الإثنين 25 نوفمبر 2024

مقالات

مَسْغَبة مجاعة ضربت أرجاء القاهرة

  • 2-1-2023 | 12:26
طباعة

أعرف أن ما سأكتبه غريبًا بعض الشيء، فهناك حقائق يعتريها الغموض، كأنها حدثت دون سابق إنذار، بدأت رحلتي مع أعمال العتوم التي تختص بدراسة المخطوطات التي حصل عليها من أحد المكتبات العتيقة في تركيا، المخطوطة الثانية قرأتها في نفس تاريخ المخطوطة الأولى للسنة الماضية وكانت تحمل عنوان "أرض الله"، الغريب أنني بدأتها في الشتاء، كأن الأعمل تنادينا والكُتُب تلتهمنا داخلها لنرى حيوات الآخرين، كيف عاشوا؟ كيف عانوا؟ كيف رحلوا؟ وماذا أحل الدهر بهم؟! أخذتني رواية «أرضُ الله» إلى عالم آخر، سحبتني لعام 1770 حتَّى نهاية عام 1836ميلاديًا، شعرتُ لحظتها بأنني ذُبحت من الوريد إلى الوريد، لم يكفها ذلك، بل أصابتني عند نهايتها بغُصَّةٍ في القلب حتَّى أنني بَكَيْتُ بحرقةٍ؛ لأنني توحدتُ مع الشخصية "عمر بنا السيد" الحر الذي تحول إلى عبدٍ على يد المستعمرين، أدركتُ لحظتها أنني سأموت شوقًا لمجالسة عمر بن سيِّد مرةً أخرى، الرواية لم تكن مجرد سيرة غيريَّة، ولم تكن مجرد عملٍ إبداعيٍ عادي لكنها رواية متكاملة الأركان.

  • عنوانها "مسغبة":

 يأتي السؤال ماذا عن رواية "مَسْغَبة" وما معناها؟ لم يكن اقتباس العناوين من القرآن جديدًا على العتوم، بل هي الميزة التي تجعله مختلفًا عن غيره؛ لأن القرآن لغة ودعوة عالمية للإنسانية، لكن علينا الوقوف على عمق المعنى الذي يحمل انبعاثات مؤلمة عايشها الحكيم "عبد اللطيف بن يوسف البغدادي" في بمارستان القاهرة المحروسة التي غدت منكوبة مفجوعة، ففي معجم الميسر "سغب" قال تعالى: ﴿أو إطعام في يوم ذي مسبغة﴾ (البلد/14)، للاقتباس وقع على النفس يجعلنا نستشعر مدى الكرب، والألم، والأسى، وتصور أبشع المواقف التي من الممكن أن تمر على الإنسانية؛ حيث ما وقع على من يعيش في تلك الحقبة التاريخية للقاهرة على مراحل متعددة؛ مرض، وفقر، وجوع، منها إلى أكل لحوم البشر.

  • من "يوسف عبد اللطيف البغدادي"؟ وما معنى السيرة الغيرية؟

عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد، وُلد في بغداد "العراق" سنة 557هـ الموافق 1162 م في دار جده بدرب الفالوذج، تلك المدينة التي اشتهرت بصناعة الحلوى الشهيّة التي كان يعشقها رغم نحافته ووهن جسده، كانت حلوى الفالوذج مكافأة أبيه عند تميزه الدراسي، بل أن العتوم جعلها مدينة الأحلام في القسم الأول الذي يحمل عنوان "النشأة والحلم"، فما رأيت بغداد إلا من خلال انسيابية قلم العتوم نبَّاش التاريخ باستغراقه هائمًا داخل مخطوطة خرجت لنا من عالم بعيد حيث وادي المكتبات السحيق، اشتهر الحكيم والفقيه باسم عبد اللطيف البغدادي (الحكيم / الطبيب)، ولُقِّبَ بـ"ابن اللباد"، كان أبوه مشتغلًا بعلم الحديث والقراءات، كما أن عمه كان فقيهًا، وأغلب أفراد عائلته من الشيوخ والأئمة الذين لهم فضل في تاريخ الأمة الإسلامي والإنساني، لذلك فقد تعلم (البغدادي) ونهل من هذا المنهج العلمي الفيَّاض، حيث يسَّر له والده وهو في صباه سماع الحديث من جماعة علماء أفاضل؛ مما جعله ينشأ في جو من العلم والتقوى.

