السبت 22 يونيو 2024

«ظلان لامرأة واحدة».. رواية تطرح أسئلة بشأن الوجود الإنساني

ظلان لامرأة واحدة

ثقافة7-11-2022 | 15:14

محمد الحمامصي

تعد رواية "ظلان لامرأة واحدة" للكاتبة آمال صبحي رواية تسجيلية اجتماعية تشتغل على أرضية آثار ما جرى في سوريا منذ انداع الثورة، وما تبعها من اضطرابات ألقت بظلها على الوضع الإنساني للمرأة والرجل، ومن ثم فهي تطرح أسئلة فلسفية بأسلوب رومانسي بسيط تدور حول جدلية الإجبار على/ في الحياة؛ فبمجرد أن يطأ الإنسان أولى أنفاسه في الوجود يلتصق به الاسم، العائلة، اللغة، القومية، الوطن والدين دون انتباه، ومحظوظ ذاك الذي يكتشف قبلما تأخر أن كل ما أُلصق به إجبارا هو مجرد احتيال شرعي تحت مسمى: انتماء.

 

تدور أحداث الرواية الصادرة عن مؤسسة أروقة حول ليلي الطبيبة الجميلة، الحالمة، المؤمنة والتي دشنت عامها الثلاثين للتو، لم تنتبه أن كل ما تغرق به من انتماءات يشبه إلى حد صغير غرق حيوان ضال في بركة من الوحل. تبدأ الأحداث في دمشق، خريف 2013 حيث تعلن الحرب كل ساعة تجددها على مدار الساعة، فتختار ليلى رغم خوفها وترددها أن تكون في صف المطالبين بإسقاط النظام الحاكم سرا، ولكن الأمر لا يبقَ سراً ويُعتقل رفاقها دون أن تعرف عنهم شيئا قبل أن تعلم أن أخيها ـ الضابط في الأمن السياسي ـ هو من استلم ملفهم وأنهم تعرضوا للتعذيب تحت درايته ما أدى لموت إحدى صديقاتها في السجن.

 

موت هذه الصديقة كان أول صدمة لليلى هي التي كانت تعتبر أخيها مثلها الأعلى ووالدها الأول، فتقطع علاقتها به وبأصدقائها الذين اعتبروها مذنبة كونها الوحيدة التي لم تتعرض للاعتقال، واتهموها بأنها مَن وشت بهم، وتنزوي في البيت لا يُعكر وحدتها غير مناكفة أمها، وتتعرف إلكترونيا على شاب لتكتشف عند لقائها به أنه شقيق جارتها الذي أنقذته ذات إطلاق رصاص من موت محتم أثناء تغطيته لمظاهرة في إحدى أحياء دمشق.

 

تقع ليلى ـ التي ماتت أمها للتو ـ بحب عماد الشاب الملتحي، الأسمر، المثقف، الصحفي المصور الذي يبلغ من منتصف الثلاثين من عمره، والذي يعمل لصالح جهة معارضة.

 

تختلف رؤية ليلى للحياة بعد تعرفها عن قُرب على عماد وإدراكها كيف يمكن للمرء وفي عمر موقف او حادث فقط أن يكتشف أن كل ما عاشه قبل اللحظة وأوفى له هو مجرد فرضيات مغشوشة ومهترئة، وها هي مع عماد تعيد تعريف معاني: الأرض، الحب، الوطن، القضية، الموت، الولادة، الشهادة، الجنة، العقاب والثواب!.. وكل ذلك أدى إلى أنها صارت كارهة لمهنتها كطبيبة وحاقدة على كل مريض تضطر لمعالجته تعرف أنه مقاتل يحمل سلاحا بذريعة حماية الوطن، فطلبت الاستقالة التي رُفضت أكثر من مرة مما زاد في غضبها وحقدها وحنقها وتشوشها ووجدت نفسها دون وعي منها، وقد أصبحت مجرمة حيث لم تستطع كل مبادئها وقيمها وجبنها من منعها في التورط في قتل مدير السجن المركزي الذي وُضع تحت رعايتها إثر تعرضه لأزمة قلبية، والذي استلم أخاها بعد موته مكانه.

