الخميس 2 مايو 2024

مسؤولية العلماء الأخلاقية

مقالات3-11-2022 | 21:56

العلم قوة هائلة يمكن توظيفها لخدمة البشر، كما يمكن - وبالقدر نفسه - توجيهها لتدمير الحياة، تمامًا كعود الثقاب؛ في وسعنا أن نضيء به شمعة تنير لنا الطريق، وفي مقدورنا أن نشعل به حريقًا يدمر حياتنا، العلم إذن ليس خيرًا أو شرًا في ذاته.

ومن هنا فهو أحوج ما يكون إلى قيم إنسانية رفيعة تقوده نحو خير الإنسان ورفاهيته. ففي غياب قيم إنسانية رفيعة يندثر الإنسان والأفكار والعلم جميعًا.

من هنا تثار مشكلة «مسئولية العالِم» في العصر الحاضر، ذلك لأن العالِم كان، تقليديًاً، يقوم بالبحث النظري أو التطبيقي وليس في ذهنه إلا هدف واحد، هو إنجاز ما بدا له.

ولكن الوعى المتزايد بالنتائج الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن تترتب على كثير من الكشوف العلمية في هذا العصر، جعل من الضروري أن تضاف إلى أعباء العالِم مهمة أخرى، هي أن «يفكر» في تلك النتائج قبل وأثناء قيامه ببحثه، وربما أن يمتنع أصلاً عن مواصلة البحث إذا أيقن بأن نتائجه ستكون وخيمة.

ولقد تفاوتت الآراء حول مشكلة «مسئولية العالِم»، فهناك من يضيقون تلك المسئولية إلى الحد الأدنى، فيرون أنها تقف عند حدود معمله أو مختبره، وأن العالِم لا شأن له بما يحدث خارج هذه الحدود. وهناك من يوسعون هذه المسئولية إلى أقصى حد، فيؤكدون أنها تمتد فى عصرنا الحاضر إلى المجتمع بأسره. ولكل من الفريقين، وكذلك لمن يقفون موقفًا وسطًا بينهما، حججه التي يدعم بها موقفه. ومن الواضح أننا ميالون إلى تأكيد مسئولية العالِم، وأننا نصفق بحماسة حين نجد عالِمًا كبيرًا يخرج من إطار عمله العلمي الخالص لكي ينبه الرأي العام إلى خطر يوشك أن يحدثه العلم، أو حماقة تنزلق إليها البشرية نتيجة للتقدم التكنولوجي. ولكن المسألة ليست دائمًا بهذه البساطة.

وتوجد حالات لا يستطيع المرء أن يكون فيها على يقين من أن تدخل العلماء في اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بمصير المجتمع لابد أن يكون خيرًا على الدوام.

وهناك دول تولى علماءها وخبراءها ثقة زائدة، وتوكل إليهم أمورها.

فالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً - كانت أول دولة استحدثت وظيفة مستشار علمي للرئيس، كما أنها تقوم بتعيين ملحق علمي للعديد من المهام الدبلوماسية حول العالَم، فضلاً عن لجنة المستشارين الخاصة بالرئيس والتي تضم نخبة من كبار العلماء في كافة التخصصات من داخل الحكومة وخارجها.

ومن الملاحظ أن الغالبية العظمى من دول العالم أصبحت تحذو حذو الولايات المتحدة في هذا الشأن..

ويمكن تعريف «السياسة» بأنها كل الجهود المبذولة التي تستهدف المشاركة في السلطة أو التأثير في توزيعها.

وهكذا فإن «السياسي» هو كل إنسان يمارس العمل العام سعيًا للوصول إلى السلطة، إما لأنه ينظر إليها بوصفها وسيلة لخدمة أهداف أخرى مثالية أو أنانية، أو لأنه يريدها لذاتها على سبيل الاستمتاع.

أما «الدولة» فمن الممكن النظر إليها بوصفها صاحبة الحق الحصري والمشروع في ممارسة السيطرة على بقعة معينة، والذي يقوم بذلك، سواء أكان فردًا أو جماعة هو السياسي.

ومن هنا فإن محاولات السياسيين إرغام العلماء من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة، هي محاولات لا تنقطع. وليس أدل على ذلك من التسابق العلمي خلال الحرب العالمية الثانية لإنتاج القنبلة الذرية.

رغم أن البعض يرى أن الاشتغال بالسياسة، يتعارض مع نزاهة رجل العلم، ويستنزف جهدًا ينبغي أن ينصرف إلى ممارسة عمله العلمي.

فإننا نتفق مع الدكتور فؤاد زكريا في أنه من الأفضل أن يكون العالِم – بجانب عمله العلمي - ذا وعي سياسي في الوقت نفسه. وهذا أمر يتحقق بالفعل لدى عدد من العلماء الكبار الذين يفخر بهم عصرنا هذا، والذين لم يمنعهم عملهم العلمي الشاق، وانهماكهم في كشوفهم الحاسمة، من أن يمتدوا بنظرتهم بحيث تتسع لمشاكل العالَم الكبرى، وتدرك وضع الإنسان في المجتمع المعاصر، وتنفذ إلى الأسباب العميقة للأزمات التي يعانيها، وإلى الحلول الفعالة لهذه الأزمات.

ولكن أمثال هؤلاء العلماء قلة، والغالبية الساحقة تنشغل بعملها العلمي إلى الحد الذي يحجب عنها رؤية كثير من حقائق العالم المحيط به. ومن الصعب أن يعيب المرء على هذه الغالبية قصور نظرتها فى الأمور المتعلقة بالسياسة والأوضاع الاجتماعية ومشكلات الإنسان، إذ إن العمل العلمي يزداد تعقيدًا على الدوام، ومن الطبيعي أن يكون في المشكلات المهنية الخاصة ما يشغل العالِم بما فيه الكفاية.

ومع ذلك كله فإن العالِم في عصرنا الحاضر ينبغي أن يكون لديه حد أدنى من الوعي بالنتائج المترتبة على عمله العلمي، وهذا يرجع إلى أن طبيعة العلم ذاتها قد أصبحت تقتضي ذلك.

فحين تتغير وظيفة العلم، من نشاط لا يؤثر إلا تأثيرًا محدودًا، إلى نشاط مصيري يمتد تأثيره إلى كافة جوانب الحياة البشرية، يكون من الطبيعي أن تتغير نظرة المشتغل به، من الإطار المهني الضيق، إلى الميدان الإنساني الشامل. (د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، عالم المعرفة، العدد الثالث، الكويت، 1978، ص 308).

يبقي من الثابت أن توجيه العلم نحو خدمة الأغراض العسكرية وبالصورة الصريحة والمباشرة التي يتسم بها هذا الوضع خلال المرحلة المعاصرة، لم يعد يترك أي مجال للحديث عن حياد العلم واستقلاله عما يدور في ساحة الصراعات الأيديولوجية.

ومن هذه الزاوية يمكن القول بأنه مهما أمعن رجال العلم في تأكيد حرصهم علي تحصين أبحاثهم من شبهة التأثر بمدخلات الخيار الأيديولوجي، فإن هذا الخيار أصبح يفرض نفسه كإطار يحدد للبحث العلمي سقف إمكاناته وسلم أولوياته، وهو ما يمكن تتبع تجلياته الملموسة من خلال رصد العرى الوثقى التي أصبحت تربط التجمعات العلمية بأجهزة ومؤسسات السلطة السياسية. 

Dr.Randa
Dr.Radwa