 يمكننا القول أن رسم شخصية عبد اللطيف في مراحل حياته المختلفة أعطى لهذا العمل الإبداعي رونقًا ساحرًا أخَّاذًا، فقد كان صعبًا أن أترك الكتاب للحظة، بل كنت غارقة فيه وأحسست بأنني لا أقرأ عملًا بل أشاهد فيلمًا وثائقيًا مكونًا من 464 صفحة وهي عدد صفحات الرواية، كلُّ صفحة كان مبذولًا فيها جهدٌ كبيرٌ لا يُستهان به. ومن خلال القراءة والتحليلات التي توصلت لها، أيقنت أن بغداد النشأة ما هي إلا صورة بلاغية وجمالية عكست صورة حياة الحكيم "عبداللطيف" حيث بيئته التي ترعرع فيها، وتمتَّع فيها بجمال بغداد كونها امرأة طاغية السحر، وتلقيه العلم على يد أفضل الشيوخ تلك الشخصيات الثانوية المؤثرة في الشخصية المحورية من حيث التشابك؛ حيث ينقلنا للفلك الهندسي الذي يحمل قدرًا من البلاغة السردية، وفلسفة جمالية للراوي العليم الذي تماهى مع قلم العتوم الناقل للسيرة الغيرية، فما هي؟ السيرة الغيرية تروي حياة شخص فتُكتب عن طريق شخص آخر، وهي تعد نوعًا من أنواع الأدب، الأصح أن لا يتخللها الخيال الذي يخل بصدق المعلومات المذكورة، لكنها في الغالب أصبح يميزها الخيال الذي يقتل فيها الملل والأخبار الكثيرة التي لا تشكل صورة عن حياة المروي عنه... يتمحور موضوعها حول حياة علم من الأعلام، فتعد السيرة الغيرية من أقدم أنواع التعبير الأدبي، وتعتمد السيرة الغيرية على جمع الأدلة المتاحة مثل: الأدلة المكتوبة أو المحفوظة في الذاكرة أو الشفهية أو المخطوطة، كالتي حصل عليها العتوم.

ليس هذا فحسب، بل أن العتوم وصف مجالس الشيوخ التي تلقى العلم عنهم، وحالات الحزن التي أصابت البغدادي عند وفاة أحد شيوخه تعبيرًا عن حالة الفقد والإجلال التي نستشعرها مع الأساتذة الذين نتلَّقى عنهم نهر العلم الجارف مثل: الشيخ أبو زرعة الذي رحل في عمر يناهز أربعة وثمانين عامًا، فكان أصغر تلاميذه، والشيخ الضرير الذي أحببت رواقه العلمي فكان في ريح جوار الحكيم "يوسف البغدادي" ياقوت الحموي مؤلف كتاب "معجم الأدباء" و"معجم البلدان"، ثم وفاة شيخه الغليظ في تلقين طلابه رغم ذلك كان مُدان البغدادي له ولعلمه، فقال عنه: "وتغيَّب أبو البركات عن حلقته في المدرسة النظامية، وكان قدرُه على بابِ بيته، فلم يُخطئْه، بيدَ أنّني كنتُ قد وعيتُ كلَّ ما لديه، فلمَّا كان ذلك انفرطَ عِقده، ودُفِنَ وسطَ بُكاءِ تلامذته في (باب أبرز) بتربة الشيخ (أبي إسحق الشيرازي) عام 577 للهجرة، وكنت في العشرين من عمري، وكأنَّ الموت كان يُمهل الشيوخ حتى أتلقّى على أيديهم غاية ما أؤمِّل، ثُمَّ يشربون من كأسه، وينبت الحبل، وإلى الله تصير الأمور!". بل أن "مسغبة" عكست القضايا التي كانت محطَّ جدلٍ واسعٍ في تلك المرحلة التي بلغ فيها البغدادي سن الشباب، كان عصر ظهور الفتن مثل: "فتنة خلق القرآن"، وتراجع فن الخطابة التي تخللتها السياسة؛ لتقتل فيها الأثر الحي المؤثر في جمهور العامة، فصارت تكتب والهدف الهوى، فما أضل من اتبعَ هواه فراح منكبًا على مطامعه الدنيوية، كلها تصورات وصفية فكرية وعصرية وضعتها نصب عيني خلال قراءة الفصل الذي ينطبق تحت الواقعية التاريخية. أضف إلى ذلك أنه ركن إلى العناية التصويرية الممزوجة بأهم المعالم التي ميَّزت العصر الذي عاشه في تلك الفترة، بل أضافت البهجة والرقي في فن بغداد، أولها "البيمارستان": "كان هذا (البيمارستان) يستقبل المرضى من أهل بغداد والعراق كلِّه، ولكنه لا يُغلق أبوابه في وجه أيِّ غريبٍ كذلك، ولا يدفع فيه المريض شيئًا لِقاء تشافيه، إذْ لن تجمع عليك السُّلطة فقر المال إلى فقر الصحة، ولو كنتَ لا تملك مالًا، فإنها تعطيك ما يُبلغك حاجتك أو أن تخرج مُشافى. هكذا قِيلَ لي من مساء أمس حين سامرتُ أحد الممرضين الظُّرفاء، عن ببالي أنه يمكن أن يكون الشخص المناسب أن أسأله عن المكتبة!"، ناهيك عن نوادر مجالس السمر، وحكايات اللصوص والصعاليك مع طلاب العلم، بل أن في تلك الفترة ازدهر شعرالشعراء الصعاليك.

