الأربعاء 15 مايو 2024

ما بعد الربيع العربي .. عودة التحالف القديم بين الحرس الرجعي والإسلاميين

12-2-2017 | 19:10

د. رفعت السيد علي - كاتب ومترجم مصري

  حين انتشر خبر نشوب ثورة شعبية في تونس، لم يكن هناك تعاطف مع حاكم تونس القوي زين العابدين بن علي، الذي ظل على رأس الدولة لما يزيد على عقدين، ولا  مع عائلته التي نهبت ثروات تونس بلا أدنى قدر من  الرحمة، وتدفقت حشود من التونسيين إلى الشوارع، وكان الجميع يدرك سبب خروجهم.

    وفي كتابه "ما بعد الربيع العربي" (*) يرصد الكاتب الأمريكي جون برادلي أنه في الوقت الذي كان فيه أغلب المراسلين الإعلاميين الغربيين يرون أن تلك الاضطرابات في الشرق الأوسط خطوة على الطريق الصحيح إلى تحقيق الديمقراطية، كانت الحقيقة المرة عكس ذلك تماما، فقد كان هناك الإسلاميون المتربصون التواقون لإقامة الدولة الإسلامية وفرض تطبيق الشريعة الإسلامية بها عوضا عن القانون المدني، وسوف يخرجون بالفعل فائزين مرحليا من بين حطام الفوضى التي كانت سائدة.

   وما حدث في تونس، مركز ثورات الربيع العربي وبؤرة انتشارها، تكرر وامتد وانتشر في دول أخرى عبر أنحاء الشرق الأوسط. كانت تونس محكومة بأكثر النظم العربية علمانية كما كانت من أكثر الدول الإسلامية  تقدما وتحررا اجتماعيا في الشرق الأوسط. وبوضعها ذاك، كانت تعد قبل اشتعال الثورة الحصن الأخير ضد الشكل الوهابي الإسلامي الممول سعوديا من أشكال الحكم في الدول الإسلامية العربية، والذي انتشر منذ طفرة أسعار النفط في سبعينيات القرن العشرين في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي.

   كانت الثورة التونسية تلقائية لم تحمل في بدايتها أى ملمح لمكون فكري أو عقائدي. لعب فيها الملتحون الإسلاميون المتشددون دورا محدودا، هذا إن كانوا قد لعبوا أى دور على الإطلاق. لم يكن الإسلاميون القوة الدافعة للثورة ولا قلبها النابض. وسوف نتبين أن ذلك الوضع تكرر في الثورات العربية الأخرى، باستثناء ليبيا، أو على الأقل في مراحلها الأولى. في تونس، كان هناك سبب جوهري في ألا يكون الإسلاميون في طليعة الثورة : فعلى مدى عقود كان النظام القائم يسجنهم أو ينفيهم إلى خارج البلاد. إن اختطاف الإسلاميين للثورة لا يعد المرة الأولى في التاريخ التي يحدث فيها أن ينحو الفوران الثوري مثل ذلك المنحى الكارثي على غير ما كان يراد له ومنه. غالبا ما كان الثوار الذين ضحوا بأنفسهم قبل ذلك في ثورات تاريخية سابقة يرتعبون حين يرون آمالهم تطيح وتتحطم في الوقت الذي يبزغ فيه نظام جديد لا يقل سوءا عن النظام الذي ثاروا عليه وأسقطوه ليصبح واقعا مرا جديدا. فالثورة الفرنسية ذاتها أدت إلى عهد من الرعب والإرهاب، كما أفضت الثورة الروسية إلى كابوس حكم ستالين الحديدي، كما انتهت الثورة الإيرانية إلى الحكم الاستبدادى للملالي. والمثال الأخير أشدها قسوة وأبلغها دلالة. فالثورة الإيرانية التي اشتعلت عام 1979 هي الثورة الشعبية الحقيقية الوحيدة التي تحمل كل مواصفات الثورة الحقة (على عكس الانقلابات العسكرية) في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر. كان الإسلاميون التونسيون أقلية بين جماهير غفيرة ثائرة على النظام، وكانوا في الأطوار البدائية من حملتهم على النظام حين هبت الثورة الشعبية في ديسمبر 2010. هكذا أيضا كان الملالي الإيرانيون في المراحل المبكرة للثورة الإيرانية، غير أنهم استغلوا حالة الفوضى العامة التي فشت بعد اندلاع الثورة واستولوا على السلطة.

