أعد الكتاب للنشر: محمد المكاوي
في عيد ميلاد الإذاعي الكبير فهمي عمر .. التقى عبدالحليم ومجدي العمروسي وبدأت بينهما صداقة العمر بعدما اقتنع الأخير بموهبته وتوقع له النجاح ولكن ما حدث له علي مسرح الإسكندرية عكس ذلك تماما وعلم عبدالوهاب بنبأ فشل المطرب الصاعد فأرسل يستدعيه ويواسيه بكلمات يسود فيها أسماء العظماء الذين استقبلهم الناس أسوأ استقبال في بداية حياتهم، وبعد عام ارتفع ستار المسرح القومي بالإسكندرية من جديد ليغني العندليب روائعه .. صافيني مرة .. ظالم .. علي قد الشوق.. يامغرمين.. وصفق الناس وكتبوا بكفوفهم الملتهبة أحلي نجاح في حياة عبدالحليم حافظ..
الموعود بالعذاب
الأطباء هم الذين يتقاضون الأجر من المرضي .. بعد أن يشفيهم الله!!
كح .. قل آه.. خد نفس .. هات جنيه!
وهذا هو الطب!
معظم الناس في مصر فقدوا الثقة في الطب والأطباء لأنهم لا يفرقون بين الطبيب والساحر!!
المثل الشعبي.. وهو خلاصة تجارب جدي وجدك يقول في يأس:« إسأل مجرب ولا تسأل طبيب!» بل إن بعض نكت الشعب المصري وألذعها كانت علي الأطباء والمرضي ابتداء من مستشفي قصر العيني إلي مستشفي المجانين!!
مرة واحد راح للدكتور قال له لما أشرب شاي عيني بتوجعني أعمل إيه؟ قال له طلع المعلقة من الفنجان!! هه
مرة واحد.....
وتستمر النكت القديمة.. الذكية حينا والخبيثة أحياناً فلا تدل هذه النكت المريرة بكثرتها وضحكاتها الرنانة المتزايدة إلا علي رد فعل طبيعي وعادل لكمية الآلام!
وعبدالحليم حافظ.. هو أشهر مرضي الشرق الأوسط وأكثر المتعاملين مع الأطباء أمراضه يحفظها الشعب يقرأها في الجرائد.. ويسمعها في الإذاعة ويراها من عدسة التليفزيون وتلفق عليها القصص السينمائية!!
قصة البلهارسيا معه مشهورة.. لا يكتبها إلا كاتب ساذج أو غبي.. أو فقير لا يجد ما يحشو به سطوره!
«شيلاشابوك» أخصائية الكبد العالمية .. الانجليزية!
أعظم طبيبة كبد في الدنيا وضعت أصابعها الرقيقة عليه.. قالت بهلع:
لابد أن تسير ووراءك بنك دم!
حالات النزيف حالات سهلة من حيث السيطرة عليها صعب من حيث آثارها النفسية السيئة علي المريض فهي مسألة تعويض الدم المفقود بدم آخر من نفس نوعه وفصيلته ليقوم بنفس دوره ويأخذ نفس مكانه عملية بسيطة تؤكد المثل الشائع «أحمد زي الحاج أحمد»!
وعبدالحليم حافظ... يعرف كيف يختار الاصدقاء صديق جديد ظهر في حياته يحبه ويحترمه... لا يجلس إلا معه.. لا يسهر إلا به يقطع له تذكرة في نفس طائرته.. يدعوه دائما علي الغداء ويسمع رأيه في أعماله الفنية.. إذا غاب عنه ساعة اتصل به في التليفون ليقول له:
- وحشتني!
الصديق اسمه: هشام عيسي .. وظيفته .. رئيس بنك الدم ومهنته طبيب!
كانت الشلة في العجمي.. والقاعدة رايقة.. والضحك شغال: والجو عال.. والطقس ربيع.
وفجأة:
وبغير مقدمات بصق عبدالحليم حافظ جالون دم!