 

أمَّا في القسم الثاني والثالث "مصر الغاية" و"الزّلزال" اعتمد فيها على تصوير القاهرة ومعالمها وأسواقها لكنه وصف القاهرة الفاطمية الساحرة، بل وصف الأهرامات، وهي عناية تصويرية تعود للاعتماد على تفاصيل المكان والزمان واستخدام اللغة والعبارات التي لم تنسلخ عن الأعمال التي استقى منها العتوم تاريخ تلك الحقبة، ففي ووصف الأهرامات؛ قال: "لم يكنْ في مصر أعظمُ من الأهرامات، ومع ذلك فالنّاس لا تعرفها، فالأهرامات التي على الحقيقة غيرُ تلك التي في أذهان الناس، إنهم يعرفون من الكِتاب عنوانه، فإذا سألتهم ما يضم هذا الكتاب بُهِتوا! وإنهم لا يعرفون من الاسم غير الاسم، فإن ذهبت تسألهم ما معناه سَكَتوا! ذلك أنّ الأهرامات لم يدكها أحدٌ. على كثرة مَنْ خاضوا فيها، وعلى كثرة من ذهبَ في تفسير نشأتها وسِرها، وبقيت عصيّةً عليّ مثلما استعصت على من أرادَ أنْ يفكّ طلاسِمَها من الآخرين". أيضًا عندما وقع الزالزل كان وقتها يعمل في بيمارستان مصر، بل كان يجُبُ شوارع القاهرة لإنقاذ أهلها في وقت الأزمات، فوصف شوارعها، وحوانيتها ودكاكينها وسوق السجادين، وأسواقها المتنوعة كل هذه المؤثرات صنعت عالمًا خياليَّا، عشت فيه لمدة ستة أيام متواصلة، ويواصل مع الوصف ذكر مصائب الدهر التي لم يستطع ديوان مصر إحصاء العدد الهائل من الموتى الذين سقطوا، لم تكن الأرواح فقط التي سقطت بل تصدعت جدران منزله، وسقطت الكُتُب من أرفف مكتبته التي وصفها بأنها تشبه الأرواح في تألمها: "إنّ للكتب أرواحًا، ولا بُدّ أنّ لها قلوبًا، وإنني أتخيّلها ليلة أمس وهي تبكي كالبشر، وتخافُ مثلهم، وتموتُ تحتَ الردم كما يموتون، وتنظر في عيون الآخرين من أخوانها لعلها تجدُ عندهم عونا على ما هي فيه، فتقول لها كلّ عين: "إننا في الهَم يا أُختاه سواء، إن ما يُشجيكِ يشجيني،و إنّني مثلك لا حول لي ولا قوة"، هنا يمكننا القول بأنه لم يكن الوصف مقصورًا على مصر ومعالمها الحضارية والشعبية، بل وصف الجمادات التي تحاوط الشخصية، لا سيما شخصية "دراية" الي رُسمت ببراعة، حيث اعتبرتها الحب المستحيل للشيخ الحكيم "عبد اللطيف البغدادي"، المرأة التي عاشت داخل مقبرة الإمام الشافعي ترعى أولادها "مارية" و"كرم"، فقد علمته فنون الطبخ، ونبهته من مصائب الدنيا، لديها عيون ماكرة، صحيح أنها ترتكز في محاجرها لكنها كانت مأوى الذئاب الكاذبة، تلك العرافة التي لم تكن تملك إلا صدق دموعها الزائفة التي أسقطت الكثير من القلوب تحت قدميها، هي لم تكن عرَّافة تنبَّئت بالردم، وكارثة أكل الإنسان لأخيه الإنسان من باب الشهوة: "عام 597 للهجرة"، "فأين نحن منها؟" رددت قائلة "في وسطها". فبرقت عيناها، وقالت "ففي تمام 600 للهجرة يتمّ كلّ شيءٍ". وبعدما وقعت مطرقة الطاعون عل رأس مصر، وضرب الطاعون أرجاءها ونهش الناس لحم بعضهم بعضًا، ونهشت هي في تلك المجاعة جسد طفلها "كرم"، كانت دراية التى فتنت بجمال شخصيتها صورة رمزيّة للدنيا الدنيئة حينما أصدر قاضي مصر حكمًا بإعدامها، همست في أذن الطبيب عبد اللطيف قائلة "سأموت، لكنّ موتي انبعاث. أنا لست دراية. أنا فكرة. فكرةٌ تخمد زمنًا لكنها تعاود الظهور. أنا صورة الشيطان في الإنسان لما قال له: اكفر. وصورته في قول قابيل لأخيه لأقتلنك. وصورته في قول الحكيم الأول: أنا خيرٌ منه.... وأنت ستعيش عليلًا وستموت عليلًا، وسترحل ولا حاجة في جسدك إلا وهي تئن، ولم تحقق ما تريد في رؤية من تحب".

