفيين لوصفها بـ “الطابور الخامس”، ويشير التعريف كما برز أثناء الحرب الأهلية الأسبانية فى ١٩٣٦ إلى مجموعة البشر التى تؤيد أنشطة العدو داخل الدولة سواء بصورة سرية أو علنية، وتطور استخدامه فيما بعد بحيث لم يعد يقتصر على أعمال الجاسوسية، بل يتخطاه نحو العناصر التى تعمل على نشر مناخ الإحباط واليأس وروح التململ بين أكبر عدد من المواطنين، والتشكيك فى مؤسسات الدولة خاصة العسكرية منها.
وساهمت مجموعة من العوامل فى تزايد اعتماد هذه العناصر على شبكات التواصل الاجتماعي. أولها، التقدم الهائل فى عمل هذه الشبكات وسهولة استخدامها خاصة مع النمو المتسارع فى صناعة واستخدام الهواتف الذكية والحواسب المحمولة، والتى حولت هذه الشبكات لتضحى بمثابة “أب أو أم ثالثة” للنشء، و”صديق ملاصق متنقل” للمراهقين والشباب وغيرهم من فئات المجتمع، وتوضح إحصائيات وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات هذا المعنى، فقد أشارت فى ٣١ مارس ٢٠١٧ إلى وصول عدد المشتركين فى خدمة التليفون المحمول إلى ٩٩.٩ مليون نسمة منهم ٣٠.٤ مليون مستخدم للإنترنت تستحوذ القاهرة الكبرى على حوالى ٤٥٪ منهم، ووصول عدد مشتركى الإنترنت فائق السرعة ADSL إلى ٤.٥ مليون مشترك فى نفس الفترة.
وثانيها، الخصائص النفسية لمستخدمى شبكات التواصل الاجتماعي، والتى يغلب عليها الاستعجال والرغبة فى الإنجاز، وعدم تخصيص وقت كافٍ لتبين حقيقة الأمور والتأكد من مصداقية المواد المنشورة من أكثر من مصدر، وعدم الثقة فيما تبثه المصادر الرسمية من بيانات ومعلومات نتيجة لتدنى معدلات الثقة فى أداء النظم السياسية والحكومات فى السنوات الأخيرة، وهى ظاهرة بدأت تعرفها غالبية الدول وأدت إلى عزوف الشباب تحديداً عن المشاركة فيما قد يعتقد البعض بأنه يمثل حاضرهم ويصنع مستقبلهم. وهى خصائص تزداد فى الدول التى تمر بمرحلة انتقال، وترتفع فيها توقعات المواطنين من الحكومات بصورة تفوق قدراتها الفعلية.
وثالثها، “المحتوى غير المكتمل” أو “مجتمع الجملة الناقصة”، إذ عادة ما يلجأ مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعى إلى وضع بصماتهم الخاصة على المحتوى المنشور، ويكون التجويد عندئذ “عادة الكترونية” حيث يبدأ الخبر أو المعلومة بصورة بسيطة يغلب عليها الإثارة والتشويق ومخاطبة العقل الباطن فى شخص المتلقي، ثم يبدأ فى الانتشار والتغلغل من خلال حسابات تحظى بالإقبال والمتابعة أو أشخاص مشهورين لهم عدد كبير من المريدين، وعندئذ يلتقطه المتصفح ويقوم بالتعليق عليه ومشاركته على صفحته الخاصة مسقطاً عليه واقع خبراته المعيشية ومدى فهمه وإدراكه للأحداث من حوله، وذلك كله فى أجواء من “اليقين الزائف” “والثقة الخادعة” فى حقائق الأمور من حوله.
ورابعها، ضعف التسويق السياسى لخطط الحكومة ومشروعاتها على الانترنت. فوفقاً لدراسة أعدها كاتب هذا المقال فى يناير ٢٠١٦ بعنوان “التسويق تسويق السياسات العامة فى مصر: أسباب الفشل ورؤية مقترحة للتطوير”، يوجد فى مصر ٢٦ وزارة لها موقع الكترونى على الإنترنت منها ١١ وزارة لها مواقع باللغة الإنجليزية، و٢٢ وزارة لها صفحات على شبكة الفيس بوك منها اثنتان يزيد عدد متابعيها على ٥٠٠ ألف متابع، وخمسة على مائة ألف متابع وتراوحت الوزارات الباقية ما بين العشرة آلاف والسبعين ألف متابع، وعدد محدود من الوزارات له حسابات على تويتر، وتعانى هذه الوسائط من تدنى مستويات الإفصاح عن المعلومات فيها، ومحدودية الطابع التفاعلى مع زوارها بالرغم من وجود تحسن نسبى فى عامى ٢٠١٦ و٢٠١٧ باتجاه التعاقد مع متخصصين لذلك الغرض فى عدد ملموس من الوزارات.