   لو كان هذا هو ما تكرر حدوثه في تونس، فما الذي كانت تدخره الأقدار لباقي أنحاء الشرق الأوسط؟ كان فشل التحول للديمقراطية في أغلب الدول العربية التقدمية بمثابة نبوءة سيئة لاحتمال تحققها بنجاح في دول عربية أخرى. فمن المغرب لليمن، ومن المملكة العربية السعودية إلى مصر، كانت العلمانية والليبرالية بمثابة لعنة ونقمة. كان نمط الإسلام الوهابي هو النمط الملهم وكانت له مواطئ أقدام راسخة في كثير من الدول العربية. كانت سوريا في ظاهرها الدولة العربية العلمانية الوحيدة باستثناء تونس، وتحكمها أقلية علوية، وهناك أيضا في سوريا، كان الأصوليون السنة من الإخوان المسلمين جاهزين للانقضاض على أية ثورة تنشب، وقد حدث بالفعل.

    اعتبرت الثورتان التونسية والمصرية نمطا ونموذجا لباقي الدول العربية. ورغم ذلك، فإن الثورتين يجب أن يحكم عليهما لا بنواياهما ولكن بنتائجهما. قصة تونس ومصر ما بعد الثورة، تعد تعليمية بقدر كبير وإلى أبعد مدى. وسرعان ما انتقل الاهتمام العالمي إلى المسرح التالي من دراما مدهشة سريعة التحول. فتونس انكفأت من جديد على شكل من أشكال الغموض والاحتجاب. كان صعود الإسلام الراديكالي بمصر قد تم إبرازه وتلميعه، بل تسويقه أيضا، في ضوء التغطية الإعلامية الشحيحة التي نالتها الدولة. على أي حال، كان هناك ثابت واحد من الثوابت، وهو عبارة "الربيع العربي"  التي راهنت عليها كل وسائل الإعلام كما لو كنا نشهد قفزة واضحة بلا خفاء إلى الأمام وإلى الأفضل لكل الدول العربية. وكما قيل، كما لو كانت ثقافات كل دول الربيع العربي قد توحدت جميعا أخيرا لتمضي قدما للأمام باسم تحقيق الديمقراطية الحقة.

    ولم يكن هذا إلا خداعا للذات لا يقل خداعا عن تمجيد الغرب لنظرية "فرانسيس فوكوياما" عن نهاية التاريخ في بداية تسعينيات القرن العشرين بعد سقوط وانهيار سور برلين. فحتى الآن يدعي الساسة الغربيون وكذلك المعلقون أن الشعوب العربية المقهورة تثور وتنهض ضد الطغيان لتوقها وشغفها الشديد لتحقيق القيم الكلاسيكية الغربية الليبرالية، بما تحتويه من قبول الآخر وإقامة حكومة تمثل الشعب تمثيلا حقيقيا. تلك القيم الإنسانية العامة، التي يصر ساسة الغرب وإعلاميوه على أن ثورات الربيع العربي قامت لتحقيقها.

    خلقت الشعارات المدونة على لافتات المتظاهرين أسبابا لدى الغرب وفتحت أبوابا للأمل، وأوحى لهم بذلك ما فعله بعض المتغربين من المتظاهرين الذين صاغوا مطالبهم على اللافتات باللغة الإنجليزية. كانت فرق النقل المتلفز المباشر لشبكات الإعلام الغربية تسعى بالطبع لعقد اللقاءات والحوارات مع المتظاهرين الذين يجيدون الإنجليزية، كثير من أولئك المتظاهرين والمحتجين أجروا حوارات مع تلك القنوات الغربية دون الحاجة لمترجم فلم تنقل إلا وجهات نظر من يجيدون الإنجليزية أو الفرنسية وبنوا تحليلاتهم عليها. أثبتت اللافتات والشعارات، والمطالب التي ترفعها الصفوة المتحدثة باللغة الانجليزية، على الرغم من ذلك، ضعف التمثيل لصوت الشعب والجماهير الغفيرة. فبالنسبة لحشود الجماهير العربية لم يكن همها الأكبر عدم وجود حريات سياسية، بل عدم وجود وظائف وفرص عمل. كان التوق للديمقراطية والتطلع إليها لا يلقى إلا صدى ضعيفا حتى في تونس ومصر، وهما الدولتان الوحيدتان اللتان خلعتا الحاكم الدكتاتور دون مساعدة من تدخل غربي عسكري.

