الأحد 16 يونيو 2024

الحياة توجد في الداخل

12-2-2017 | 13:57

ناصر صالح

وحدها الذكريات أفراحها وسلواها، تعيد كل يوم استرجاعها، تروي اشتياقها لوجه أخيها الحبيب الذي غادر الدنيا منذ خمسة عشر عاما، وأخيها الأصغر الذي رحل قبل سبع سنوات، وبيتهم الطيني الكبير الذي كان يعج بالحياة، كل ذلك انمحى ولم يعد له وجود سوى في عقلها وقلبها.

   من يراها لن يصدق أنها تعيش كل يوم حياة حافلة بالأحداث الغنية! من يراها سيعطف عليها، سيرق قلبه لها. سبع سنوات وهي مستلقية في سريرها. لقد أصبحت عجوزا، هرمة، متعبة، ولا تقوى إلا على تحريك رأسها ويديها. سبع سنوات وهي لم تغادر سريرها، ولا تعرف ما يدور في العالم الخارجي، ولكن حياتها مفعمة بالحرارة، والأشواق، وأحيانا يرى من حولها دموعا تسيل على وجنتيها دون أن يعرفوا سببها.

   كثيرا ما تنادي في خلواتها أسماء أخويها الراحلَيْن، سالم وعلي، تتحدث إليهما لفترات، وأحيانا تململ رأسها بألم وكأنها لا تقوى على التصديق أن كل ذلك العالم الحميم انقضى إلى غير رجعة، وأنها أصبحت الآن وحيدة. ما نفع حياتها الآن؟ من يهتم بها؟ من يعرفها؟ لو كان لها أولاد هل كانوا سيحبونها؟

   لم يكتب لها نصيب أن تنجب من زواجها، لو كان لديها أولاد لكانت الآن في بيتهم بدلا من العيش في بيت ابن أخيها الأكبر.. كثيرا ما تقول في نفسها لماذا أعذب نفسي بهذه الأماني التي فات الأوان على تحققها، ولكن قلب الإنسان لا يعترف بالواقع، يظل طفلا حتى لو شارف، مثلها، على التسعين، وكان طريح الفراش، وينتظر الموت.. هل هي تنتظر الموت؟

   حينما مر عليها ابن أخيها الشاب العائد من دراسته في الخارج بعد عام كامل وجدها كما تركها تماما، عرفته منذ أن سمعت صوته للوهلة الأولى رغم الغياب الطويل، قبَّلها على رأسها وفي وجنتيها. كان صوتها، وهي تسأله عن حاله وصحته، مليئا بالشوق والحب والطفولة، وبأشياء كثيرة غامضة وجميلة! الحديث بينهما تواصل للحظات ثم سرعان ما دخلت في غيبوبة صمتها المعتادة، كان ينظر إليها ويتساءل كيف استطاعت أن تتحمل كل هذه السنوات وهي في هذه الحالة! لقد كان العام الذي قضاه في دراسته بالخارج مليئا بالأحداث الكثيرة والوجوه والمواقف وكأنه عاش سنوات طويلة هناك، بينما نفس العام عاشته عمته في صمت وربما غيبوبة بيضاء خالية من الأحداث، هكذا كان يتساءل وهو ينظر إليها بإشفاق وألم وتأمل. كان يتساءل إن كانت عمته قد أصبحت يائسة، ومتعبة من الحياة أم لا، وهل تراها تنتظر الموت أخيرا.. الموت أحيانا راحة.

    لاحظ أنها كانت تتمتم بشفتيها كلمات غامضة، غير مفهومة، اقترب منها، واستطاع أن يميز اسم سالم والده، واسم عمه علي. كانت شفتا عمته تفتران عن ابتسامة، ثم عن كركرات طفولية، وبدأت همهماتها تتحول إلى أصوات، وضحكات، ثم إلى مناجاة تفيض بالشوق الجارف:

  "يالله يا سالم، يا خويه، مشتاقة ريحتك، يا أبويه، ويا أخويه، وين رحت وخليتني هنا لوحدي.. خلا بنروح المزرعة، بتأخذني معك، أريد أعيش هناك بين النخيل، وقريب من بير الماي. وعلي بيجي معنا، بنكون كلنا في بيتنا في المزرعة. من زمان ما كنا مع بعض".

   كان وجهها يضيء بابتسامة فرح تفيض بالحياة. الذكريات أنعشت قلبها، رئتاها انتعشتا بهواء المزرعة ورائحة الأرض الخصبة المبللة بالمياه. وراحت تواصل حديثها وهي تطير في السماء.

  عندما غادر غرفتها بهدوء كما دخل إليها نظر طويلا إلى السماء، رأى النجوم المتناثرة بفتنة في ظلمة الليل، كانت وضاءة، بهيجة، ومضيئة بطفولة وكأنها تولد في تلك اللحظة! تخيل عمته تطير بسريرها بين النجوم، رآها تصغر في السن، تفتح عينيها، وتقف على رجليها، ثم تغادر سريرها وتركض بمرح بين النجوم. كان وجه عمته يضيء بين النجوم وكأنه كوكب دري، وجهها يفيض بالفرح والحياة. وربما أكثر حياة من كل البشر الذين عرفهم في حياته!