ولتعميق الاستفادة مما سبق، حرص أغلب العناصر المشككة فى الدولة– خاصة من التيارات المتطرفة - على تصميم صفحات وحسابات محترفة لهم على شبكتى الفيس بوك وتويتر، وتزويد عدد المتابعين لهم بصورة غير واقعية من خلال بعض التقنيات الفنية التى تتيحها هذه الشبكات خاصة من خلال الإعلانات، بل والتعاقد مع مجموعة من الشباب المتفرغ لإدارة هذه الحسابات والتفاعل مع المشاركين عليها، ونشطت هذه العناصر فى بث معلومات سطحية ومختلقة عن الوضع العام فى الدولة بغرض إحداث اختراقات فى الكتلة المؤيدة لها، وجذب أكبر عدد من الكتلة المحايدة، والحفاظ على وتيرة السخط عند الكتلة الرافضة، وذلك كله فى إطار حلقة مفرغة لا نهائية من الخداع، والرغبة فى إحداث تحولات جوهرية فى التوجهات الأساسية تجاه البراهين الموضوعية والحقيقة ذاتها.
ولم يقتصر نشاط هذه العناصر على ذلك، حيث برزت بصورة متعمدة محاولات تشويه الرموز والشخصيات والمؤسسات العامة من خلال نشر معلومات مغلوطة عنهم، أو التضليل المتعمد لمواقفهم بصورة تهز ثقة جمهرة المواطنين فيهم، ونجحت هذه العناصر فى استخدام كافة الوسائط الإعلامية من أجل ذلك مثل مقاطع الفيديو والصور ورسوم الكاريكاتير والكوميكس.
ومن أجل التصدى للأخطار المتزايدة التى باتت تفرضها مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح من الضرورى اتخاذ الدولة مجموعة من الإجراءات العاجلة، أهمها تفعيل شبكة المواقع الالكترونية والصفحات والحسابات التابعة لوزارات الدولة وهيئاتها على الانترنت، وذلك بما يضفى عليها صفة التفاعلية والاشتباك مع ما يتم بثه فى المجال العام من شائعات وقراءات خاطئة لبعض السياسات والقرارات العامة، وتوجيه الوزراء ونوابهم ومساعديهم ومعاونيهم إلى التفاعل المستمر من خلال صفحاتهم الشخصية مع ما يتعلق بالقضايا التى ترتبط بصورة مباشرة بعملهم، ولا يوجد ما يمنع هنا من تخصيص بعض أفراد إدارات الإعلام فى هذه الوزارات والهيئات ليكونوا مسئولين عن التواصل الاجتماعى على الانترنت، وإعداد الدورات التدريبية اللازمة لهم من أجل تنفيذ هذه المهمة.
ولا يقتصر الأمر على النواحى التقنية فقط فى عمل هذه المواقع والصفحات، فهناك بعد موضوعى يتعلق بتغيير المنظومة القيمية الحاكمة لعمل السياسات الحكومية من حيث “أنسنة السياسات العامة”، فالمواطن لا يأكل أرقاما وإحصاءات، وإنما تتأثر حياته بأى تغيير إيجابى أو سلبى يطرأ على هذه السياسات، وبث سياسة الأملPolitics of fun/hope، ورفع معدلات الشفافية والمصارحة فى إعلان الأسباب الدافعة إلى تفضيل سياسات عامة معينة دون غيرها وتأثيرات ذلك على الظروف المعيشية للمواطنين.
ويتوازى مع تفعيل منظومة الحكومة الإلكترونية، إطلاق حملات مكثفة لتوعية المواطنين بكيفية الاستخدام الآمن للإنترنت، وكيفية التأكد من صحة المحتوى الذى يتم بثه ودوافع القائمين عليه ومدى اتساق مواقفهم، ولا ينبغى أن تقتصر تلك الحملات على الفضاء الإلكترونى بل يجب أن يتوازى معها تنظيم أنشطة ميدانية فى القرى والنجوع بواسطة الأحزاب والتنظيمات السياسية المؤيدة للدولة. ومن المهم هنا أن تشمل جهود الهيئات المسئولة عن الإعلام والصحافة فى مجال تثبيت دعائم الدولة المصرية وتأكيد “فوبيا إسقاط الدولة” بعداً الكترونياً يتعلق بتنشيط عمل كافة وسائل الإعلام على الإنترنت، وإيجاد آلية لتنسيق الرسائل التى تبثها، وبأكثر من وسيلة تراعى التنوع فى فئات المستهدفين واهتماماتهم، وبما يتجاوز “عقدة النص المكتوب” و”الصورة النمطية” فى غالبية الأحيان.
وهذه الجهود لا يمكن أن يكتب لها النجاح بدون إشراك الصفحات والحسابات المعتدلة المؤيدة للخط العام للدولة المصرية على مواقع التواصل الاجتماعي، فأهل هذه المواقع أدرى بشعابها، ويقترح فى هذا السياق إيجاد شبكة للتنسيق بين هذه الصفحات يتم تزويدها أولاً بأول بالحقائق والمعلومات حول القضايا العامة المثارة فى إطار غير مركزى يعلى من خيال نشطاء الإنترنت من ذوى التيار المعتدلة، وذلك وفق ميثاق شرف يؤمن بحرية التعبير والفرق بين المعارضة الوطنية وبين مروجى الفتن والاشاعات ودعاة إسقاط وإفشال الدولة.
وختاماً، فإن استخدام الإنترنت فى عملية الإصلاح والتغيير لم يعد ترفاً، وبات ضرورة لا يمكن النكوص عنها خاصة فى ظل تبلور”مجال عام شبكى جديد” دامت سيادته لفترات طويلة للجماعات المتطرفة والإرهابية، وآن الأوان لتحريره منها مثلما تحرر الوطن بعد ثورة ٣٠ يونيه.