الخميس 16 مايو 2024

جدتي الأمية والقراءة « ملح القلوب »

12-2-2017 | 18:30

عبد الغني كرم الله - كاتب سوداني

(1)

غريبة هي القراءة!

   هل زان خاطرك، أن هناك حبيبة، يمكنك تركها في عز الظهيرة، عند الباب، وتظل وفية في انتظارك، رقم قساوة الفراق والبعاد، محسنة الظن بغيابك، مهما طال، ساعة، شهر، سنوات، عقود، أي وفاء هذا؟

   في ذات وقفتها عند الباب، في تلكم الظهيرة الحارقة، بلا أكل، أو شرب، أو عرق على جبينها، بدون أنفاس، معجزة حب، لا زفير، أو شهيق، تتوق لك، في ذات مكان فراقك لها، بلا خطوة، ولو الباب على بعد شبر منها. تلك هي معجزة الحكايات في الكتب، تترك الحكاية في سطر معين، وحادثة معينة، وصفحة مرقمة، وتنتظرك، بلا كلل أو ملل، تجلس "بطلة الحكاية"، مثل أم تقعد على حجر، في انتظار ابنها في الروضة، برضى عجيب، وهذا سر القراءة، البطلة الجميلة، في انتظار القارئ السعيد.

   مجرد أن تفتح الكتاب والصفحة، تجدها كما هي، (آآآه حبيبتي، الصادقة)، كأن الزمن توقف بحقها، يا له من وفاء عظيم (من أجلك، كان بمقدورها أن تدخل، أن تكبر وتشيخ، أن تموت، ولكن معجزة الحب، تحدت الاستحالة)، فتخطو نحو الباب، بعد سويعة، أو أسبوع، أو شهر، فترة غيابك بالتمام والكمال، ثم تمضي الحكاية في شعابها، وطرقها، وإيحائها، وبوحها لك، بإيقاع ذاتك، وذاتها، وتمثل حسك لمجاريتها.

   لن تعاتبك، أو تلومك، على التأخير، "أهذه أمومة وحب؟ مزجت معا"، رغم تركك لها عند الباب ونومك الظهيرة كلها، ثم حمامك السريع، والمضي لكرة القدم، وحتى تكاسلك في فتح الصفحة بشرب الشاي، والتأمل في السقف، يا له من حب في بال هذه الفتاة، كل الظهيرة، نثرت سخونتها على جيدها، ولا أثر على عرق، بل ذات عطرها الشفيف، من صندل خلق جلدها، يقاوم عنت الحياة، وضراوة المناخ.

(2)

   حين أرى حبوبتي (جدتي)، الأمية، وهي تتصفح في حجرها، أي كتاب، من كتبي، تركته خلفي، مفتوحا على المنضدة، لبعض شأن، بما لا تشتهي سفني، مفارقة جنتي، (لم خلق الله غريزة العطش؟)، إنها علة غيابي "لحيظات عن العيش في الحلم، في الحكاية"، تقلبه في حجرها، وهي تهز رأسها، عجبا، من صنيعي اليومي، قد جن حفيدها، بلا أدنى شك، ارتويت، ولكن من يروي حيرة جدتي؟

   تزحف حينا، بأرجلها الثلاث، وهي تستعيذ بالله، من الشيطان الرجيم، نحو رفوف مكتبتي الصغيرة، مرصوصة فوق ألواح خشبية، أفقية، سمرتها على النافذة التي تطل على الشارع، قفز منها لص قبيل أشهر، فسدتها أمي، رب ضارة نافعة.

    تسند جدتي، رجلها الخشبية، عكازتها، وتحمل أي كتاب، تتصفحه مقلوبا، أو معدلا، لا يهم، أصابعها المجعدة كموج أسمر، تسقي الكتاب بزيت لا يفارق كفها اللين، أو شعرها القطني، يلمع وجهها، ويرقش جسمها، في أي وقت، بضوء الشباك، والشمس وفي الليل على ضوء الفانوس والقمر، تتصفحه كيفما اتفق، وتتركه في أي صفحة شاءت، وهي تهمهم بأن بداخله جنا، أو سحرا، لا محال، تلبست حفيدها المسكين، تهز الكتاب بقوة، كي يهوي الجن، أحس بأن أبطال الحكاية سكروا من مرجحتها، وتداخلت الفصول، وصارت خاتمة القصة في بدئها، لا استحالة، في جوف الحكايات.

 

   أعرف صفحتي التي توقفت عندها، لاحقا، ببقع الزيت، وهي تتداعى في الصفحة التي توقفت عندها، شمس من زيت، في سماء الصفحة، رب ضارة نافعة.

تقطب جبينها، تستعيذ بالمعوذتين، الكتاب لا يزال في حجرها، تحت مسقط زيتها، ترى حروفا ملتوية، تتخذ أشكالا سريالية غريبة، أ، ش، ظ، ن، ي، a، b، w، تلتصق هذه الحروف لتكون كلمات، وسطورا، هي أكثر غرابة أيضا، في عيونها المورمة، كأن أحدا لطمها. تمرر نظرها، المتعب، وهي تقرب الكتاب كأنها تريد أن ترى الجن، أو تشمهم، فترى هذه الخربشة، أشكالا عجيبة، من اللغة العربية، وخطها، لا تثير في ذهنها أي شيء، سوى تصور (سبحان من يضع سره في أضعف خلقه)، تمط شفتيها، وهي تتأمل "ميرامار" بالمقلوب، وهي تراني طوال اليوم، أكاد أحشر رأسي بين ضفتي الكتاب، ترثى لحالي، لا شك بي مس جنون، لسان حالها يتساءل (يا إلهي، ما هذه الخربشة والرسوم، ماذا فيها؟، حتى ينسى إفطاره، وأصم ، حتى صوت الرعد لا يسمعه).

    تمد لي الكتاب لا مبالية، وجهها نافر مني، متجه عكسي، غير راضية لجنون حفيدها هذا، أمسك الكتاب، أتكئ بعد ثني المخدة، أبحث عن صفحتي، صفحة 37، الحكاية تنتظرني عندها، بوفاء عجيب، ما أجمل ذلك، من هو الذي كان يبحث عن آلة التحكم في الزمن؟ أجد بقعة زيت ضخمة، تشربت بها ثلاث صفحات، أغضب، تستعصى على القراءة، فقد تداخلت سطور صفحتي مع الصفحة التالية عند بقعة الزيت، دائرة كأشعة إكس، بعناد أفرز سطري، من السطر الذي على ظهره.

(3)

   ما أوفى صنيعه، أجد البطل ينتظرني، في ذات المكان الذي تركته فيه، ما أوفى الحكايات، رغم أني تركته قرب الباب، يود طرقه، في عز الظهيرة، ولكن لا أثر لعرق على جبينه، ما أعجب ذلك، هل غاب مثلي؟ ولكن أين غاب؟ كما يغيب وجهي عن المرآة حين أبعد عنها، ويظهر حين أعود؟ أبطلي كوجوه المرآة؟ كوجهي؟ أهو أنا إذن، يظهر معي "لا حدود لي، أختبئ في كل شيء"؟ ما أعجب سكر القراءة، حتى بدأت القراءة، فطرق الباب، ودخل، أنتظرني بأدب جم، رغم تأخري نصف ساعة، بلا إعياء أو عتاب.

   تناديني أمي من وراء الحجرات (الفطور جاااهز)، لا أسمعها، ترسل أختي الصغيرة، تتكاسل "ما بسمع؟ صوتك ده يصحي أهل الكهف"، تأتي نحوي ورأسها منحن على كتفها، كأنها تحمل قفة صخور لا مرئية، من ثقل غضبها، تصرخ قربي، لا أسمعها، تهزني هزا بيدها، أستيقظ بغتة، من أحلام القراءة، أخرج من قلب الحكاية، إلى سرير في الصالون الطيني الكبير، ومخدة مثنية، أضع رأسي السعيد عليها، حين أطير ببراق القراءة، وأعرج لجنتي، دون أن أفارق مرقدي (قووووووم الفطور جاااهز).

   تصرخ أختي ساخرة، "خليهم اليفطورك معاهم الكنتم معاهم ديل)، هي تحب البيض المقلي، وتتمنى أن تنفرد به بنفسها، ولكن أمي، وجدتي، معداتهم، في بطني، عضة جوعي تمسهم، حتى أشبع، وأكرع كوبا باردا من الزير الفخاري، فتبتل عروق جدتي، قبل أمي، هل تدخل أمي بين شخوص الرواية؟ تحرسني هناك منهم؟ كما كانت تقف عند رأسي وأنا نائم، تطرد عني الكوابيس؟ الله أعلم، بشأن الأم، رغم أنها أمية، ولكن أراها كثيرا في طوايا النص، وبين الشخوص، وفي قلب الحكاية، أينما أولي، فثمة حس وعطر وحنان من أمي، يفوح من الحكايات والكتب.

    ما أعجب ذلك، ماذا تخفي الحروف، بأشكالها التي تختلف من أمة، وأخرى؟ وماذا تعني لجدتي الأمية، سوى أشكال، ورسوم، مثل خربشة الأطفال، بلا معنى (فرويد وصحبه، والمتصوفة، قالوا إن خربشة الأطفال لغة، لها معنى ومغزى وهدف، أي ورطة أخرى هذه؟ أن نفهم شخبطتهم على الحائط والرمل وملابسهم)، أنا لم أكن أصم، لكن صوت الشخوص في الرواية كان أقوى، أعلى من صوت جدتي، حقيقة لا مجاز، كيف جرى ذلك؟ صوت من لا صوت؟ يتسلل من حروف ساكنة، (أماكرة هي، تدعي الوداعة على سطور الكتاب)، مثل حيوان يدعي التماوت، ثم يفر نشيطا من صائده، أو يفترسه؟ لقد افترستني الكتابة، في بطنها، مثل حوت يونس، سويعات وأنا في ظلمات ثلاث، بل أنوار القراءة الثلاثة، نور الحكاية، ونور خيالي، ونور الكاتب، نور على نور، على نور، أهناك أزهى من هذا؟ ألا يحمد الصمم؟ كما قال جدنا المتنبي، مع أصوات خواطرك، وهمس الحكاية، وسر الإبداع في قلب الكاتب.

    اللغة، ماكرة، تتماوت، وتدعي أنها أضعف الخلق، وأفتكهم، معا، كم أعجب للغة الهندية، والسيرلانكية، حين أرى أحد الهنود وهو يقرأ بإمعان في أحد المقاهي، جرائد بلادهم، حروف صامتة، سوداء، تتلوى، وتنثني، كما أراد لها الإرث الهندي، وعبقريته، وفنه، وتفرده، وسكب كل خمره فيها، وأنا أراها (كجدتي)، ديدانا سودا، تتلوى، وتنثني، وتنام بشكل أفقي على سرير الصفحة، أتابع أساريره، عسى أن أفهم ما تبوح به له السطور، يبتسم، يسرح، يحزن، ماذا جرى فيك يابلاد الهند؟!

غريبة فعلا.. هي القراءة!

    مجرد حروف سوداء تتلاصق مع بعضها، فتصرخ، وتغرد، وترعد، دون أن تفتح فمها، «سبحان الله»، تقع العين على هذه الصفحات. ثم يصوغ العقل عوالم لا حد لها، أثارتها هذه الحروف، النائمة، كالقبور، على سرير الصفحة، بهدوء تام. (أهناك حياة في القبور، إذن)، في صمتها، كالحروف. هي الأخرى، تنام على سرير الأرض الحنون؟ القراءة عمل خاص، ذاتي، يستغرق البال، ويصدق الخيال والذكرى معا وفي وقت واحد، لا شأن للقراءة بالعوالم الخارجية، هي شأن ذاتي، كالتعري، كالخواطر، شاشة الخواطر تعرض بما يمور في السطور، لا يسمعها سواك، هي إكسير بين يديك، قد تنسب لليالي العباسية، وأساطير اليونان، قد تبرد أطرافك في عز الصيف، وتتجول في مدينة اندثرت، سوى في كتاب (عجائب الأمصار، وتحفة النظار) لابن بطوطة!

    كم لهذه الحروف من ذاكرة حديدية، حكايات كانتربري، كتاب الإنجيل، قصائد أبي العتاهية، تحفظها عن ظهر قلب، تحفظها في صمتها الأبدي، في تلكم الحروف الجميلة الأشكال (أ، ب، يF ، V, ي، س، ش).