وجري هشام عيسي وفتح حقيبته وسحب الدم من عروق بعض الأقارب ليسكبها في عروق العندليب..
وليس في كل مرة تسلم الجرة!
أنت لا تعرف أن عبدالحليم يستيقظ من نومه في العاشرة مساء ثم يستمر مستيقظا حتي الثامنة صباحا مع شلة من الاصدقاء والأطباء والأقارب يتزعم هذه الشلة ذلك الصديق الجديد .. هشام عيسي.
إنه بهذا ينفذ كلام الست ثومة حين تغني:
نهاري ليل.. وليلي نهار!
فكرة ما مترسبة في ذهنه يمكن أن نسميها «فلسفة السهر» أنه في النهار سيجد حتما من ينقذه أما في الليل فكم من الوقت يكفيه ليوقظ طبيبه ويغسل وجهه ويبدل ملابسه ويبحث عن تاكسي لينقله إليه فيأمره كح .. قل آه .. هات جنيه!
ورغم كل تلك الاستحكامات والمتاريس وأبراج المراقبة التي يترصد فيها عبدالحليم للمرض الغادر رغم كل هذا حدث شيء خطير!
جاءه النزيف.. وفي عز الضهر!
وحملوه في عربة مستشفي فاخرة وهناك نقلوا إلي عروقه الدم من زجاجة ملوثة!
وقف النزيف!
وأصيب بالصفراء!
المستشفيات عندنا مستواها مخجل.. تمتاز بالازدحام و الفوضي والقذارة .. والإهمال والعلاج فيها سريع بسيط غير مجد فلو حسبت عدد المرضي الذين يعرضون علي الطبيب الواحد في الشهر وقسمته علي عدد دقائق هذا الشهر لوجدت أن الطبيب مطلوب منه أن يعالج خمسة من المرضي في كل دقيقة وربع!!
أطباء قصر العيني مثلا يجلسون علي منضدة عليها مفرش - كان - أبيض عليه كافة الأوبئة والجراثيم ويبدأ في استدعاء المرضي من العنابر في طابور ينافس طابور فراخ الجمعية من حيث الطول فإذا فاجأت أحد المرضي نوبة قاتلة رفض الطبيب أن يتداولها قائلاً:
- لما ييجي عليه الدور!
ثم يبرطم في زعل:
- اتعلموا النظام بقي لحد إمتي حنفضل غنم!
لكن الطبيب طبعاً.. تجده يستعمل ألفاظا رقيقة مثل «مرسي» و«بون سوار» «وأوريفوار» في نفس اليوم مساء بعيادته الخاصة!
هذا بصرف النظر عن حالة المستشفي من حيث التأسيس ونظافة العنابر التي يسمح فيها بالتجول لباعة العرقسوس والنوجا وبصرف النظر عن طريقة العلاج «النوفالجيني» الذي يصرف لمرضي السل وبصرف النظر عن معاملة ملائكة الرحمة للمرضي اللاتي أطلب تغيير لقبهن إلي ملائكة اللحمة لا شيء إلا لأنهن يأكلن لحم الميتين.
ومع هذا فنحن معذورون أطباء.. ومرضي.. وممرضات وصحفيين!
الخلاصة!
حمل عبدالحليم علي أكتافه «صفرة» البلهارسيا «وهزال» الصفراء وأصبح مريضا بالألوان!
البلهارسيا أساسا وصلت الكبد وسببت تليفا في الأنسجة منعت مرور الدم في الكبد مروراً طبيعياً.
دم الجسم.. يمر في القلب ويتجه للرئة ليحصل علي «نصيبه» من الاكسجين.
أما الدم القادم من المعدة والامعاء فيمر قبل ذهابه للقلب بالكبد فإذا صادف تليفا بالكبد يتعطل مروره فتنتفخ الأوردة الموجودة بالمعدة مكونة ما يسمي بالدوالي وهي بالونات من الدم تنفجر في أي لحظة فتكسب من الفم أو تتسلل مع البراز!
هذا عن البلهارسيا!
أما عن الصفراء!
