الخميس 21 نوفمبر 2024

حبة الفاصوليا

  • 12-2-2017 | 14:32

طباعة

جوخة الحارثي - أستاذة للأدب العربي بجامعة السلطان قابوس، مسقط، حاصلة على دكتوراه في الأدب العربي القديم من جامعة ادنبرة بالمملكة المتحدة 2010. لها دراسات ومجموعات قصصية وثلاث روايات: "نارنجة"، و"سيدات القمر"، و"منامات".

بدأ كل شيء في تلك الظهيرة من مارس الماضي، أتذكرها الآن كلوحة جامدة تماما: الشمس المحتجبة خلف الغيوم البيضاء، البحر الفضي الثابت الموج، الرمل الناعم، الرخويات على الشاطئ، وأنا وهو واقفان مشتبكي الأيدي في مواجهة الموج الثابت.

    كل شيء ساكن، وهذه اللوحة قد رُسِمَت وانتهى الأمر، والشيء الوحيد المتحرك هو الغائب خلف أستار الألوان الثابتة لهذه اللوحة، هو الذي باغتني فجأة فاختلجت يدي في يده اختلاجة خفيفة جدا لم تؤثر مطلقا في هذا الثبات.

    تحرك شيء صغير جدا في مكان خبيء جدا من قلبي، ولأسمي ذلك الشيء "حبة" فقد كان أشبه بذلك في الفضاء الفسيح لقلبي.

    في أوائل يناير، حيث لم يبدأ أي شيء بعد، كانت الحركة مائجة، النساء المزوقات، وأطباق الطعام ترفع وتحط، وكلمات القاضي، ومقدم المهر، وكلمات الحب الكثيرة التي تبادلناها في زخم الأصوات، البهجة الظاهرة بعقد القران منذ قليل، والبهجة الخفية بموعد الزفاف في أغسطس المقبل، كانت أوائل يناير أشبه بسيل، بموج صاخب، برمال متحركة، بفيلم سريع الإيقاع حيث لم يبدأ أي شيء بعد.

    سيقول بعض المستائين كلاما مغرضا من قبيل: "الصمت هو السبب"، وهذه مجرد إشاعة رخيصة، ففي تلك الظهيرة، كان المدقق في اللوحة سيرى أفواهنا مفتوحة، لا ريب أنَّ كلاما لا صمتا كان يخرج منها، قد يرى أيضا المسافة الصغيرة جدا بين كتفينا، وهذا يعني أننا نتحدث همسا، الذي لا يراه أحد هو الحبة، التي كانت قد بدأت تتململ في قلبي، وتجبرني على الشعور بها، الشعور الذي قاومته بضراوة، ولكن الحبة الناتئة كانت كحبة الفاصوليا تحت فراش الأميرة: حرمتها النوم.

    في أغسطس جهز كل منا علب هداياه على حدة، لم يعد الأمر يخصنا، أصبحنا نشبه فريسة صغيرة تحيطها أذرع الأخطبوط من كل اتجاه، كان كل شيء يموج بالحركة: المفاوضات، الترتيبات، تبادل الهدايا، أفراد العائلتين، ولم يكن كل شيء قد انتهى بعد.

   قالت أمه ـ لا ألومها ـ إنَّ شخصا ثالثا هو السبب، ولم أقل لها: " لو لم يكن هناك مكان للثالث لما كان"، لأنَّ كل الثالث الذي أعرفه هو الحبة، رغم طبقات الفراش الكثيفة أعلى حبة الفاصوليا آلمت الحبة الأميرة وحرمتها النوم.

   كل ما فعلته خلال تلك الأشهر هو محاولة تجاهلها، ردمها تحت طبقات كثيرة من الأستار، وكان انشغالي المفرط بقمعها هو الدليل الوحيد والدامغ لوجودها.

    في تلك اللحظة، وعيناي مثبتتان على البحر الفضي، ويدي مثبتة في يده، كان صخب تدحرج الحبة في قلبي عاليا كارتطام قطعة معدنية في أرض صلبة، وحين أخذت تتبرعم، كانت توجعني رغم كل محاولاتي لطمرها، إنَّ براعمها وجذورها الدقيقة تحفر بدأب في تربة قلبي، متى عرفت ذلك؟  متى اكتشفت أنَّ الحبة بذرة؟

    حين اشتد الوجع وقويت السيقان، ومزقت الفروع النامية جدران القلب، أصبح الكتمان عبثا، والأكياس المصقولة المحملة بملابس العروس وعطورها عبئا، ماذا أسمي تلك الأغصان الشوكية؟ نفورا خفيا؟ رفضا غامضا؟ أم وعيا مُضببا باختلاف عميق سيورث الخلاف لا شك؟!

    ثمة محاورات كثيرة ومشادات أكثر قد اشتعلت من جراء تبرعم تلك البذرة، بيني وبين أناس كثر، وبينهم وبين آخرين، والقليل منها كان بيني وبينه، في أواخر أبريل لكزتني أختي الكبرى: "تذبلين باستمرار.. أهذا بهاء عروس بقي على عرسها أشهر قلائل؟"، ولم أقل: "لأن البذرة في قلبي تنمو باطراد"، وقالت أخته الصغرى: "أخي يبذل جهده لإسعادها"، ولم أقل: "من ينكر ذلك؟"، بعدها، قالت أخت أخرى: "أظلمك؟.. أأساء لك؟"، قلت: "لا.. من يزعم ذلك؟".

   ولكن يده تصبح ثقيلة جدا في يدي، أكاد لا أقوى على تحمل ضغطها، وجذور الشجرة الشوكية تترسخ في تربة قلبي، والجذوع تخترق جدرانه، وفي مايو رأى فروعها المخيفة تطل من عيني، أنَّى لي أنْ أردم كل ذلك؟

    كل هذا النمو الوحشي يقول كلمة واحدة: "لا"، ولساني أضعف منها.

    في يونيو ـ وقد أصبحت كل صباحاتي كصباح الأميرة الراقدة على حبة الفاصوليا: هالات سوداء تشي بأثر الأرق رغم طبقات الشراشف والكتمان ـ قلت: "لا".

    وأصبحت فورا المتكبرة الأنانية جاحدة الجميل، وعبثا أشرح أنَّ شجرة النفور نمت دون زرع، وإني بشأنها عديمة الحيلة كالرخويات الملقاة على الشاطئ في تلك الظهيرة.

   في منتصف يونيو أمام والدي ووالده المهيبين كان علي تقديم المبررات والتفسير: الشيء الذي لا أملكه، مجرد بذرة خفية سقطت في لوحة خامدة، تبرعمت ونمت وعذبتني بلا هوادة.

   في يونيو ويوليو جلست في مقعد دوار، وكل من شاء دار بالمقعد دورة أو عشرا نابشا في قلبي عن أصل البذرة، ولشدة الدوار أصبحت أرى أفواها متراكبة بعضها فوق بعض، وعيونا متراكبة تفيض بالاتهام، وقد سقى كل هؤلاء ـ المعنيون بالأمر ـ شجرة رفضي خير سقيا، كما استفز جذوعها الضخمة لطفه المتعمد وتمسكه القتالي بي.

    في يناير كانت فرحتنا تشبه طفلة تدخل الملاهي للمرة الأولى: في غمرة انبهارها بالألعاب نسيت أن ثوبها ممزق، وفي يوليو كان عذابي يشبه الطفلة التي تفطنت لثوبها وأرادت الخروج من مكان لم يصنع لها فطوقها كل شيء مانعا إياها.

في أواخر أغسطس تكاد اللوحة تهتز لفرط الغادين والرائحين: النساء المزوقات كما في جميع الأوقات، مقدم المهر العائد، الهدايا العائدة، الشجارات اللازمة للتسوية، ولم ينته كل شيء بعد.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة