السبت 1 يونيو 2024

غسيل الأدمغة آلية معتمدة وخطر حقيقى يتهدد شبابنا

11-8-2017 | 16:37

بقلم – خالد عكاشة

مصطلح (غسيل الدماغ) كان قد برز للمرة الأولى فى بداية النصف الثانى من القرن العشرين، إلا انه أصبح الآن مصطلحا عاما شاملا، وبات يستخدم فى مختلف ميادين الحياة وأنشطتها من «سياسة، وحروب عسكرية ونفسية، وإعلام مرئى أو مقروء، وفى الفن، والدعاية والتجارة، والإعلان، وفى التربية، والثقافة، والاجتماع». ويذكر الباحثون فى هذا المجال أن اصطلاح (غسل الدماغ) ظهر لأول مرة فى العقد الأول من النصف الثانى للقرن العشرين، للتدليل على كل محاولة للسيطرة على العقل البشرى وتوجيهه إلى غايات مرسومة، بعد تجريده من ذخيرته المعلوماتية السابقة وأفكاره ومبادئه. ويثير (غسيل الدماغ) جدلا كبيرا بين علماء النفس والأعصاب، بين منظر له ومنكر لوجوده؛ فالبعض يعتبره مفسرا لاعتناق البعض لديانة ما ويدرجه فى خانة الظواهر «الماورائية»، فيما تقف مثلا «الجمعية الأمريكية لعلم النفس» موقفا محايدا يرفض الاعتراف بوجوده أو إنكاره.

 

وهذا يدفعنا إلى الحذر من أن يختلط علينا الأمر، فنمزج بين عملية غسيل المخ، وبين عمليات التوجيه الدينى والتعليمى والاجتماعي. فقد يثير التساؤل حول ما إذا كان القائمون على المهن التربوية والاجتماعية، يمارسون فى عملهم نوعا من غسيل المخ، والأمثلة عديدة، فالمدرس فى جوهر عمله التربوي، والأطباء فى تدريبهم للمرضى بواسطة العلاج النفسي، ورجال الدين خلال استخدامهم لوسائلهم الإصلاحية، وهنا يتصدى البعض لتوصيف هذه الأنشطة وأصحابها بأن أعمالهم كلها ليست شيئا آخر غير غسيل المخ. والحقيقة العلمية تؤكد أن غسيل المخ ليس من مثل تلك الأمثلة والنماذج الواردة بأعلاه، معنى ذلك أنه إذا استخدم المصطلح استخداما مطلقا يجعله نقطة تجمع للخوف والامتعاض، ويدفع لتوجيه التهم جزافا دون تقدير للمسئولية، حيث يمثل «غسيل الدماغ» بالفعل أحد تطورات الفكر العالمى، ونشرت حوله العديد من الدراسات والمؤلفات، ويعد من الأحداث الفكرية والاجتماعية والنفسية الخطيرة التى تهم الإنسان المعاصر.

يرى الدكتور «على عواد» الخبير اللبنانى ورئيس (المركز الدولى للدراسات الإستراتيجية والإعلام) فى كتابه الشهير»الإعلام والرأى»، إن غسل المخ هى محاولة لتغيير اتجاه الفكر الإنسانى أو السلوك الإنسانى ضد الإرادة الحرة للفرد، وبمضمون مغاير لتفكيره الحر، وتستند هذه المحاولة إلى «نظرية بافلوف» القائلة أنه بتغيير بيئة الفرد يمكن تغييره كليا. أى أن محاولة قتل العقل السابق الفردي، بل والجماعى أحيانا، بالخضوع اللاإرادى لهيمنة نظام لا تفكيرى وسلوكية آلية. وبتعبير آخر، «غسل الدماغ» هو عملية تطويع للمخ وإعادة بناء بنيته التفكيرية، ومن ثم تغيير الاتجاهات النفسية لصاحبه. بمعنى محاولة توجيه الفكر الإنسانى أو العمل الإنسانى ضد رغبة الفرد، وما يتفق مع تفكيره ومعتقداته وقيمه، وهو باختصار العمل على إعادة تعليم الفرد، ودفعه إلى الكفر بإيمانه وعقيدته والتصرف فى مسار نقيضهما.

والحقيقة أن برامج «غسيل الدماغ» ليست بالجديدة تماما، فقد كان أسلوب استخلاص الاعترافات معروفا فى التحقيقات البابوية التى جرت فى القرن الثالث عشر الميلادى، ثم فيما بعد وبخاصة داخل مجالات تحقيق «البوليس السرى الروسي»، وفى وسائل تنظيم سجون الإصلاح، ومستشفيات الأمراض العقلية، وغيرها من المؤسسات التى أقيمت لإحداث التغييرات العقائدية عند الأفراد. لذلك ينظر إلى الشيوعيين أنهم جاءوا بمنهجهم فى ضوء أكثر شمولا وتنظيما، كما أنهم استخدموا فيه مجموعة من الأساليب الفنية السيكولوجية المترابطة. كما تشير العديد من الدراسات أن أول من ابتكر اصطلاح «غسيل الدماغ»، هو صحفى أمريكى يدعى «إدوارد هنتر» الذى ألف كتابا عن هذا الموضوع على أثر الحرب الكورية. فقد انتهت الحرب بعد الهدنة، ورجع الأسرى الأمريكيون إلى أوطانهم، ولكنهم رجعوا يفكرون باتجاه آخر، مؤمنين بمبادئ أعدائهم متحمسين لهم ومبدين إعجابهم وامتنانهم من معاملة الكوريين لهم. وكانت تلك الظاهرة هى الأولى من نوعها فى تاريخ الحروب البشرية، مما روع وزارة الدفاع الأمريكية، وأصبح هذا الموضوع مثار اهتمام ودراسة وتنقيب شديد من قبل المسئولين الأمريكيين وأجهزة الإعلام. وكان أن خرج الصحفى الأمريكى هنتر باصطلاح غسل المخ كوصف لهذه الظاهرة الفريدة، وقد اشتق هنتر اصطلاحه هذا من مصطلح صيني يعنى تنظيف المخ، وذلك بعد أن حصل هنتر على معلوماته من مخبرين صينيين، على إثر انتهاء الحرب الكورية، حيث اقترن اصطلاح «غسيل الدماغ» بالأساليب الكورية الصينية لتحوير أفكار الآخرين وتغيير اتجاهاتهم.

أما الصينيون أنفسهم فقد كانوا يطلقون مصطلح «تقويم» أو «إعادة بناء الأفكار» على محاولاتهم تلك، واعتبروها برنامجا تثقيفيا عاما. وما لبث موضوع «غسل الدماغ» أن أصبح موضع اهتمام ودراسة وبحث من العلماء فى كافة المجالات، من الخبراء العسكريين والمفكرين وعلماء النفس والاجتماع وخبراء علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلماء الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء). وأصبح هذا الاصطلاح عاما وشاملا، يشير إلى كل وسيلة تقنية مخططة ترمى إلى تحويل الفكر والسلوك البشرى ضد إرادته وسابق تفكيره ومعلوماته، وغدا فى يومنا هذا يحمل معانى أعم وأشمل وأكثر وضوحا، مثل التحوير الفكرى أو المذهبة أو الإقناع الخفى. ولقد أورد إدوارد هنتر فى كتابه رواية رجل أمريكى تعرض للأسر لدى الكوريين فقال ما يلي: «يضغط الكوريون عليك حتى نقطة الموت، ثم ينقذونك، ثم يعاودون الضغط عليك حتى ترى باب الموت، وعندما تكون على وشك دخوله، فإنهم يشدوك بعيدا. ولكن بعد أن يكرروا ذلك الأسلوب عدة مرات، فأنك تشعر بالعرفان لهم لإنقاذهم حياتك، وتنسى أنهم كانوا هم الأفراد الذين كانوا على وشك أن يقتلوك، وكل ما تحسه أنهم هم الذين أنقذوك وتكون مستعدا أن تفعل كل شيء يريدونه».

الجدير بالذكر أن هناك ثلاثة أسئلة؛ قد تشكل إجاباتها خريطة طريق لتحديد ظاهرة «غسل الدماغ» هي:

ما هى الأسس النفسية والفسيولوجية للهيمنة على الفكر؟

وما هى آليات الإقناع؟

وما هى أسلحة معركة الاستئثار بالدماغ البشرى على المستوى العام والفردي؟

حيث ينبغى علينا فى البداية كمجتمع وكأفراد؛ أن نتعرف على أسلحة المعركة العقلية حتى لا نقع ضحية لها، ذلك أن للمعركة الدماغية آليات وفنوناوتكنيكا.  فيقول المختصون فى ذلك باختصار:»إن من يريد أن يؤثر فينا عليه أولا أن يسبر أغوارنا، ليكتشف المواضع الحساسة والضعيفة فينا، ليتلاعب بها أو يهاجمها وفق غاياته». فلم يعد التأثير فى عقول الناس كما كان فى المجتمعات القديمة البسيطة، يعتمد على الوسائل الفطرية التجريبية العفوية، بل أصبحت له اليوم أساليب نفسية محكمة، إذ تتطلب  إدارة اتجاه إنسان الاقتراب من مداخل شخصيته واستعداده وفك رموز تركيبته الخاصة، كما أن إدارة اتجاه مجتمع تتطلب إدراك محاور طبيعته، وتراثه وقيمه السائدة ومفاهيمه وثقافته المحلية.

كذلك من العوامل النفسية والفسيولوجية، التى تخدم آلية التحفيز الدماغى وتحوير الأفكار والاتجاهات، عامل الشدائد النفسية والعاطفية. كأن يمر الإنسان (أو المجتمع بصفة عامة) بفترة عصيبة، أو حالة صدمة حادة، أو أزمة أو شدة تؤثر فى فاعلية المخ. ذلك أن الشدائد على أنواعها تجعل المخ قابلا للالتقاط والإيحاء، ومن ثم الانعطاف إلى اتجاه آخر، فالعوامل النفسية تعرض الدماغ إلى اضطراب وانفعال وتوتر داخلي، بحيث يصبح بعدئذ من اليسير زعزعة اتجاهاته، وانطباعاته السابقة، وإحلال أخرى محلها، باستغلال تلك الحالة الوقتية للدماغ، والتى يكون فيها مفككا ومتهيئا لتقبل الإيحاء والاتجاه الجديد. مثال ذلك مجتمع يعانى من ضغوط عسكرية أو احتلال أو توتر أمني، أو شخص يعانى من أزمة نفسية أو موت إنسان عزيز، كل هذه أمثلة على الشدائد التى قد يمر بها المجتمع أو الفرد، مما يجعله قابلا للتحوير الفكرى والنفسي.

وعن أدوات ووسائل التحوير الفكرى والتأثير فى الآخرين؛ تكون البداية بالالتفاف حول الفريسة، والتواجد المتواصل بجانبها، والعزل المعنوى عن الآخرين للتمكن التام من تلك الفريسة. ويرى الخبراء أن أهم أداة كانت ولا تزال هى (الكلمة)، فتأثير الكلمة فى الآخر يتم عن طريق الأساليب المتقنة من تكرار وإثارة عاطفية والتفنن فى العرض، ومحاولة الوصول إلى أعماق المتلقي. وبسحر الكلام استطاع الإنسان أن يقنع غيره، والقوة والقسر لا يؤديان مفعول الكلمة، ولذلك كانت سبل الكلام هى الوسائل النفسية التى تفوق مفعول القوة والإكراه. وبعد أن تنجح الخطوة الأولى فى التحوير والإقناع، وتنغرس الفكرة أو الاتجاه الجديد فى عقل الفرد، تكون المرحلة التالية أشد أهمية فى تثبيت وتعزيز التحول، فالاتجاهات الجديدة المغروسة تحتاج إلى الرعاية، وهو ما يسمى بـ(مرحلة الرعاية الأولية).

وهكذا يكون التمريض الفكرى والرعاية الوجدانية جاهزة بعد كل تجربة، لذلك فإن من يمارس التحوير والمذهبة تجده يحيط بالضحية، ولا يكف عن التأثير فيه بتكرار آرائه واتجاهاته لغرسها فى عقله وترسيخها. لأن التكرار، والإعادة، والمثابرة، والملاحقة باستمرار، والمواظبة، من وسائل الولوج إلى العقل والسيطرة عليه. لأن ذلك يرفع من قابليته للإيحاء، ويهبط من قابليته للنقد الذاتى والمناقشة، ويخفض حدة نباهته، ويضعف ميزانه الداخلي، ويفقده معالم شخصيته، مما يكون له مفعوله فى تقبل الآراء والإيحاءات والمسايرة والرضوخ وعدم التبصر والوهن فى الحكم على الأمور.

ماذا تفعل التنظيمات الارهابية، ودعاة الفكر المتطرف، فى شبابنا وفى الشرائح المستهدفة العديدة داخل مجتمعنا. سوى أنها تطبق حرفيا مثل تلك المناهج والآليات، الموجودة بتفاصيلها وبخطوات تنفيذها الدقيقة على مواقع العلوم السلوكية بشبكة الإنترنت، تماما كما هو متاح كيفية صناعة العبوات الناسفة والمتفجرة فى مواقع أخرى. وأكاد أجدهما لا يختلفان عن بعضهما البعض كثيرا، فكلاهما يستهدف تفجير شبابنا ومجتمعاتنا من الداخل بغرض التدمير وسعيا لسلبهم الإرادة السوية الوطنية.