الجمعة 3 مايو 2024

أوراق فيكتور هوجو تجليات من رؤى وأفكار

غلاف الكتاب

ثقافة2-12-2022 | 20:11

محمد الحمامصي

رحلة معرفية وثقافية ممتعة تبحر بنا خلالها بضعة وريقات خلفها وراءه واحد من علامات الإبداع في الرواية والشعر والمسرح الفرنسي بخاصة والعالمي عامة في القرن التاسع عشر، ڤيكتور هوجو، حيث يقدم في أوراقه رؤى وأفكار تكشف ملامح وخصوصيات المخيلة الإبداعية ونظرتها للإنسان والكون وما يعتمل فيها من تجليات.. كيف نغترف الجمال من بين حروف الكلمات عند ڤرچيل وهوراس، كيف يتأتى الإبداع ويتجلى من مجرد اختيار اسم البطلة عند بومارشيه... كيف يطغى شكسبير بكلماته وملكاته الخلاقة على من سواه عبر عصور الإبداع الإنساني، كيف نرى ونؤمن بوجود الله، الإله الخالق، المبدع، الواحد عبر خلقه.. في كلمة واحدة إنه جمال الإبداع وإبداع الجمال.

 

الأوراق التي ترجمها حسن عبد الفضيل وجاءت بعنوان "أوراق من حياتي" تحمل ثراء جمالية يكشف عن روح فيكتور هوجو المترعة بالفن والجمال والحب، تشكل أفكارا متمازجة ومتنوعة حول كل ضروب المواضيع: الأخلاق، التاريخ، السياسة، المشاعر، الحب، النساء.. إلخ، ووفقا للناشر المحرر الذي جمع مؤلفات وأعمال هوجو ما بعد وفاته  أن مجمل الشذرات الواردة في الأوراق تعد شكلا من أشكال الوصاية الفكرية التي تركها هوجو، إجمالا لتجربته وحكمته، وكذا الكلمة الأخيرة في نقده الأدبي وفلسفته الدينية.

 

يرى هوجو في أوراقه الصادرة عن دار مكتبة المتنبي أن معاصريه من الكتاب المولودين مع القرن التاسع عشر يملكون ميزة مدهشة لكونهم لم ينبتوا من رحم أية مدرسة عتيقة، ولا من أية مدرسة وسيطة، ولا من أي قالب. فليس لهم أسلاف، فما عادوا يسيرون لا على هدى دانتي ولا هوميروس ولا حتى شكسبير وإسخيلوس. فشعراء وكتاب القرن التاسع عشر هم أبناء الثورة الفرنسية. يملك هذا البركان فوهتين هما 1789 عام الثورة الفرنسية و1793 عام إعدام الملك لويس السادس عشر، ومن هاتين الفوهتين ينبثق تيارات من الحمم البركانية. ذلك التيار المزدوج، سنصادفه أيضا في الأفكار. فكل الفن المعاصر ينبثق مباشرة وبلا واسطة من هذا المنبت الرائع، فليس هناك شاعر أسبق على القرن التاسع عشر، فليس لدينا إنسان واحد في جذورنا بل نملك الإنسانية. وإذا أبيتم إلا أن تربطوا أدب هذا القرن بأسماء أسبق على عصرنا، ابحثوا عن أولئك الابشر، ليس في الأدب، بل في التاريخ، واذهبوا مباشرة إلى دانتون خطيب الثورة الفرنسية مثلا، لكن هذا الربط سيقودنا إلى ما هو أسمى من الرجال، إنه يأتينا من الأفكار، إنه الثورة نفسها.

 

ويقول هوجو "أحب كل البشر الذين يفكرون، حتى أولئك الذين يفكرون بطريقة تخالف تفكيري أن تفكر، فذلك شيئ مفيد بالفعل، إنه دوما وفي كل الأحوال بمثابة الاجتهاد نحو الله. ربما تكون التباينات ما بين المفكرين مفيدة. من يعرف؟ في الواقع، كلهم يذهبون إلى الهدف نفسه، ولكن بطريقة مغايرة. قد يكون من المستحسن أن تتنوع المسارات حتى ينعم الجنس البشري بالمزيد من الرواد المستشرفين للآفاق. ومن فرط السعي وراء الأفكار فإن الفلاسفة حتى أكثرهم انزواءوأكثرهم استغراقا في تأملاته ينتهي بهم الحال لاستنهاض الحقائق.

