لم تتوقع «نحمده سعيد عبد الرازق» الشهيرة بـ«أم محمود» أن تدفع بها الحياة إلى عالم يهيمن عليه الرجال وأن تعمل في أصعب المهن الشاقة المرهقة للذهن، ولم تتخيل ولو للحظة أن تتعرض في كل ثانية إلى لتحرش لفظي ومضايقات وتعنت لمجرد أنها امرأة مطلقة اقتحمت مهنة الذكور ولجأت للعمل «سائقة ميكروباص» من أجل الإنفاق على أطفالها لتحميهم من دوامة الحياة والحفاظ عليهم من الانجراف إلى فوهة البركان الضائعة التي التهمت العديد من أبناء جيلهم الذين عصفت بهم الخلافات والشتات الأسري.
لم ترسم تلك المرأة الأربعينية لنفسها ذلك المستقبل أو تختار تلك البيئة المليئة بالتسلط والظلم أو أن تطير بأحلامها لتعيش تلك المغامرة أو تصبح سيدة حديدية صنعت لنفسها أظافر حادة لتدفع عن نفسها الضرر، لم تتخيل أن المطلقة تصبح سبة أو مطمع لأصحاب النفوس الدنيئة والنزوات الحقيرة، حتى أصبحت محاصرة بين ظلم المجتمع أو ونزوات مغيبيه.
لعنة القيادة
«في شرع مين ويرضي مين إني ما شوفش عيالي لحد النهاردة.. أنا بنام في الميكروباص في الشارع علشان لواء شرطة منعني من دخول بيتي وأشوف عيالي، أنا لو أعرف أن لقب مطلقة هيجبلي الإهانة دي كنت استحملت إهانة جوزي وقهره ليا» هكذا بدأت أم محمود حديثها لـ«الهلال اليوم»، مضيفة أنها كانت متزوجة وهي الآن أم لـ 4 أبناء في أعمار متفاوتة، ولكن النصيب جعلها تحمل صفة "مطلقة" بعد انفصالها عن زوجها لظروف قهرية أجبرتها علي شراء ما تبقي من كرامة الإنسان وعزة النفس، لكن المجتمع لم يرحمها ولم يتقبل وجودها بلقب "مطلقة".
الطلاق.. أزمة وضعتها في سوق الرجال
تزوجت «نحمده سعيد» الحاصلة علي دبلوم تجارة صاحبة الـ 44 عامًا، وأصبحت أم لـ 4 ذكور أكبرهم محمود 22 عامًا يعمل "نقّاشًا" لتشتهر بين الجميع بـ "أم محمود"، وقعت في العديد من المشاكل الأسرية التي سعت دومًا لتجنبها لتستمر الحياة إلى أن وصلت إلى طريق مسدود فقررت الانفصال".
"مُطلقة" لقب بات عائقا بينها وبين المجتمع ونظر إليها الجميع نظرة المذنب الذي يجب التخلص منه، لكنها قررت البقاء والاستمرار ومواجهة الضغوط من أجل أبنائها وخرجت إلى الشارع لتجني قوتها من عرق جبينها دون مساندة أو تعاطف من أحد، لتعمل علي سيارة أجرة "سائقة ميكروباص".
خط السير
تقول:" أنا ظروفي كانت جيدة بس فجأة تغيرت والدنيا اتلخبطت معايا بس حاولت الوقوف علي رجلي عشان عيالي.. ومش هبهدلهم تاني.. ومن هنا بدأت رحلة سائقة الميكروباص وعملت بموقف العاشر وعرفت باسم " أم محمود" وعملت بخط سير من مدينة الضباط إلي موقف العاشر، لكن أحد اللواءات أجبرني على العمل في كل باكية، بدلاً من تثبيت خط سير واحد، الأمر الذي يعد بالعمل الشاق".
وتابعت:" أنها تعمل يوميًا من 6 صباحًا وحتى 8 مساءً وأحيانا تصل ساعات العمل إلى 12 مساءً، وذلك عندما تضطرها الظروف للعمل ليلاً من أجل جني أموال زيادة أكثر تعينها على ظروف المعيشة.
تحرش ومضايقات
تتعرض "أم محمود" في الدقيقة الواحدة لمضايقات سائقي الميكروباص والباعة الجائلين لكونها امرأة تكافح من أجل الحفاظ علي أبنائها، حيث تقتصر نظرة السائقين والباعة الجائلين لها كأنها امرأة سيئة السمعة كونها فقط امرأة "مطلقة".
وخلال الساعات التي قضتها "الهلال اليوم" مع "أم محمود" داخل الموقف ترددت علي مسامعنا تحرشات كثيرة تصل إلى الألفاظ الخادشة للحياء، فضلا عن نظرات كانت أكثر قسوة من متاعب الحياة.
التضحية من أجل الأبناء
ولكن المرأة الأربعينية ما زالت مرابطة في سوق العمل وتواجه وتصر علي البقاء من أجل أبنائها، فهناك مهمة واحدة فقط وضعتها هذه السيدة نصب أعينها ولم تري سواها وهي "تربية أولادها".
"أم محمود" ترفض نظرة المجتمع لها وعقابها على لقب "مُطلقة"، وقالت أنها تشعر بنفور المجتمع منها لمجرد أنها انفصلت عن زوجها، فضلا عن تعنت مسئول الأمن بمدينة الضباط لها واعتراضها لإجبارها على تغيير خط سير الميكروباص الذي تعمل عليه، حتى وصل الأمر لمنعها من دخول المدينة علي الرغم من وجود سائقين آخرين يعملون داخل المدينة ولديهم مخالفات قانونية وأخلاقية شهدها الجميع، على حد قولها.
وأكدت أنها يريد أن يخرجها من المدينة لأنها لا تليق اجتماعيا بالمعيشة بينهم كونها مطلقة، متابعة:" ذنبي إيه إني مطلقة وإني عاوزة أشتغل وأربي عيالي من الحلال ومن عمل شريف".
"أم محمود" تقول بنبرة يملأها الحزن القهر:" أنا نفسي حد يسمعني.. أنا مش محتاجه جنيه من حد أنا هشتغل وهحارب علشان عيالي وهربيهم بالحلال مهما حصل بس حرام اتعاقب بسبب كلمة "مٌطلقة" حرام تبصولي بصه وحشه حرام تحرموني من عيالي مش عارفه ادخل بيتي وبنام في الميكروباص في الشارع من يوم الجمعة".