  • "الطاعون" الوباء الذي يشبه الكورونا:

إضافة للزلزال الذي أسقط العديد من الأرواح، ضرب الطاعون مصر، وأصبحت الفئران سيدة الشوارع جاءت عن طريق شحنة بضائع استقرت على ميناء الإسكندرية، التاريخ يدور في حركة كونية ثابتة لكنها متغيرة، بدأ المرض في التفشي بين الناس أثناء الكورونا عام 2020 السنة التي فقد فيها كلُّ إنسانٍ عزيزًا على قلبه، أيضًا فقدت مصر نصف سكانها زمن الطاعون، كأنني هربت من زمن الكورونا لزمن سحيق لأشاهد ما اندثر في كتب التاريخ لكن هكذا الإنسان في غفلة دائمة عن ما مضى، في هذا الزمن شُلَّت الحركة في الصعيد البعيد، ومع تفشي المرض، شحَّت مياه نهر النيل وقلَّ خيره، ومات الزرع على الأغصان وهلكت البراعم والدواب، وامتلأت البيمارستانات في مصر، فلم يعد في قدرتها استيعاب أعداد أكثر من المرضى، ومع علامات ظهور المرض بدأت العدوى، ومعها زادت أعداد الفئران ولم يكن في مقدار ديوان مصر إلا الإعلان عن عدد الضحايا: "أعلنَ ديوان مصر في أولّ أيّام الطّاعون عن موتِ خمسين، دُفِنوا بكرامة، أخذهم أهلهم في توابيت منفصلة. بدأت الأرقام تزيدُ مع الأيام بشكلٍ غير متوقع، في اليوم الثّاني أعلن عن موت مئة، في اليوم الثالث عن ثلاثمئة، وفي نهاية الأسبوع كان قد رَحَلَ بدُمّل ينفجر في أسفل العنق وفي الأربية أكثر من ألف. "ومع انتشار الأمراض تجد العاصي تائبًا عائدًا إلى الله يرجو منه العفو والغفران، وعلى الصعيد الآخر تجد بيوت البغاء تمد يدها على مصراعيها لمن يحتمي بالشياطين وأعوانها: "والقاهرة مثل دمشق وحلب، مُدُنٌ تجمع المتناقضات، فإن بحثت فيها عن الله وجدته، وإنْ بحثت فيها عن الشيطان وجدتَه، تجد المساجد مثلما تجد الكنائس والصوامع، تجدُ مجالس الذكر مثلما تجد مجالس الغناء، تجد دُور القرآن كما تجد دور البغاء، تجد البرابي والخوانق كما تجد الملاهي والمفاسق، تجد الخَمر والجَمْر كما تجد التمر والأجر، وتجد فيها أهل الصُّفة كما تجد فيها أهل الزَّفة وهي تقف على النجدين وتقول بكل ثقة: "اخترْ لنفسك ما تشاء". وقد وصف الطاعون بالمرض الأسود؛ لأنه أسود في كل شيء، يشبه براز الفئران ولأنه منبثق من بطونهم.