 

ويشير هوجو إلى أنه عندما ينتهي رجل الحرب من مسعاه البطولي، يعود إلى داره ليعلق سيفه على مشجبه؛ ولكن الأمور لا تسير هكذا بالنسبة للمفكرين، فالأفكار لا تنشب على المشجب مثل السيوف. فعندما يستريح الفيلسوف، وعندما يستريح الشاعر، تواصل أفكارهما التصارع. تنطلق متحررة كهاذيات ساميات؛ لتحطم كل ما تلاقيه في النفوس الوضيعة وتقلقل العالم. الذكاء والقلب نقطتان عذبتان ومتوازيتان؛ إحدهما لا تتسع دون أن تعظم الأخرى، ولا ترتفع إحدهما دون أن تعلو الثانية معها. في مجال الفن ليس هناك وهج بلا حرارة.

 

ويتساءل هوجو: هل تبغي التيقن بنفسك من سطوة الفن الحضارية.. الفن الحقيقي الخالص، حتى دون المزج بين الهدف الإنساني والاجتماعي؟. ابحث داخل سجون الأشغال الشاقة عن إنسان عليم بمن هو موتسارت، فيرجيل، ورافائيل، إنسان يستظهر هوميروس من الذاكرة، إنسان تتحرك مشاعره عند سماع أوبرا أورفيوس وأوبرا القناصة لفيبر، إنسان يستغرق التأمل في مشاهدة برج أجراس إحدى الكاتدرائيات أو تمثال جان جوجون، ابحث عن ذلك الرجل في كل سجون البلاد المتحضرة، لن تجده، فأن تتأثر بالفن، فهذا معناه أنك غير قادر على ارتكاب جريمة.

 

 

ويقول "لو أردنا أن نرتقي؛ لنتطلع إلى الفن، إلى هذا العلو الذي يوجز كل شيئ، وإلى حيث التمايزات بين الأشياء، مثل التلال تتلاشى من هناك، في الواقع، فلا مضمون هناك ولا شكل هناك، خلاصة القول، انبجاس فكري نافذ حاملا العبارة معه، دفقة واحدة، قطعة برونزية مصهورة في الأتون، تمثال مصبوب بالقالب، ثوران لحظي ومتسام للفكرة متسلحة بالأسلوب، العبارة تخرج من الفكرة، من التأثير: العبارة تأتي على قدر أصالة الفكرة، فتصيغ معها التقاءة غامضة في الأعماق، الفكرة تتجسد، العبارة تصير مثالية، متداخلتين معا بشدة إحداهما في الأخرى حتى أصبح اقترانهما التصاقا، الفكرة إنها الأسلوب؛ الأسلوب إنه الفكرة، حاولوا انتزاع الكلمة من موضعها، ما تنقلونه هو التفكير، العبارة فوق الفكرة، وهو ما يجب أن تكون عليه اقترانهما، بمثابة رداء نوراني لجسد روحاني. العبقرية في هذه الولادة المقدسة التي هي الوحي، تتصور الكلمة في وقت ميلاد الفكرة نفسها، ومن هنا تأتينا تلك المعاني العميقة الملازمة للكلمة؛ ومن هنا ما نطلق عليه كلمة: عبقرية.

 

ويلفت هوجو إلى أن "راسين، بوب، رافائيل، بتراركه، تيرينتيوس، تيتوس، ليفوس، شيشرون، توكوديديس، فيرجيل: يمثلون ما اتفقنا على تسميته الذوق، أما بخصوص هؤلاء التاليين: شكسبير، موليير، كورني، مايكل أنجلو، دانتي، تاسيتوس، بلاوتوس، أرستوفان، ديموستنيس، بينداروس، إشعياء، إسخيلوس، هوميروس: لو أردنا أن نلخص كل هذه الأسماء فلن نجد سوى كلمة واحدة "العبقرية".

 

ويؤكد أن المسرح هو النقطة الفاصلة في الحضارة، وفي الفن، إنه المكان الذي يتقاطع فيه المجتمع الإنساني بآفاته، بأحكامه المسبقة، ضلالاته، وميوله، وغرائزه، وسلطاته، وقوانينه وأخلاقه مع الفكر البشري بخياراته، بتخيلاته، وطموحاته، وميوله، وانجذاباته وإرشاداته. في المسرح، الشاعر والجمهور يتبادلان النظر؛ يتماسان أحيانا، وأحيانا يمتزجان: امتزاجا خصوبا؛ فمن جهة أولى حشد الجمهور، ومن الأخرى الروح. فهناك ذلك الشيئ الذي يدلف من الجمهور إلى داخل الروح، وهناك ذلك الشيئ المنبثق من الروح ليتغلغل في الجمهور، إنه الفن الدرامي في مجمله.

