السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

علماء مصريون عظماء.. وقصص نجاحهم الملهمة (19)

  • 25-10-2022 | 21:11
طباعة

الأستاذ الدكتور سليمان حزُين  (1909 - 1999م)

على مدى الحلقات الـ18 السابقة سجلت قصصًا وعبرات عن 18 عالما مصريا توجوا حياتهم بالعلم والتعليم وعاشوا لوطنهم وكلهم تخصصوا فى العلوم الطبيعية: كيمياء وفلك وفيزياء ورياضيات وجيولوجيا وعلوم بحار. واليوم خلافا لما كتبت أتحدث عن واحد من هؤلاء العظماء الذى جاءوا إلى الحياة بهدف عظيم وأمل كبير أن يغيروا من أوضاعا سائدة، ليس من خريجى كلية العلوم أو درس العلوم الطبيعية إلا أننى أعتبره واحدا من الذين برعوا واقتربوا من العلوم الطبيعية فكان ما سار إليه وأصبح فارسا من فرسان مصر، كان موسوعيا، فإلى جانب تخصصه الدقيق فى رسالتيه الماجستير والدكتوراه، صال وجال فى مجالات متعددة، تجده يكتب عن نهر النيل وتطوره الجيولوجى إلى جانب وحدة وادى النيل والحضارة المصرية.


 كان عاشقا لأرض مصر الطيبة وأبنائها الأوفياء‏، وسيظل دائما واحدا من أبرز رواد الفكر والثقافة في  مصر القرن العشرين،‏ وأستاذا لأجيال متعاقبة نفتخر جميعا بأستاذيته وعلمه وريادته، إنه الدكتور سليمان حزُين، شيخ الجغرافيين العرب، وأستاذ الأساتذة، وواحد ممن أعطوا على امتداد رحلته الطويلة، وأسهم بنشاط مكثف لدعم العلاقات الثقافية والحضارية بين مصر والدول العربية، وساهم في إنشاء العديد من المعاهد الثقافية والجامعات منها‏:‏ المركز الثقافي بلندن عام 1943 و المعهد الإسلامي بمدريد عام 1950، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، جامعة أسيوط عام 1955 وكذلك جامعات الكويت والرياض وبنغازي، فقد كان متميزا ومع ذلك التميز جمع درجات عليا ورفيعة من الوجود والجد والتجويد.
في فجر يوم الاثنين الرابع والعشرين من مايو 1909، وعلى الحدود المصرية السودانية (حلفا) ولد سليمان بن الشيخ أحمد بن سليمان بن حسن حزُين ، وخوفا على الطفل سليمان من الأمراض تركه والده لجده بريف مصر، وهو في عامه الخامس في إحدى قرى مركز الدلنجات بمحافظة البحيرة، حيث التحق بكتاب القرية، وما لبث حتى عاد إلى والديه إذ كان والده مدرسا في مدرسة حلفا، وانتقل مع أبيه إلى أم درمان عاصمة السودان الوطنية ليلتحق بمدرسة ابتدائية/إعدادية، وفى عام 1921 رجع إلى مصر ليتقدم لامتحان شهادة الدراسة الابتدائية التي قد أتم سنواتها في السودان ومنها التحق بطنطا الثانوية وهو في الثانية عشرة من عمره، وتخرج فيها حاصلا على شهادة إتمام الثانوية (التوجيهية) عام 1925،وكان مولد “الجامعة المصرية” الحكومية خريف 1925.
 التحق الطالب بكلية الآداب بقسم الجغرافيا أحد أقسام كلية الآداب، وهو قسم الجغرافيا والعلوم السياسية، وعادة ما كان يلتحق الطالب بأحد أقسام الكلية المتخصصة ليحصل في النهاية على إجازته لهذا الفرع أو ذاك، ولكن سليمان منذ البداية أثبت أنه فريد في مواهبه العديدة، فقد نال شهادة الليسانس في الجغرافيا في مايو 1929، وفي أكتوبر من العام نفسه نال شهادة في الاجتماع، وكلاهما بامتياز.
أوفدته الجامعة المصرية إلى جامعة ليفربول ليسجل فيها رسالة الماجستير بعنوان:- “Arabia and the Far East: their commercial and relations in Greco-Roman and Irano-  Arabian Times” أى العلاقات التجارية والثقافية أو الحضارية بين الشرقين العربى والأقصى فى العهود الإغريقية/ الرومانية، والإيرانية (الفارسية) /العربية، وأظهر تفرده عندما عقدت له عديد من الاختبارات اجتازها بتفوق فكان أن اعتمدت جامعة ليفربول شهادة كلية الآداب المصرية لاول مرة فكان وجها مشرفا لبلده وجامعته، وأنهى دراسته للماجستير بعد عامين فقط من التسجيل.
ثم انتقل سليمان حزُين إلى جامعة مانشستر ليسجل للدكتوراه مع البروفيسور “جون فلير” رئيس قسم الجغرافيا بجامعة مانشستر ورئيس تحرير مجلة الجغرافيا، تحت عنوان: “مكانة مصر فى ما قبل التاريخ The place of Egypt in prehistory “ وهى دراسة للعلاقة بين المناخات والحضارات فى العالم القديم مع الاهتمام بمصر بوجه خاص، ونال درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى عام 1935، ومنحته الجامعة خمسين جنيها إنجليزيا للمساعدة فى طبع الرسالة.
 عاد سليمان من بعثته في آخر عام 1935 ليعين مدرسا بكلية الآداب في يناير 1936 بمرتب قدره 25 جنيها لمدة عام يجدد سنويا، فقام بعمله بكفاءة وكان أن دعمه د. طه حسين لكى يصبح عضو بالكلية بصفة نهائية. وفى يناير 1936 أوفدته الجامعة رئيسا لبعثة تتوجه لليمن لمدة 7 شهور وكانت البعثة مؤلفة من أعضاء هيئة تدريس من كليتى الآداب والعلوم. حيث ساروا علي أقدامهم أو علي ظهور البغال والجمال أكثر من ألف وخمسمائة كيلومتر في فيافي تلك البلاد وفوق جبالها وهضابها العالية. وأتت البعثة بنتائج علمية مهمة فكانت دعامة طبيعية للجامعة ولكلية الآداب، كما تم إيفاده إلى بعض المتاحف الأوربية لاستكمال النتائج وعمل مقارنة بين ما توصلت إليه البعثة وما استكشفته الهيئات الأجنبية الأخرى، طلبته العراق منتدبا لمعهد المعلمين العالى ببغداد. ثم انتدب إلى فرع جامعة الإسكندرية أثناء عمله مدرسا وأستاذا مساعدا فى كلية الآداب بجامعة فؤاد الاول، وفى عام 1938 أوكل إليه إنشاء قسم الجغرافيا والسفر إلى الإسكندرية مرة كل أسبوع واستمر على هذا الأمر أريع سنوات حتى أنشئت جامعة الإسكندرية عام 1942، وكان المكلف بإنشاء الجامعة أستاذه طه حسين الذى كان يعمل وقتئذ مستشارا لوزارة المعارف العمومية، ولم ينس حزين جامعة فؤاد الأول فكان يأتيها منتدبا من جامعة فاروق حين استقلت، محاضرا فى أقسام الجغرافيا، والتاريخ، والاجتماع. وفى 1947 رقى إلى درجة أستاذ واستمرت صلته بجامعة فؤاد وجامعة القاهرة باستمرار.


 لقد كان أستاذنا موسوعيا فى معرفته غزيرا فى مادته بليغا فى أسلويه. ذلك الأسلوب الذى كان يطوع به مادته، مما يجبرك على الاستماع له دون ملل، فهو لم يكن يجيد العربية فحسب بل حافظا لعمادها وهو القرآن لكريم، وإذا سمعته محاضرا بالإنجليزية أو يتكلم الفرنسية توقن أنك أمام عالم كون نفسه تكوينا جيدا، واستغل ذلك استغلالاً شديدا، فقد استغل فترة البعثة لا فى جمع المادة العلمية فحسب، بل أيضا فى إتقان اللغة التى امتلك زمامها.
ونظرًا لنشاطاته المتعددة وإمكاناته العلمية والثقافية البالغة ومعرفة أساتذته وجيله بهذا، خاصة أستاذه طه حسين فقد عين مديرا عاما للثقافة. ثم وكيلا مساعدا للوزارة، فأصبح المسئول المباشر عن الثقافة والمشكلات الثقافية ومؤسسات الدولة المختلفة وتوطدت صلاته بكل وزراء ومديرى التعليم بالدول العربية كالملك فهد الذي كان وزيرا للتعليم في السعودية، وعبد العزيز حسين رائد التعليم في الكويت وغيرهما، فضلا عن مسئوليته نحو الهيئات الثقافية الدولية كاليونسكو.
 لم تقتصر سمعته العلمية والإدارية على مصر، بل تعدتها إلى الدول العربية فقد دعاه صديقه فاضل الجمالي لزيارة بغداد، كما كان اتصاله بالكويت حيث شارك حينذاك في رسم خطط تعليم وافتتاح المدارس الكويتية الجديدة، واختارته فيما بعد عام 1961 إلى جانب ثلاثة من الخبراء الآخرين للتخطيط لجامعة الكويت.
شارك في المجال العربي القومي في مجال العمل الدولي والإقليمي في نطاق جامعة الدول العربية أول الأمر في بعض مقالاتها المتخصصة لاسيما اليونسكو إلى جانب اشتراكه فعليا في المؤتمرات الثقافية التي كانت تقيمها الدائرة الثقافية والتي كان يرأسها الأستاذ أحمد أمين، وانتخب ليكون رئيسا للجنة الشئون الإقليمية في الجامعة العربية، واستمر الانتخاب متجددا لمدة عشرين عاما عقد فيها نحو 20 مؤتمرا لخبراء الشئون الاجتماعية ووزرائها في البلاد العربية وكان معاونا لأستاذه طه حسين الذي كان مندوب مصر في اليونسكو عام 1951.
فى عام 1943 عهد إليه بإنشاء المعهد المصري للثقافة والمركز المصري في لندن، وكان هذا مناظرا للمجلس البريطاني في مصر وكان عدد من الدول الأوربية قد بدأ في إنشاء المراكز الثقافية في الخارج قبل ظهور هيئة اليونسكو عام 1945، كما عهد إليه إنشاء المركز الإسلامي في مدريد والذى جاء لإحياء علاقات العروبة والإسلام في الأندلس في العصور الوسطى وافتتحه د. طه حسين.
عُين د.سليمان حزُين مديرا لجامعة أسيوط من ديسمبر 1955 حتي سبتمبر 1965م، ثم وزير للثقافة 1965 / 1966، ومدير لمركز القاهرة الديمـــــــوجرافي التــــــابع للأمم المتحدة (1968- 1980). كان عضوا بمجمع اللغة العربية منذ عام 1978 وحتي وفاته ورئيسا للمجمع العلمي المصري منذ عام 1954 وحتي عام 1957 ومنذ عام 1967 حتي وفاته في 1999.
رُزق د.سليمان حزُين بولدين نابهين (أحمد وعلي) صار الأول أستاذًا في الهندسة الميكانيكية بجامعة بكلية الهندسة ببنها، أما الثاني فقد أصبح أستاذًا لهندسة النقل بكلية الهندسة جامعة القاهرة.
توفى د.سليمان حزُين فى 1999 بعد حياة حافلة قضاها بين ظهرانية الجامعات المصرية والعربية منشئا ومعلما ومديرا، لقد كان دائما يقرن القول بالعمل، ندعو له بالرحمة والمغفرة.

الاكثر قراءة