  • مسغبة ضربت أرجاء القاهرة:

تُعدُّ المجاعة التي ضربت القاهرة ما هي إلا فتنة عظيمة، ذلك من خلال وجهة نظري، فبعد المصائب التي حلت على مصر، من شح في تدفق نهر النيل، وإصابة الأراضي الزراعية بالجفاف، ونقص القمح والأطعمة، وإغلاق الحوانيت أبوابها في وجوه الجميع غني وفقير، فما كان أمام الناس إلا الهلاك، والبقاء في بيوتهم لمواجهة ما تبقى في الهواء من وباء الطاعون، أضف إليه المجاعة التي كانت أمرًا طبيعيًا لمَا حلَّ على القاهرة! وقد أورد المقريزى في كتابه الذي تناول فيه ذكر الأخبار التي وقعت مع الوباء: (اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء) عن ارتباط بداية المجاعة بنهب جواهر المستنصر، يقول المقريزى فى أحداث عام 460، لكن العتوم لم يتطرق للمستنصر قدر ذكره لنهب ممتلكات القاضي الفاضل وقصته مع عبده "الشريف" الذي نال درع الطاعون، فكانت الرمزية أدعى للقراءة، يقول المقريزى: (واشتد الغلاء بمصر، وقلت الأقوات في الأعمال وعظم الفساد والضرر، وكثر الجوع حتى أكل الناس الجيف والميتات)، هذا عن الجوع الذي أدى إلى ظهور طائفة من الناس لم تتحمل الصبر على الجوع، فقد الأمن السيطرة على ما تبقى من الشعب، ويقول المقريزي عن انهيار الأمن: (ووقفوا في الطرقات يخطفون من يمر من الناس فيسلبونه، ما عليه مع ما نزل بالناس من الحروب والفتن التي هلك فيها من الخلق ما لا يحصيهم إلا خالقهم‏)، ونتج عن تلك المجاعة أعمال السلب والنهب لا للذهب والفضة بل سلب أجساد البشر واقتناصهم لأكلهم، بل أنهم استساغوا أكل الأطفال عن كبار السن؛ لأن لحمهم أشهى وألذ، واشتدت تلك المجاعة حتى لم يجد فيها الناس شيئًا يأكلونه فأكلوا الميتة والبغال والحمير والجيف ونبشوا القبور، ليخرجوا الجثث المدفونة ليلتهموا الأكباد والقلوب من صدور المدفونين!، وبعد تلك المحنة التي حاولت اختزالها؛ لأن كتابة مقالة تحمل كل جوانب هذا العمل أمرٌ صعبٌ للغاية، لِمَا ورد من قصص داخل العمل الذي ينتمي لجنس الرواية، فالعمل دسم في لغته، وقراءته ومحتواه حتى في ذكر فجاجة وبشاعة أخباره الواردة فيه التي استاقها العتوم من عدة مراجع تاريخية سهلة في قراءتها لكنها صعبة في إعادة هيكلتها لتمتزج بالخيال، وقد عبر العتوم على لسان الحكيم البغدادي في نهاية تلك المجاعة عن مشاعر الفراق والفقدان؛ قائلًا: "لم أجدْ معنًى حقيقيًّا للحبِّ إلَّا في نظرات المُودِّعين الأخيرة، كأنَّ الأحياء لا يُدركون قيمة الرّاحلين إلَّا حينَ تحلُّ المحن بهم.. أيُّها النَّاس: أنْ تهبوا أحبّاءكم أضاميم الورد في حياتهم خيرٌ من أن تضعوها على قبورهم بعد أنْ يرحلو"، يمكننا القول أن تلك المقولة ترجع لتماهي شخصية الراوي مع الأحداث