   حكم الحبيب بورقيبة تونس بقبضة حديدية من عام 1956 حتى 1987، وكان – وما يزال – محبوبا بعمق من شعب تونس، على الرغم من الحكم الفردي الذي أدار به البلاد. وفي حين تم نهب وسرقة مساكن بن علي أثناء الثورة، لم يمس أحد النصب التذكاري الذي أقيم لبورقيبة في مسقط رأسه بمدينة منستير على الرغم من أن تلك المدينة شهدت كثيرا من أعمال السلب والنهب والتدمير. بعد ذلك بعدة أشهر، كان التونسيون يحتفلون رسميا بالعيد القومي لتونس بفخار وهو ما يعد احتفاء وتكريما لبورقيبة، كما كانوا سعداء بقدرتهم على ترديد نشيد يمجده علنا في الشوارع ويمتدحه فلم يكن يحتفل بتلك المناسبة إلا على خشبات المسارح في عهد بن على من باب التقييد (كان بن علي لا يحتمل إلا وجود نجم واحد في سماء تونس وهو نجمه بالطبع). وحين احتشد الإسلاميون الذين عوقبوا في عهد بورقيبة في مسقط رأسه وتحولت الأحداث إلى فوضى، قاموا بتهدئة الحشود المعادية وذلك بكيل المديح لبورقيبة كأول زعيم يحقق لتونس استقلالها. وبعد فرار بن علي، وفي محاولة لإضعاف حماس شباب الثوار في الشوارع احتجاجا على وجود بقايا رموز النظام البائد في السلطة تم جر الباجي قائد السبسي ذي الثمانين عاما خارج المنتجع الذي كان يقيم به وعينوه رئيسا للسلطة الانتقالية. وقد يدور بخلد أحد أن الثوار قد يعادون ويعارضون ويرفضون شخصية كالسبسي بصفته أحد أعضاء الحرس القديم الذي يمثل النظام البائد، ولكن في واقع الأمر تأتي الإجابة بنفي ذلك الاعتقاد، بل أتى بنتائج مخالفة للتوقع المنطقي: فقد ترك أغلب الثوار الشوارع مطمئنين لوجود قائد السبسي، وهو محارب قديم ينتمي لعهد بورقيبة. وبحكم العادة، كسب ثقة كل فرد على وجه التقريب على قدر ما يمكن أن يتاح لأي أحد في ظروف مماثلة.

    حتى انقلاب جمال عبد الناصر في مصر عام 1952 والذي دفع به إلى قمة السلطة بعد الإطاحة بملك مصر فاروق الأول المدعوم من البريطانيين قمع حرية التعبير وأدان بالقانون أي معارضة سياسية للنظام. ولم يسمح أبدا بإجراء انتخابات حرة خلال عقدين من الزمن هي كل فترة حكمه. ورغم ذلك كانت الجماهير المحتشدة في الشوارع أثناء ثورة 2011  ترفع صوره عاليا، ويبقى أن نقر أنه من الصعوبة بمكان أن تجد مصريا عاديا يمكنه أن يقدم على التلفظ بلفظ مسيء لجمال عبد الناصر. وأظهر استطلاع عام للرأي أجري بعد الثورة المصرية الأخيرة وحتى بين الثوار أنفسهم في الشوارع أن 19 بالمائة فقط ممن استجابوا للاستطلاع أن الرغبة في تحقيق الديمقراطية هى السبب في الإطاحة بمبارك. مقابل 65 بالمائة أفادوا أن السبب هو الحالة الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها الجماهير.

   فلماذا ظل (بورقيبة وعبد الناصر) مبجلين ويلقيان كل هذا الاحترام حتى بعد موتهما بعقود؟

   كلاهما لم يكن فاسدا. وكلاهما احترم كرامة شعبه. وخلال عهديهما لم يكن يصعب على أى مواطن الحصول على الخبز وهو الحد الأدنى من الغذاء. أما ميلهما الدكتاتوري فلم يكن من الممكن إدراجه في نقاش. وبدت معاداتهما لتدخل السياسات الأجنبية في بلديهما أقل أهمية أو في مرتبة تالية : فقد كان ناصر معاديا بصلابة للإمبريالية العالمية في حين رفض بورقيبة أفكار ناصر عن القومية العربية وقوى أواصر علاقاته بالغرب.

   لذلك فإن فكرة أن الثورات العربية التي شبت تحت اسم الربيع العربي إنما تمثل إحياء للقومية العربية الناصرية كما فسرتها كثير من النظريات التي أطلقها بعض الخبراء العرب، ليست إلا ضربا من الخيال المتوهم. الخطأ الجوهري هو  تفسير ثورات الشرق الأوسط أو رؤيتها من خيمة وردية شفافة إما على أنها إحياء للقومية العربية أو أنها تطلعات لتطبيق القيم الغربية. ولكن الخطأ الأكبر الذي قد يرقى لدرجة الخطيئة هو ذلك الذي يفترض أن الديمقراطية، لو حققت انتصارا، فسوف تعادي الإسلاميين.

