الجمعة 29 نوفمبر 2024

سفر في سفر

  • 12-2-2017 | 13:31

طباعة

أحمد شامخ

(سفر في سفر ) هذا هو عنوان كتاب الهلال  الذي يصدر في 5/1/2017 للإعلامية مرفت رجب  التي استطاعت في هذا  الكتاب تحويل سفرها في المكان والزمان والوجوه إلى دائرة معارف بديعة، وصفحات حافلة في سجلّ أدب الرحلات .

والسفر عند مرفت رجب كما يقول الشاعر الكبير فاروق شوشة في تقديمه لهذا الكتاب إنه رحلة في الروح قبل أن يكون رحلة في المكان، ونفاذ إلى صميم الوجدان الإنساني الذي يتشارك في تفاعلاته من يجمعهم السفر قصدًا أو مصادفة. هنا يتسع المجال لحكايات البوْح التي تجيدها مرفت بحسّها القصصي والإنساني، ويمتلئ العقل بذخيرة جديدة من المعرفة المضافة، والخبرة المنفتحة، والبصر النافذ إلى جوهر السلوك، وحكمة المعاناة، والدهشة التي تستقبل كلَّ ما هو جميل وتفسح له مكانًا في القلب والعقل.

        ذلك أن هذا الكتاب كتاب في الجمال، الجمال الإنساني الذي تفصح عنه الوجوه وردود الأفعال، والجمال الطبيعي الذي يُتاح لمن تحرك في مساحة واسعة من الأماكن، وتناثر غباره على كل القارات، والجمال الروحي الذي تنعشه طمأنينة الإيمان والولع بالمجهول والاستغراق في أسرار الكون وتجليات الوجود، ومغزى كل ما يقع من أحداث. هنا، نجد مؤلفة الكتاب في ذروة انسجامها مع عالم الكتابة، وهي تفيض دون توقف، صانعة لغتها هي، وإفضاءاتها هي، وكأنها تطل من داخل ما تتحدث عنه وليس من خارجه، تذوب فيه ولا تنفصل عنه، ولا تعود إلينا - نحن قراءها - إلا بعد أن تكون قد ارتوت وثملت من هذا الفيض الروحي الغامر، وانتشت بما في الوجود كله من جمال وعذوبة واتساق.

        وعلى قارئ هذا الكتاب النفيس أن يصنع سفره الخاص وهو يقرأ، وأن يدرك أن الذي يقرؤه متعدد ومتنوع كالحياة نفسها، حتى وإن حرصت صاحبته على تقسيمه إلى أبواب وفصول، لكنه في تكوينه الكليّ يأخذ بنا إلى تأمل تراجيديا هذه الحياة أحيانًا، وإلى الإعجاب بتناقضاتها وألغازها أحيانًا أخرى، ومحاولة البحث عن العمق المستتر - في مجال المعنى والدلالة- أحيانًا ثالثة.

        فاللغة التي تكتب بها مرفت رجب، لغة توحي لمن لا يعرف، أنها لغة سهلة وبسيطة، يحسنها كل الناس ويظن الجاهل أنه يحسنها بدوره، لكن جمالها كامن في أنها تستعصي على التقليد والمحاكاة، لأنها في حقيقتها ليست سهلة وليست بسيطة. وإنما هي لغة تجمع بين الحسّ الإعلامي اليقظ: المعنيّ بالتوصيل والتفاصيل، والحسّ الأدبي البديع: المعنيّ بالجمال وروعة العرض والتشويق، ويندمج الحسّان معًا في لغة مرفت وصياغاتها، ليصبحا هذا الأسلوب المقتصد، الزاخر بالمعرفة والكشف، والرائق المتوهج بالعذوبة والتدفق. إنه نمط من الأسلوب الجديد الذي دعا إليه يحيى حقي، وتفرد به في قصصه يوسف إدريس، والذي تتوهج بعض صفحاته لأنها تغتني بروح الشعر وحُميّاه، بالرغم من أنها كتابة نثرية.

         فالكتاب - لمن يقرؤه -  يؤكد لديه أن هناك كثيرًا من التجارب والأحداث والمواقف والقضايا، لم يشملها هذا الكتاب، وإن كان يشير من بعيد، في بعض صفحاته إلى كثير مما لا يزال خافيًا، أو لم يجئ أوانه، أو ربما تتسع له مناسبة قادمة.

        والذي لا شك فيه، أن هذا الفيض من الأحداث والمواقف والخبرات والتجارب، مدين لمعرفة مرفت رجب العميقة بأسرار النفس الإنسانية في شتى حالاتها، والغوص في أعماق هذه النفس بما يكشف عن حجم تناقضاتها وصراعاتها، وعن مساحة الجمال والعذوبة فيها أيضًا، كما أن هذه المعرفة العميقة تعصمها من الوقوع في الخطأ أو الزلل، ولا تعرضها لما يتعرض له كثير من الساذجين عديمي الخبرة والوعي من اندهاش لا مبرر له أو اندفاع بلا حدود وراء مظهر مخادع ليس وراءه جوهر، أو كلام زائف لا رصيد له في حساب الصدق والنبل والشرف والكرامة والوفاء، وهي منظومة القيم الرفيعة التي عاشت بها ولها، والتي أبدعت لنا هذا الكيان الإنساني الجميل، وهذا الوعي المقتحم الكاشف.

    الاكثر قراءة