 

بعد ضغوط تستقيل ليلى من العمل وتنفصل عن عماد الذي انضم للثورة بشكل علني، واستقر في المناطق المحررة من البلاد، والذي اكتشف خلال علاقته مع ليلى ان ثمة رجل آخر يقف بينها وبينه، ووصل به الشك أن اتهمها بأنها تخلط بينهما فتظنه هو. فمن ذلك الرجل؟

 

بعد عام تقضيه ليلى غارقة في ألمها ووحدتها وندمها وحنينها لأمها وشوقها لرجل لم تعد تعرف من هو!.. تقرر السفر خارج البلاد، ولكن ثمة موعد أخير أجلته طويلا تريد أن تذهب إليه، موعد مع يونس، الرجل باهظ الأناقة بإطلالته الجدية الساحرة ونظرته العميقة المحللة والشكاكة، والتي اكتسبها بفعل الخمس وخمسون عاما التي أنفقها على مر السنين؛ طفلا خائفا على الدوام في البدء، ثم مراهقا قرويا مناضلا وثائرا، ثم شابا جامعيا مثقفا متمردا مطرودا من الجامعة لآرائه غير المرغوب بها في الحرم الجامعي وبين الطلاب ثم ضابطا في الأمن السياسي غارقا في تجارة المخدرات وتهريب الأسلحة وملاحقة النساء، ثم زوجا وأبا فاشلا ثم رجلا مستقيلا من وظيفته الأمنية برفقة كابوس وشبح ثم رجلا هائما في بين البلدان، مسافرا دوما باحثا عن المتعة ومفتشا عن الدهشة، وأخيرا رجلا في رماد العمر عاشقا لليلى التي تعرف عليها مصادفة في أحد المقاهي خريف 2011، وكانت هي الفتاة البريئة، الحلوة، الذكية والنقية التي أعادت لحياته رونقها ولمعانها. حبه لها جعله يدرك أنه على هذه الحياة ما يستحق النجاة، فكانت ليلى قشة النجاة التي تمسك بها ليغفر لنفسه من خلالها كل أخطائه وخطاياه وعبثيته وعبثه، وانتهى بهما الحب بعلاقة رسمية واتفاق على الزواج ليكتشف بمحض القدر ان الشبح الذي يطارده في كوابيسه ويتخيله حتى في يقظته يراقبه ويتتبعه دوما هو والد ليلى الذي قتله صيف 1982 عندما كان سجينا متهما بانتمائه للإخوان المسلمين، وكان يونس هو المحقق الذي استلم ملفه في تلك الفترة.

 

يرحل يونس ويترك ليلى دون تبرير أو تعليل لتخليه عنها، ولكنه يبقى عالقا في قلبها كغصة، في روحها كشمعة سوداء، في ذاكرتها كألبوم أمنيات قديم وفي عقلها كإشارة استفهام وبقى واقفا دوما بينها وبين أي رجل آخر، وكان شك عماد صائبا عندما قال لها بأنها تحب رجلا آخر وتبحث عمن يشبهه.

 

بعد الموعد تدرك ليلى أن يونس لم يعد يعني لها شيئا وأن عماد لم يعنِ لها شيئا يوما، وتكمل طريقها وفي يدها تذكرة اللاعودة  إلى بلد غريب ومجهول وبعيد، وبحوزتها خفة لا معهودة، فكل ما أرادته هو أن تسافر كغيمة بلا انتماء، بلا هوية، بلا أثر، بلا أحلام وبلا خطط ؛ ولكن الحياة لم تمنحها رفاهية الخفة المطلقة، فقد كانت خفيفة من كل شيء وكل أحد باستثناء عماد ويونس اللذين يرافقانها كظلين.

 

مقتطف من الرواية

 

الغريب... كيان أقلع عن الانفعال، لا يجيد الدهشة، لا يتقن الحزن، والفرح بالنسبة له نكتة فاشلة، حتى الضحك عليها يعتبر مغالاة.

هو ذلك الكائن المنفي إلى العدم، الذي يمارس الانكسار نحو الداخل، داخله.

وكامرأة غريبة عن الوجود، سلبني الصوت المدوي أنفاسي، ومن وراء زجاج النافذة المغشى بالبخار الدافئ، رحت أراقب المشهد بحيادية، خالية من كل رغبات الحياة عدا رغبة مكبوتة بالبكاء.

تمر شيماء بقربي، تنكزني قائلة:

استعدي، سيصلون بعد قليل.

أجيبها : حسنًا.

دون أن ألتفت إليها ودون أن يتنحى نظري عن المشهد الممتد وراء زجاج النافذة، وأتمنى أن يتوقف الوقت وتتعطل الساعة الكونية ولا يحين بعد قليل. فأنا أحبذ قبل قليل، البارحة، الشهر الماضي، الأعوام الماضية، لأنني أدرك أن الوقت الآتي مؤلم.

ماهي إلا دقائق وسمعت صوت سيارات الإسعاف المزعجة.