   في العالم العربي، وحين تفض الأغلفة البراقة عن علبة الديمقراطية الجديدة، لن تجد إلا إسلاميين يخرجون من داخل تلك العلبة.

   معظم المسلمين يكرهون المتطرفين الإسلاميين. ورغم ذلك فإن تلك الملاحظة فاتتها نقطة مهمة. ففي الدول العربية، لا يذهب إلى صناديق الاقتراع على المستوى المحلي والقومي إلا ما يتراوح بين 20 و40 بالمائة ممن لهم حق الاقتراع. ومازال هذا النمط مستمرا على ما كان عليه. في أول تصويت حر أجرى في مصر في 19 مارس 2011، للاقتراع على تعديلات دستورية، لم يذهب للصناديق إلا 41 بالمائة ممن لهم حق الاقتراع. وفي تونس، حين انتهت المهلة  النهائية لقيد من لهم حق التصويت في قوائم الناخبين في منتصف أغسطس 2011، كان 16 بالمائة فقط ممن لهم حق التصويت قد تجشموا عناء تسجيل أسماءهم.

   وبأخذ ذلك في الحسبان، فليس من المستحيل على الإسلاميين أن يضمنوا تحقيق أغلبية من بين الأقلية التي سجلت أسماءها. والسبب بسيط، فالمقيدون هم من أغلب المتعصبين، لذلك يخرج أغلبهم للإدلاء بأصواتهم فيبدون وكأنهم أغلبية تصويتية. في تونس، كان الموعد النهائي للتسجيل بالقوائم لأول مرة قد تم تمديده لمدة شهر آخر ثم أطلق الإسلاميون العمل التطوعي الذي ركز على جذب المؤمنين لصلوات شهر رمضان المسائية في المساجد. واتبعوا أساليبهم باستغلال النازع الديني في الإقناع والتحريض بين قواعدهم الانتخابية وفي مواطن سكنهم في ربوع الريف والصحاري، والتي أدت إلى زيادة كبيرة وملموسة في تسجيل من ينتمون للإخوان في قوائم الاقتراع حتى وصلوا إلى حوالي 50 بالمائة من عدد من يحق لهم الإدلاء بأصواتهم. وبالطبع، لن تكون نسبة من يدلون بأصواتهم في أي اقتراعات مستقبلية بتونس مائة بالمائة من عدد من يحق لهم الإدلاء بأصواتهم. في أكتوبر 2011، وفي أول اقتراع حر لانتخاب أعضاء اللجنة التأسيسية لوضع الدستور التونسي الجديد، لم يذهب للصناديق إلا نصف من لهم حق التصويت، فانتصر الإسلاميون.

    كانت نسبة المؤيدين للتيارات الإسلامية في كل من مصر وتونس قبل الثورتين لا تتجاوز 30 بالمائة. وكان ذلك يثير الاهتمام كنسبة أقل من أن تحقق تغييرا لصالح الإسلام السياسي. غير أنه بإجراء نسب حسابية للتصويت الفعلي بالانتخابات، تبقى تلك النسبة مفزعة ومخيفة وتثير القلق. فلو كانت نتيجة أى اقتراع 50 أو حتى 60 بالمائة، وصوت أغلب الإسلاميون، فذلك يعني أنهم سيحصلون على الأقل على نصف مقاعد أي برلمان. في كلا البلدين، وطبقا للنظم الانتخابية القائمة، فإن ذلك سيكون كافيا على أقل التقديرات في تشكيل جبهة معارضة قوية ضد ما هو قائم فضلا عن تقديم مشاريع قوانين جديدة تماما طبقا للرؤية الإسلامية الرامية لتطبيق الشريعة.

   الإسلاميون إذن ببساطة شديدة، لا يحتاجون لتأييد أغلبية الشعب لكي يفوزوا في أية انتخابات. فهم لا يحتاجون إلا لأصوات أغلبية الأقلية التي تذهب لصناديق الاقتراع. مازالوا في تونس ومصر يلعبون بخفة ورشاقة لإحراز نصف المقاعد كلعبة يخففون بها من صدمة الخوف من استيلائهم على السلطة مباشرة. بالنسبة لهم، فإن ضمان المدى البعيد هو ما يهمهم أكثر. الانتخابات من وجهة نظرهم شر لا بد منه، ولكنها مفيدة في الوقت ذاته، فهي توفر الغطاء اللازم لإجراء تغييرات أكثر تشددا، بإيقاع متدرج وبنعومة مصحوبة بتغيرات على أرض الواقع. الإعلام الغربي يمكن الثقة به عند  نقله أن الوقفات "المعتدلة" التي يتبناها قادة وزعماء الجماعات الإسلامية، والتركيز على أنهم لم يحوزوا الأغلبية الكاسحة كدليل وبرهان على أنهم فشلوا في اختطاف الثورات، في حين أن الإسلاميين في الحقيقة خططوا بشكل إرادي ليحصلوا على أعداد محددة من مقاعد البرلمان وهم يرتدون أقنعتهم البليغة المؤيدة للديمقراطية ظاهريا لإخفاء حقيقة توجهاتهم الأشد إعتاما. وحين تحين الفرص الملائمة ويقررون الانقضاض على أغلبية المقاعد البرلمانية، والحصول على أغلبية من الأقلية التي تتوجه للصناديق، ذلك هو هدفهم الذي خططوا له كما اتبعته من قبل كل الأحزاب الدينية في البدايات المبكرة لتطبيق الديمقراطية، بغض النظر عما إذا كان التطرف الديني يلعب دورا أم لا.

   وبغض النظر عما سوف تجلبه الديقراطية للعالم العربي الجديد، فإن تاريخ ما قبل الثورات واضح وضوح الشمس. فمن الواضح أن الديمقراطية المستحدثة مهما كانت تجريبية أولية، لن يستفيد منها ويستغلها إلا الإسلاميون. هذا ما يفسر لماذا أدى الربيع العربي إلى تعجيل التحول للرجعية الإسلامية. ليس العرب بالطبع، غير قادرين بطريقة ما - إن كان لأسباب جينية أو ثقافية - على احتضان ديمقراطية تمثيل نيابي حقيقي أو تبنيها. والأحرى، أن سبب انتصار الإسلاميين لن يكون إلا ضربة حظ.  وباستثناء تونس وسوريا، زرعت النظم العلمانية في الشرق الأوسط منذ ثمانينيات القرن العشرين جماعات إسلامية سياسية كوسيلة لتشتيت الغضب الشعبي على تلك الأنظمة الموالية للغرب، ذلك الغرب الذي ألقت عليه الجماهير العربية باللوم الأكبر في بقاء تلك النظم في الحكم عن طريق مساندته لتلك النظم عسكريا وسياسيا. ذلك الزرع لجماعات إسلامية لا تميل للعنف أدى إلى تهميش كثير من الشخصيات الليبرالية، التي كانت في الوقت نفسه مكروهة من قبل الإسلاميين المحافظين إضافة إلى وقوعهم تحت طائلة التقييد والاضطهاد من قبل الأنظمة الحاكمة.

    استفاد الإسلاميون لأن هدفهم كان أسلمة المجتمع من قاعدته، لا مجرد الإطاحة بالنظام القائم. كما استفادت الأنظمة الحاكمة، فبالإضافة لتهميش النظم للشخصيات الليبرالية والقوى المنادية بالديمقراطية، استخدمت في الوقت ذاته صعود الإسلاميين كتهديد محتمل لمصالح الغرب: أي أن أولئك الحكام كانوا يخاطبون الغرب قائلين: عليكم أن تختاروا إما نحن أو الإسلاميين. وأدى ذلك إلى وجود أصوات في واشنطن تدعو إلى إجراء إصلاحات بأسرع ما يمكن في النظم السياسية العربية.

   ما لم يراهن عليه أحد هو هبوب موجة من الثورات في وقت كان فيه الليبراليون في أقصى حالات الجبن والخوف، ومضطهدين وفي حالة انكماش، وغير معروفين لدرجة لا تتيح لهم فرصة تمكنهم من ملأ الفراغ السياسي الناتج عن أى تغيير. أما الإسلاميون فقد كانوا منظمين وملتزمين وفي الوقت الذي لم يسعوا فيه أبدا لإشعال نيران ثورة، إلا أنهم كانوا يتعطشون لفرصة أو استغلال عواقب أية أحداث. ولما فشلت الثورة التونسية والثورة المصرية في الإطاحة بالنظام القديم، ولم تحققا إلا نصرا شكليا بالإطاحة برأسي النظامين فقط، هذا التحالف القديم ـبين الحرس الرجعي القديم والإسلاميين ـ تم تمتينه وتقويته أكثر من ذي قبل، بينما تم تهميش الليبراليين أكثر فأكثر.

(*) "ما بعد الربيع العربي" صدر في الولايات المتحدة الأمريكية عن دار بيلجريف ماكميلان، 2012).

    Dr.Radwa
    Egypt Air