وما آلت إليه من فواجع: "لم أعدْ أطيقُ أنْ أكونَ مسؤولًا عن سقوط العالم في حُفرة الموت، صار ينتابني شعورٌ أنّني منزوعٌ من هذا العالَم، آتٍ في غير زماني، وماكثٌ في غير مكاني، وأنّه عليّ أنْ أكون أقلّ اكتِراثًا بكلّ ما يجري، وأنّه عليّ ألَّا أفزع كثيرًا وأنا أرى الموت يتفنَّن في الحلول في هذه الأجساد المُنهَكة". أضف إلى ذلك أنني لم أقع فقط في حب شخصية "يوسف البغدادي" الحكيم الذي أنقذ مصر من الهلاك، بل أحببت "سالم" الشاب الذى أنقذ العديد من الأرواح من مرض الطاعون، أحببت وفاء "شريف" خادم القاضي الفاضل الذي أحب "مارية" التي أحبت عبد اللطيف البغدادي، لكنه لم يرَ نفسه إلَّا كهلًا أخذ نصيبه من الدنيا في تحصيل العلم واقتناء الكتب التي فقدها في النهاية، لم تكن الشخصيات إنسانية فحسب، بل كان لـ"الأبلق" حصان الحكيم البغدادي دورٌ في السرد، فالعتوم جعل جميع الشخصيات المحورية والثانوية والجمادات والحيوان تتشابك وتتناغم لتجذب القارئ للتماهي مع هذا الإيقاع المُحكم، أمّا عن "دراية " فقد عبَّرت عما أحس به، فيبدو أن الإنسان يقع فريسة لإغواء الدنيا كلما ظهرت له في أكثر من ثوب وها أنا أحببت دراية، أمّا عن نظرة (العتوم / الحكيم البغدادي) للمرأة يكفيني ما قاله عنها: "البيتُ الّذي لا امرأة فيه مُوحِش، مُظلِم"، حتى الأيام لم يتركها إلا وعبر عنها "من الأفضل نِسيان حوادث الماضي من أجل الاستِمرار في الحياة، سيكون صعبًا دون النسيان أنْ تسير حياة الإنسان بشكلٍ طبيعي لكنَّ النسيان نفسه لا يُنسِي، فيعودُ إليك بوجوه جديدة، ربَّما يغيِّر الزمان، ولربما المكان، ولربما الوجه، لكنَّه لا يُغيِّر الأثر، الأثر عميقٌ جدًّا هذه المرة".

بعد مرور كل هذه السنوات التي قضاها "عبد اللطيف يوسف البغدادي" رحل عن مصر، وترك منزله ومكتبته لكل عابري السبيل للاستفادة منها، ويقول العتوم إن هامش نهاية المخطوطة كُتِب فيها أن البغدادي مات عند وصوله إلى بغداد، ودفن بجوار أبيه، وبأن روحه كانت تطوف في البلدان تبحث عن روح والده، فلما شارفه نزلت الروح إلى اللحد، فتعانقتا. ومع نهاية الكتاب شعرت أن هناك كُتَّابًا هم في أصلهم رُسُلٌ للإنسانية، ففي حقيقة الأمر أنا لم أقرأ رواية اسمها "مسغبة"، بل قرأت ملحمة إبداعية حملتني من القاهرة إلى بغداد، ومن بغداد إلى دمشق ومنها إلى القاهرة الفاطمية، ورمتني مرة أخرى في جوف الواقع الذي أهرب منه إلى عالم الخيال... في نهاية المطاف إن أهم من فكرة الرواية الرسالة الإنسانية التي تُقدمها للقارئ والمجتمع والعالم، التي أظن أنها أرقى الرسائل التي يقدمها الإبداع الأدبي.

 

 

 

 

 

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة