بوشعيب عطران - قاص مغربي
فتحت عيني مرغما على ضوء شاحب يرمش بضعف في غرفتي، وصوت هامس يتردد في فضائها. قمت فزعا من سريري أتتبع مصدره. باغتتني رجفة عندما أدركت أنه من مرآة علقتها أمس في البهو. وقفت أمامها دائخا مسحورا، كلما اقتربت منها ازداد لمعان الضوء، بحذر لمستها، انفتحت بغتة فجذبتني إليها. شعرت بخفة وأنا أرتفع عاليا بداخلها كأن الجاذبية تخلت عني.
اختفى الصوت، انتشر صمت مريب جثم على المكان، كنت حينها أحلق في فضائها مشدوها وراء سحابة رمادية، نطفو معا في الهواء، كلما حاذيتها انفلتت وتضخمت ككرة ثلج مكتسبة ألوانا أخرى بالتدريج. أغوتني لعبتها، عقدت العزم على لمسها، أخيرا تحقق ذلك، فتفتت صورا وأحداثا عشتها في الماضي، موزعة بالترتيب حسب سنوات عمري.
قفزت جذلا فوق خراباتها حتى انمحت تماما، عندها بدا الضوء المرتجف يتضاءل شيئا فشيئا حتى ساد ظلام دامس، فقدت توازني تدحرجت مرغما إلى الأسفل، لأسقط بين أيد كثيرة. لم أشعر بنفسي إلا وأنا مقيد اليدين إلى الخلف، ووجوه كثيرة تحيط بي لا أتبين ملامحها، قادوني إلى مكان لم تبصره عيني قط، هناك تركوني أمام هالة من النور وانصرفوا مسرعين.
نظرت متوسلا أردت الكلام، ضاع مني صوتي فانكمشت في مكاني. توقف نظري على هالة النور، لأحدق مندهشا في سواد صغير يتحرك فوقها دون توقف.. لا أدري كم مر من الوقت وأنا على هذا الحال، حتى أيقظني صوت عميق يأتي من غياهب المجهول:
ـ أنت سجين المرآة وأنا صاحبتها، فأنت محجوز بداخلي كالآخرين.
انتابني الهلع. تردد كلامها بداخلي ضاجا:
ـ كل إنسان يبحث عن مرآته على وجه الأرض، من أجل أن يتوحد معها وأن يجد نفسه فيها.. وهذا ما كان معي.. لكن وجودي معكوس بداخلها.. لذا آثرت أن أسجن كل من نظر فيها، بعد أن يتخلص من ذاكرة ماضيه فيقيم بيننا كالأموات. أحسست بالخوف غير مصدق لما يجري، تركت نفسي في بحر اللاشعور والخدر فانتصبت أمامها.. بدهشة فك وثاقي، لمحت الضوء الشاحب المدوخ يبتعد عني، يتشكل فاتنة حسناء، تقدمت أكثر نازعا كل مخاوفي، مددت يدي تراجعت القهقرى، اندفعت بقوة.. كنت أتحسس شيئا باردا لا حياة فيه، حاولت أن أزيحه بضربات من طريقي، سرعان ما تحول إلى عشرات القطع.. قطع صغيرة أكثر من كونها جسدا.