يركض الجميع لأداء واجبهم وإنقاذ الجرحى، وأنا أسير بخطى متثاقلة وكسولة. لمحتني شيماء واقفة في زاوية معتمة لا يكاد يلفحها الضوء؛ محاولة التنحي عن أنظار البقية، هزت رأسها متسائلة عن سبب مواربتي. اقتربت نحوها وهمست في أذنها :

- أليس بين الجرحى مدنيون؟

- لا.... قالت بصرامة، وتابعت بنبرة ساخرة وأقرب للهمس:

حظ أوفر في التفجير القادم.

مدت يدها حاملة مقصا وطالبتني بأن أباشر عملي. أمسكت المقص بعد تردد وجرحت يدي عمدًا.

شهقت بعصبية: ماذا فعلت، ما بك؟

وكإجابة عن سبب التلكؤ هنا قلت للطبيب المشرف إنني جرحت يدي سهوًا، فقدم لي العلاج وإجازة لمدة أسبوع.

خرجت من المستشفى سعيدة جدًا، فرحة بأيام الإجازة.

خلال هذا الأسبوع سأجرب أن أكون حرة، سأبذر معظم الوقت بالنوم، وبالحديث إلى عماد إن توفر اتصال، سأتعاطى المأكولات الدسمة المحظورة، سأستمتع بالحلويات مستفيدة من العقاقير الفاتحة للشهية؛ فما عدت أطيق نفسي هكذا وكأنني خارجة من القبر بسند كفالة.

سأتناسى كل تلك الدماء والأطفال المصابين والأمهات المنكوبات، ولن أشاهد نشرات الأخبار، لن أهتم بنتائج أو مقررات مؤتمر جنيف وسأضحك حتى الثمالة من اجتماعاتهم التي لا تنتهي ولا تصل إلى نتيجة.

وها هو الخيال يشطح بي وقد تحول كل مندوب مهرجًا، والقاعة سيركًا ضخمًا، وتحولت أسلاك مكبرات الصوت إلى حبال يتراقص عليها أولئك المهرجون، وأنا أغرق ضحكًا كلما فقد أحدهم توازنه وسقط أرضًا، ورحت أقهقه سرًا وأنا أشاهد ذلك السيرك وقد تحول فيه المصورون إلى قردة يقفزون على الطاولات والمقاعد بشغب.

أفسدت علي متعتي المتخيلة وخزة في يدي المجروحة، تذكرني أن مفعول المخدر قد بدأ بالزوال. وأشفقت على يدي، انتابتني رغبة بتقبيلها ولثمها والاعتذار منها. ربما ستعذرني إن حدثتها عن المعارك التي تستعر داخلي، سأخبرها أنني أختنق كلما رأيت زيًا عسكريًا وتشل أصابعي تمامًا عن فعل أي شيء، ولا أجد حلًا إلا الاختباء في زاوية بعيدة كسنجابة اكتشفت عفن بندقتها الأخيرة.

سأخبرها بأنه لا قدرة لي على مداواة رجل حمل سلاحًا تحت أي مسمى أو انتماء أو ذريعة. وأن هذه الحرب بالنسبة لي معركة في طريق، يقف كلا المتعادين على رصيف مقابل للآخر.

الفريق على الرصيف الأول يطلق الرصاص دفاعًا عن الوطن، والفريق على الرصيف الثاني يطلقه دفاعًا عن الله، ولكن من يقتلون؟ يقتلون المارة، الأطفال النازحين إلى مدارسهم، الأم التي خرجت طلبًا للرغيف، والأب الذي غادر إلى عمله ليسد رمق عائلته.

الناس المارون في هذا الطريق، يصابون، يجرحون، ينزفون. هؤلاء هم مرضاي، هؤلاء من أكون مستعدة للتضحية بصحتي ونومي وراحة بالي لأجلهم وأشعر بوجعهم وبظلمهم وبعجزهم، وأجدني أكثر وجعًا وإحساسًا بالظلم والعجز منهم.

أما أولئك المستترون بزي عسكري بحجة النضال، فلا قدرة عندي حتى على استجداء محاولة لإنقاذهم، ولا رغبة عندي للحفاظ على حياة قاتل.

وصلت إلى المنزل متعبة، محملة بشعور ثقيل، مزدوج، وكانه خليط من الخوف والقلق والحيرة والأمل المنافق. هرعت إلى بريدي الإلكتروني لعلي أجد رسالة من عماد تهدئ سطوة الثقل هذه... ولم أجد.

الاكثر قراءة