فقد أضافت للكبد ضعفاً جديدا حتي سببت له التهاباً مزمناً والالتهاب يؤدي إلي النزيف والنزيف يسبب الالتهاب والالتهاب يسبب النزيف والنزيف.......استمر.
يقول الأطباء إن الكبد هو مصدر المواد التي تسبب التجلط الدموي الذي يوقف النزيف.. وطالما الكبد معطلاً ومريضا فلن يقدم إفرازاته ولن يتوقف النزيف أبداً!
والمصيبة أن هذا الكبد الهزيل يزيد من ضعفه تلك الحياة التي يعيشها عبدالحليم حافظ الحياة الفنية والضغط العصبي والتوتر الذي يحياه في حالة الوحدة النفسية بل إن «فلسفة السهر» التي يعيش بها لتحميه هي أكثر ما يضر كبده لأنه قد ثبت علميا أن عمليات الهدم والبناء في التمثيل الغذائي تنشط ليلاً لا نهاراً.
لقد كانت حالة عبدالحليم حافظ «خانة اليك» التي انحبس فيها الاطباء وحاولوا الخروج منها بمجموعة من الروشتات يمكن تجميعها في مجلد وارتفع رصيد قائمة الممنوع في حياته.
الأكل: ممنوع أي شئ عدا السوائل حتي الأرز لا يأكله إلا بعد هرسه خوفا من أن تجرح دوالي المعدة فتنزف.
الأدوية: مسموح بكل منشطات الكبد والتي تفرز سائل التجلط.
ولم يكتف عبدالحليم حافظ بمجهود الطب المصري فأرسل إلي الخارج خطابات إلي أشهر اخصائيين في العالم وجاءت التقارير الآتية:
«الصفراء» فيروس يصيب الكبد ويسبب التهابا وتآكلا في بعض الخلايا وغير معروف له أي علاج وغير معروف له وقاية لأن طرق التطعيم العادية لا تقتل هذا الفيروس ولا يوجد مصل مضاد له لأنه لم يعزل ولم تعرف مكوناته بعد.
ولكن في الندوات الأخيرة جرت عدة محاولات بمعرفة طبيب مصري اسمه دكتور هشام عيسي لعزل هذا الفيرس وهي محاولات شبه ناجحة يستطيع بها التنبؤ بالمرض بنسبة نجاح 60% وبهذا يمكنه عزل الحالات الحاملة للميكروب لو ظهرت أعراض المرض عليها ولكن أحدا في العالم كله لم يستطع أن يتوصل إلي المصل المضاد وشكراً!
وفي هذا يصدق المثل المصري أيضا:
جبتك ياعبدالمعين!
üüüüüü
ويبدو أن عبدالحليم تحدي غول المرض فقبل الغول التحدي!
جري خلفه من مصر إلي لندن إلي باريس إلي الرباط ففي شهر مارس 1972 حينما كان عبدالحليم يحضر الاحتفالات بعيد ميلاد صديقه الملك زارته نوبة النزيف في غرفته بفندق الهيلتون ونزف الشاب الرقيق ثلاثة لترات دم في ربع ساعة الجسم كله يحمل خمسة لترات لا أكثر ولا أقل!
وأيقظوا هشام عيسي وحينما جري إليه في الغرفة وجده يسبح في بركة من الدماء وأذهلته المفاجأة فصرخ:
الحقونا بدكتور!
نسي نفسه ووظيفته واسمه وشهاداته وتجاربه ودراسته وأفاق بسرعة فأتم عملية نقل دم سريعة ثم نقل عبدالحليم إلي المستشفي هناك أصر غول المرض علي استمرار التحدي فانفجرت بالونات الدوالي مرتين متواليتين في ثلاثة أيام غير فيها عبدالحليم دم جسمه كل مرتين!
أعقب ذلك حالة «إغماء كبدي» وهي حالة لا ينجو منها أحد يتعطل فيها الكبد تماما وتتوقف وظائفه واحدة بعد الأخري وتسبب التسمم بمادة اسمها «الامونيا» وهي مادة تدخل مع الطعام إلي الدم يحولها الكبد إلي مادة غير سامة اسمها البولينا تفرز مع البول ولأن الكبد عنده مريض وفي حالة فقدان وعي وغير قادر علي العمل تبقي الأمونيا بكل سمومها وتصيب خلايا المخ وتظهر علي المريض أعراض الجنون!
وتم استدعاء «كونسولتو» عالمي من اطباء انجليز وفرنسيين منهم:
د. جارتيه «فرنس» وهو الجراح الوحيد في العالم الذي قام بعملية نقل كبد وهي اخطر من عملية نقل القلب لأن القلب عمله ميكانيكي يقتصر علي استقبال الدم ودفعه للرئتين لتنقيته ثم استقباله مرة أخري وتوزيعه علي باقي اجزاء الجسم مدفوعاً بضربات متقطعة تبلغ 80 ضربة في الدقيقة!
أما الكبد فهو معمل ضخم تجري فيه آلاف العمليات الكيماوية التي يتوقف عليها نتائج معظم ما يجري في الجسم من عمليات حيوية مثل تحويل الغذاء إلي مواد قابلة للاحتراق ومواد قابلة للبناء والتخلص من السموم التي تدخل الجسم وإنتاج المضادات للحساسية!!
د. سارزان «فرنسي» طبيب باطني مشهور
د. مريت «فرنسي» طبيب باطني كبدي
د. تانر «انجليزي» سبق أن أجري عملية ربط دوالي لعبدالحليم سنة 1956
د. ماكبث «انجليزي» جراح يقوم بتجارب أولية يحقن الدوالي بمادة عن طريق الفم تسبب انسدادها أجري التجربة ثلاث مرات وفي كل مرة تنجح العملية ويموت المريض!!
د. الحمد العراقي: رئيس وزراء المغرب قبل حوادث الصخيرات!
د. ياسين عبدالغفار: أستاذ أمراض باطنية جامعة عين شمس
د. هشام عيسي: الطبيب المرافق
واجتمع الكونسولتو الرهيب حول الكبد التالف ولم يكن أمامهم إلا محاولة وقف النزيف بأي ثمن حتي لا يتكرر الاغماء الكبدي مرة أخري ونظرا لأن حالة عبدالحليم الصحية لا تسمح بإجراء جراحة كبيرة تفتح فيها البطن فلابد أن يتم الوصول إلي الدوالي عن طريق آخر!
وهنا وجد الخواجة «ماكبث» فرصة ليجري تجربته الرابعة يقوم ماكبت في هذه العملية بحقن الدوالي عن طريق منظار طويل يدخل من الفم حتي المعدة طوله نصف متر تقريبا وتنفذ منه حقنة ذات إبرة طويلة جدا تحتوي علي مادة «بورات الصوديوم» التي تسبب تجلط الدم في هذه الدوالي فتسدها:
تلامس الدوالي وتخترقها ثم تحقنها وهي عملية لابد أن تتكرر مرة كل ستة شهور تقريبا ولمدة خمس سنوات متوالية!
ولكني أكره أن يخرج لنا «ماكبث» بكلمته الشهيرة نجحت التجربة ولكن المريض مات.
أنا أفضل أن تفشل التجربة - وكل تجارب الدنيا ويعيش المريض.
ودخل عبدالحليم إلي غرفة العمليات وهو يعلم كل ما كتبته أنا في هذا المقال.. وأمسك يد علية أخته وقال لها:
- ما تخافيش ياعلية عمر الشقي بقي خلي بالك من زيزي وإسماعيل ولا يهمك!
ونجحت العملية..
وعاش المريض..
عاش ليملأ الدنيا بالحب والخير والأمل والنغمة الحلوة العذبة عاش لتبلعه احضان الناس وهو ينزل من سلم الطائرة والإذاعات تغني له بصوته:
ياحبايب بالسلامة...
رحتم ورجعتوا لنا بألف سلامة!