بقلم : عمرو على بركات
اللورى الأزرق؟!
"فى حجرة سوداء.. كلاب كثيرة.. أضرب قطاً أسوداً بعصى.. الكلاب تنبح.. والقط يقفز على وجهى كلما ضربته هبش وجهى.. بدأ الدم يسيل"، استيقظت وأنا أبتلع ريقى، وحمدت الله أنى رأيت الدم، فالدم يفسد الحلم، كان الزملاء المنقولون فى الحركة قد وصلوا جميعاً، وبدأوا يتجمعون على السلم الخشبى متجهين إلى مكتب شئون الضباط ليعلم كل منهم أى منقلب سينقلبون، وفى أى جهة سيعملون؟ كنا حوالى خمسين، من مختلف الأعمار، لم أتبين الرتب، فكلنا يرتدى الملابس المدنية، وجوه أعرفها من الذاكرة بسهولة، ووجوه أستحضرها بعناء، ووجوه لا أعرفها، ووجوه أتنكر معرفتها، ولكن كلنا تجاهلنا وجوه بعضنا البعض، حتى لم نتصافح، فكل منا فى شأن يغنيه، عن دفعته، والدفعات التى تسبقه وتليه، بعد أن سافر مبتعداً عن صاحبته وبنيه، وقفنا أمام لافتة نحاسية مكتوب عليها "قلم الضباط"، وفجأة أطلت علينا رأس صلعاء، ترتدى رتبة العميد، بملابس كاكية اللون، نظر إلينا صاحبها وباب المكتب موارب وقال بلهجة المحصور للتبول:"يلا يا بهوات على النادى.. اجتماع مع السيد الحكمدار هيوزعكم.. وفيه لورى تحت مستنيكم يوديكم"، وأغلق الباب، علمت فيما بعد، أنه مدير شئون الضباط، نقل مستبعداً لارتكابه جناية قتل زوجته، فالتمست له العذر لحسرته، عدت مع زملائى نطقطق السلم الخشبى مرة أخرى، أحمل حقيبتى المثقلة، وقفنا أمام البوابة فى الشارع، سأل أحدنا عسكرى عن السيارة التى ستنقلنا إلى نادى ضباط الشرطة؟ فقال:"ورا المديرية.. اللورى اللى بيلملم البهوات الجداد"، ذهبت مع زملائى خلف المديرية، وكل منا يلملم نفسه لمواجهة المصير الذى ينتظرنا، وجدت سيارات متناثرة معطلة أسفل أشجار الكافور العتيقة، وبينها لورى ماركة نصر ماجروس يتراقص بعنف كما لو كان يرحب بقدومنا، لورى من المخصص لنقل جنود الأمن المركزى، أو المتهمين المرحلين للسجن، اللورى أزرق اللون فى بحرى، تحول إلى رمادى فى قبلى من أشعة الشمس، وكان قد سبقنى إليه بعض الزملاء، وجلس أكبر اثنين سناً فى الكابينة بجوار السائق، صعدت إلى الصندوق الخلفى، وكانت أول مرة فى حياتى الوظيفية أجلس فى صندوق لورى خلفى، وضعت حقيبتى بين قدماى، درجة الحرارة مرتفعة جداً، صهد يخرج علينا من كل ناحية، وكلما صعد زميل ازدادت الحرارة بحرارة أجسادنا، وكأنى فى محرقة جهنم، وجدت نفسى أردد قصيدة القاضى " حفنى بك ناصف" عندما نفاه الملك مستبعده إلى مديرية قنا وهو يقول:" قالوا شخصت إلى قنا ... قلت مرحبا بقنا وإسنا، قالوا قنا حر قلت ... وهل يرد الحر قنا؟ رقيّتني حساً ومعنى... فلصنعك الشكرُ المثَنّى، قالوا سكنتَ السفح... قلتُ وهل سرُّ الحياة حرارةٌ لولاه ما طيرٌ تغَنّى...كلا ولا زهرٌ تبسم لا ولا غصنٌ تَثَنَّى"، وقلت محاولاً تسرية نفسى لنفسى:"ولكن لم يذكر حفنى بك سيرة اللورى، فكيف يجلس العساكر لساعات طويلة فى هذا الصندوق؟.. ثم تصدر الأوامر لهم فجأة بالنزول منه بالصيحات لفض مظاهرة؟.. إنهم سيكونو كالفارين من جهنم الحمراء..ثم تلومهم منظمات حقوق الإنسان لاستخدامهم العنف مع المتظاهرين!؟..أين كانت هذه المنظمات والعساكر تشوى فى محرقة النازية داخل اللورى؟ وبعد مرورى بتجربة اليوم إن كنت مكان أحدهم؟! كنت سأنزل أدور الضرب فى الضباط و المتظاهرين فى وقت واحد"، لمحت بقايا طعام من خبز ناشف، وقشر برتقال جاف، وحبات فول مدمس قد تحوصلت فى ركن اللورى، أشعلت آخر سيجارة كليوباترا سوبر، وكورت العلبة وألقيتها فى صندوق القمامة الذى أجلس فيه، مازال الزملاء يتجنبون النظر فى وجوه بعضهم البعض، وكأن كل منا يتجنب التورط فى الوقوع فى حرج تحية عابرة لزميل يعرفه، كلنا نعرف بعض، ولكن هول الغربة حولتنا لغرباء حتى عمن كنا نعرفهم، فقد تحولنا لغرباء رواية " ماركيز" ليس فى زمن الكوليرا، ولكن فى زمن الإرهاب، تحرك اللورى، كانت بأرضية الصندوق ثقوب وفتحات متناثرة، فبدأ دخان الشكمان الأسود يتسلل إلى الصندوق الخلفى متجمعاً بداخله، فقذفت بنصف سيجارتى السوبر إلى الطريق، مكتفياً بتدخين جاز الشكمان، كنت أجلس بجوار الباب، حيث أواجه بصدرى التراب الذى يثيره اللورى خلفه، بدأت جيوبى الأنفية تؤلمنى، لم أتمكن من البصق، بلعت مخاطى، ضاق نفسى، وغمت نفسى، تصفحت أحوال المرحلين من حولى، كانت وجوههم عليها غبرة، ترهقها قطرة، لسنا مستبشرين ونحن متجهين إلى نادى الشرطة ليتم توزيعنا على جهات لمواجهة الإرهاب، وبث الأمن، والأمان، لم يكتب لى النجاة إلا بتوقف اللورى، وبدأنا النزول نجر حقائبنا، فلم يعد أحد منا يقوى على حملها.
بوق التشريفة؟!
"أسير على يداى..رأسى إلى أسفل.. قدماى فى الأعلى.. لم أتمكن من السير على قدمى كلما حاولت ذلك.. حتى وجدتنى أسير فجأة على سطح مياه النيل..أعبره من الغرب إلى الشرق..ومن الشرق إلى الغرب..فى حيرة.. يطاردنى عساكر وكلاب"،وقفت مع المنقولين على رصيف مبنى دار مناسبات ملحقة بمسجد، مرفوع عليه لافتة خشبية، فوقها لمبة فلورسنت حقيرة، مكتوبة عليها"نادى ضباط الشرطة" بين نسرين رمزىّ شعار الشرطة، ولكن يبدو أنه بسبب ارتفاع درجة الحرارة، كان أحدهما مغماً عليه، والآخر يشكو من جيوبه الأنفية، ونسى الخطاط كتابة اسم مديرية أمن قنا!؟ ربما كان للإخفاء والتمويه كتعليمات المباحث، المفترض أن النادى على ضفة النيل الغربية، ولكنى لم ألمح النيل، لأن لون مياهه بلون اليابسة، فمن الممكن أن ينخدع من لا يعرف أنه النيل ويسير على سطحه، المبنى حديث، ولكنه ربما بنى بتصميم وتنفيذ قائد قوات الأمن فهو لديه العساكر البنائين، والمحارين، ونجارى المسلح، وكان مبنياً بتبرعات رجال الأعمال المسجلين من أصدقاء الشرطة، كان يقف على بابه أربعة عساكر أقزام بملابس يفترض أنها للتشريفات، يرتدى ثلاثة منهم الأُفارول الكاكى، يضع كل منهم وشاحاً لعلم مصر على كتفه، مائلاً إلى ناحية خصره الأيمن، ويحمل سلاحاً آلياً روسى الصنع بدبشك خشب، بدون خزنة طلقات، يتخذون الوضع جنباً سلاح، ملتفين بكردون من حبل بالى أبيض مبروم على صدورهم، يضعون فى أرجلهم "توزلوك" كاكى بأبزيمين جانبين، هو من بقايا زى الشرطة فى زمن مصر العثمانية، والذى تحول فيما بعد إلى "قلشين" صوف بنى، يُلف بالتدريج على ساق العسكرى، وهو الذى عرفته الشرطة أيام الاحتلال الإنجليزى لمصر والهند، كنا نرتديه فى طوابير الخيالة أيام الكلية، وبعد قيام ثورة يوليو، خلع عسكرى الشرطة"القلشين"، ولكنها جعلته يرتدى"التوزلوك" مرة أخرى، كانوا يضعون فوق رءوسهم خوذ حديدية خضراء ذات سيور جلدية إلا أن