 

كيف يرى هوجو؟.. يقول "شكسبير، إنه الهمجي الثمل؟ نعم، همجي! لأنه ساكن الغابة العذراء؛ نعم ثمل! لأنه الثمل بالمثالي. إنه العملاق الراقد تحت كومة الأغصان المتشابكة الهائلة؛ إنه ذلك الإنسان الممسك بالكأس الذهبية الكبيرة والذي يتوهج في عينيه لهب كل ذلك النور الذي يحتسيه. شكسبير مثل إسخيلوس، أيوب، إشعياء، واحد من هؤلاء المتمتعين بالقدرة الكلية على التفكير وعلى التعبير شعرا، الذي وهم متوائمون تماما على حد التعبير، مع الغموض الكلي، فيحوزون في داخلهم عمق الكون ذاته، والذين مثلهم مثل الكون يفصحون ويكشفون لخارج ذواتهم هذا العمق عبر غزارة الأشكال والصور، ملقين خارجهم الظلمات على هيئة زهور في أوراق الشجر وفي ينابيع الحياة الجارية.

 

ويقر هوجو أن "الكتاب هو إنسان ما لا تتشكك في ذلك" ويوضح "الكتاب هو دوامة من التروس. حاذر من تلك الخطوط السوداء على الصفحة البيضاء؛ إنها مجموعة قوى وطاقة؛ تتحد، تتآلف، تتفكك، يدخل أحدها في الآخر، تنكرّ كالبكرة وراء بعضها، تتعقد في بعضها، تتزاوج، وتدور. ذلك السطر ينخر، ذلك السطر يحكم، ذلك السطر يضغط، ذلك السطر يجذب، ذلك السطر يفتن. الأفكار ما هي إلا دولاب من التروس. ستنجذب لكتاب. لن يخلى سبيلك إلا بعد أن يهبك طريقا لروحك. أحيانا يخرج القراء من الكتاب وقد تغيرت هيئتهم بالكامل، هوميروس والكتاب المقدس يصنعان شيئا من تلك الأعاجيب. أكثر الأرواح زهوا، أرقها، أرهفها، أبسطها، وأعظمها تقع تحت طائلة هذا السحر، شكسبير كان مفتونا بفرانسوا دو بلفورست، لافونتين كان يجوب الآفاق صارخا: هل قرأتم باروخ؟ كورني، الأعظم من لوكانوس، كان مسحورا بلوكانوس، دانتي كان مبهورا بفرجيل، الأقل منه.  

ومن الشذرات التي ضمتها أوراق هوجو:

  • الألم متعدد مثل الإنسان، إننا نعاني قدر وسعنا.
  • السعادة لا تحذرنا من شيئ
  • الثور يعاني، والعربة تتذمر
  • القوة الحقيقية هي القوة التي شعارها: لا للقوة
  • من يخشى أن يكون فقيرا يخشى أن يكون حرا
  • الفراغ هو أثقل أنواع الكد
  • العبقرية: الجانب فوق البشري للإنسان.
  • الحقد معذبا النفوس العظيمة، يفعل الأثر نفسه الذي تفعله الريح التي تعذب أعلام الصواري، تنشرها عالية مرفرفة.
  • الغرائز هي العيون الغامضة للروح
  • الروح لها أحلام مثلما للعصفور أجنحة؛ وهذا يقويها.
  • في داخل سؤال الروح نستبصر السبب، ولكنا لن نبصر كيفيته.
  • لا تضحك مطلقا على من يتألمون، بل تألم أحيانا لمن يضحكون.
  • هل أنا لست أول من يرتجي الرأفة، أنا من يطرح عليكم هذا السؤال؟ انظروا، كل الخطايا التي قد يفعنا الحب لارتباكها، فيما عدا الخطايا المخزية، قد ارتكبتها.
  • المرأة العاية هي السماء، السحب والملابس تصنعان عائقا أمام المتأمل. الجمال والمطلق يبغيان أن تتأملهما بلا أستار  في الحقيقة، إنها النشوة: تنبثق فكرة المطلق من الجمال مثلما تتصاعد فكرة الجمال من المطلق. الجمال ليس أي شيئ آخر بخلاف أنه المطلق المتضمن داخل إطار يحيطه.

 

  • ليس هناك أية نعمة خارجية لها أن تكتمل لو لم ينعشها الجمال الداخلي. جمال الروح ينشر أريجه مثل النور الخفي على جمال الجسد.
Dr.Randa
Dr.Radwa