    مالك بتبكي! (هكذا تسألني أمي، بفزع، وأنا صبي صغير، أقرأ في جين اير، في صالوننا الطيني) أسير مع جين اير، وسط المزرعة، مكسورة القلب والخاطر، أراقب دخانا كثيفا من قلبها يلتحم بدخان المدخنة في قصر سيدها، وأنا ابن قرية، على النيل الأزرق، انتمت لقلب بريطانيا العجوز، من خلال رواية حزينة، لشارلوت برونتي، هل أحكي لأمي سبب بكائي، وبلل صدري وقميصي الدبلان؟ أتفهمني؟ لو قلت لها إني أحببت جين اير، سيغمى عليها، لأنها خطبتني لبتول بنت خالتي، ولأنني عشت في رحمها تسعة أشهر، وفي رحم حبها ليوم الناس هذا، أخذت الكتاب مني، برفق وطوته تحت مخدتي، وكأنها تعرف جين اير أكثر مني، أصل بلواي، ما أوسع قلب الأم، من الاستحالة أن نخرج من سعة رحمها، رغم أنف القابلة "الداية"!

  (أجي، بتضحك براك، جنيت، تصيح نادية بنت أخي وأنا أقرأ دون كيشوت، في صالون معلقة عليه صورة أبي، وآية الكرسي، بامتداد ناصر)، شارلوت وسرفانتس، دخلوا قريتي، فرسان إبداع، وزهرة في "ميرامار"، تجولت في ربوع الحي!

    أي ثقة هذه؟ شخص يجثو عند ركبتيك، كي تشاركه همه، وهزائمه، وأفراحه الذاتية، تهبك القراءة، نبلها، بنبل غريب، تثق فيك، كأن قلبها الأخضر، ينبض بين ضلوعك، بوح شخصياتها لك، بسريرتهم، خطاياهم، كأنك شاعر، يؤتمن، أو رسول، (ومن قال غير ذلكم؟ ولكن طففت روحك الإلهية، بكبد الحياة)، تسر لك الحكاية، بلا خوف، وثقة عمياء، سريرتها، تشعرك بالأمن (مع نفسك، محل تبجيل عندها)، أيها القارئ السعيد، موضع ثقة عظيمة، لشخوص الرواية، أو القصة، فيزيد إصغاؤك، لهم، ولك، معا، الإصغاء فعل إبداعي مشترك، بطل يحكي لك سيرته، وأساريره، فيلتحم نور حدسك، مع ضياء بوحه، فتشتعل الأخوة الإنسانية، بين شخص حقيقي، وآخر متوهم، أجمل ما يكون، قد يتشابه الأمر عليك "أهو؟ أم أنت؟ من أين نبعت هذه الخواطر؟ بين السطور هي؟ أم بين الضلوع، "ضلوعك أنت"، فتحس بقاسم السريرة بينكما، رغم تناقض "السيرة"، المتوهمة، قناعنا الأبدي.

   تدرك أن بطل الحكاية، "كسب صديقا عفيفا، شفيفا، صادق الوعد"، هو أنت لن تخذله، أبدا، وقد اعترف لك، بكل مثالبه، واثق منك، فتؤمن (بك)، موطن نبل، وتفرد الحميمية عرشها على نبض الوجود، بأسره، وتلكم سر القراءة، وخمرها، إخاء بين شخوص وقارئ، حد التعري، والبوح، والتلاحم.

(4)

    القراءة ملح القلوب، عرفت، أو لم تعرف، تلاحم السرائر، وهي النبض الأصدق فينا، من أكاذيب السيرة.

   معجزة؟ أم هي حكاية خرجت كيوسف من جب الحكاية للواقع؟ صارت جدتي الأمية، مولعة بالحكايات، تفتح الكتاب وترى كل شيء، ترى الحكاية دون أن تقرأها، السطور أحيلت لفيلم عظيم، وأضحت الورقة شاشة، تعرض الحكاية بالصوت والصورة والشم، يا إلهي، كل يوم تفتح حبوبتي المكتبة، وتجلس ساعات طويلة، تضحك، وتبكي، وتصرخ، مع أبطال الحكاية، والكتاب مفتوح على حجرها، وتحكي لنا القصة دون أن تنسى حرفا أو حدثا.