حرارة الشمس حرقت السيور الجلد، فلم يعد لها أثر، فما بالنا برءوس العساكر؟! كان رابعهم ممسكاً ببوق نحاسي تتدلى منه شراشيب لم أرها من قبل فى زى أى تشريفة، بل كانت المفاجأة عندما سمعت صوته عند حضور السيد الحكمدار، والذى بدوره يعد حاملاً للأصل التاريخى للحاكم بأمر الدار الفاطمى، قبل أن نصعد كان فى مواجهتنا صورة السيد الرئيس كبيرة موضوعة فى برواز زجاجى على يسار السلم، وأسفلها لوحة مكتوب عليها"مبارك شعبى مصر"، تمكنت من قراءة أثر كلمات مكشوطة"سفر إشعياء19:25"، كنت أظن أنه كان مكتوب فى عهد من من الحكام حلت البركة بمصر!؟ وبجوارها لافتة" إهداء الكنيسة الأرثوذكسية بقنا"، صعدنا كالقطيع ضابط، ضابط، على سلم خارجى درجه لا يسع إلا صاعداً واحداً، وعلى النازل أن ينتظر الصاعد أو العكس، جلسنا فى صالة المفروض أنها تطل على النيل، ولكن نوافذها تطل على الشارع، وجدت لافتة مكتوبة على الباب"غرفة الأزمات"، فاندهشت: "كيف تكون غرفة الأزمات فى نادى الشرطة؟ هل لا توجد أزمات؟ أم أزمات أفراح الضباط؟"، دخلنا إلى الغرفة بها منصة عليها مفرش بلاستيك، وفى الخلفية خريطة مثل خرائط الوسائل التعليمية مكتوب عليها" خريطة محافظة قنا، مراكز وأقسام مديرية أمن قنا سنة 1973م"، وأعلاها الآية القرآنية"أدخلوها بسلام آمنين"الآية46 الحجر، ولكن كل المفسرين لم يذكروا فى عهد من من السادة وزراء الداخلية تحقق ذلك الأمن؟ الغرفة مملوءة بالكراسى خشبية كالتى فى القهاوى، والغرز، مرصوصة فى صفوف دون فوارق بينها، فقام كل منا برفع كرسيه على رأسه لأعلى بيده وبيده الأخرى يحمل حقيبته، وفجأة أصبحت القاعة فى أزمة فهى مقلوبة رأساً على عقب، بدأت الأصوات ترتفع: "وسع..حاسب. ارجع..اطلع..بلا قرف"، تذكرت "قرفان بك" الغائب الحاضر، وضع كل منا مقعده أسفل مقعدته، ووضع حقيبته على حجره، وفور أن استقرت الأوضاع فى غرفة الأزمات كما توضح اللافتة التى تجاهلت ذكر كلمة "إدارة"! فهى غرفة للأزمات فقط، أما إدارتها فربما كان لها غرفة أخرى فى مكان ما على البر الشرقى المقابل للنيل؟ وفجأة اقتحم الغرفة ضابط خمنت من سنه أنه عميد، ولكنه يرتدى ملابس خليط بين المدنية، والعسكرية، فالحذاء خمسة خرم أسود عهدة ميرى، والبنطالون أسود الخاص ببدلة المكتب السوداء الشتوى فى مديريات الوجه البحرى، والقميص كاكى ميرى هو القميص الخاص ببدلة المكتب الكاكى الصيفى فى مديريات الوجه القبلى، بينما رابطة العنق هى الجزء المدنى الوحيد، عريضة بمبالغة مكونة من مجموعة ألوان ميتالك، أو سيراميك، مثل المهرج مقدم فقرات السيرك، بدا من سلوكه أنه مدير العلاقات العامة، فقد قام بتعديل وضع المفرش البلاستيك على الترابيزة، واستعدال فازة الزهور البلاستيكية ووضعها فى المنتصف بعد أن تراجع خطوتين ليلمح مركز الترابيزة، وبدأ يتأكد بنفسه من توصيلات الميكرفون، والسماعات المعلقة على الحائط، وفجأة سمعنا جلبة فى الأسفل، وصوت سارينة موتوسيكل مرور، وبعد توقف السارينة، دوى صوت البوق الذى يمسكه عسكرى التشريفة الرابع، فكان مثل صوت الظراط المرتفع، وبعد انقطاعه، قال السيد العميد البهلوان بصوت متحشرج من كثرة تدخين المعسل السلوم، وهو يكتم نفسه:" انتباه"، معلناً دخول السيد الحكمدار إلى القاعة..