الخميس 9 مايو 2024

الإسكندرية.. عاصمة عهد مصري جديد بعد انتصار الإسكندر المقدوني على قوات الفرس


أ.د/ سارة كتات

مقالات9-1-2023 | 18:03

أ.د/ سارة كتات

بدأ القائد الشاب يطمح نحو السيطرة على بلاد الشام ومصر، و قد نجح بالفعل في السيطرة على مدينة صور بعد محاصرتها و بعدها قرر الاتجاه نحو مصر، ولقد وصل الإسكندر أولا إلى منطقة البلوزيوم في شمال غرب سيناء ( تل الفراعنة حاليا حوالى 32 كم جنوب شرق مدينة بورسعيد) ومنها إلى العاصمة منف بعد أن أسلمها له الوالي الفارسي مازاكس حيث كانت مصر آنذاك خاضعة للحكم الفارسي.

وعلى عكس عادة الفرس الذين لم يحترموا الآلهة المصرية ، أظهر الإسكندر الأكبر الكثير من التقدير والاحترام للآلهة المصرية فقد توﹸج الإسكندر الأكبر كفرعون مصر الجديد في معبد الإله بتاح في منف مرتديًا الملابس المصرية التقليدية.

وهذا يفسر لنا سر ترحيب المصريين الشديد بقدوم الإسكندر وذلك حتى يخلصهم من الاستعمار الفارسي البغيض.

ثم أتجه القائد الطموح بعد ذلك لواحة سيوة في صحراء مصر الغربية لزيارة معبد آمون هناك حيث أعتبره الكهنة ابنا للإله آمون المصري الذي أمتزج مع الإله اليوناني زيوس، و قد ذاعت شهرة أمون-زيوس كإله للوحي و النبوءة، و تشير المصادر التاريخية أن الإسكندر الأكبر ذهب لزيارة معبد آمون-زيوس بواحة سيوة ليستشير الآلهة في حروبه وغزواته.

وفي أثناء رحلته على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، لفت نظر القائد الشاب وجود قرية صغيرة يسكنها مجموعة من الصيادين ويحدها جنوبا بحيرة مريوط و شمالا جزيرة فاروس.

وقد كانت هذه القرية أكبر القرى الموجودة في هذه المنطقة حيث بلغ عدد القرى ما يقرب من ستة عشر قرية و عُرفت هذه القرية باسم قرية راكوتيس (رع- قدت) وكانت هذه القرية تبعد ما يقرب من أربعين ميلا من مدينة نقراطيس الواقعة في الدلتا ( قرية كوم جعيف حاليا – مركز إيتاي البارود- محافظة البحيرة)، ولذلك استرعى انتباه الإسكندرية الأكبر الموقع المتميز لهذه القرية حيث كان هذا المكان جافا بعيدا عن تأثير طمي النيل حيث يرتفع مستوى هذا المكان عن مستوى دلتا مصر مما يحمى هذه المنطقة من أخطار الفيضان السنوية، كما شكلت بحيرة مريوط حصنًا جنوبيًا لهذا المكان مما أكسبها موقعا جغرافيًا و استراتيجيًا مميزاً.

ولعل كل هذه العوامل مجتمعة أوحت للإسكندر الأكبر لبناء مدينة الإسكندرية في هذا المكان المُطل على البحر المتوسط لتصبح هذه المدينة عاصمة جديدة لمصر ومركزًا للحضارة الهيلينتسية تحمل اسم هذا القائد العظيم.

وطبقا لما ذكره كاليتنسيس مؤرخ الإسكندر الأكبر أنه تم وضع حجر الأساس من قبل القائد المقدوني في اليوم الخامس و العشرين من شهر طوبة عام 331 ق.م.

و قد وُكل للمهندس اليوناني دينوقراطيس من جزيرة رودس مهمة تأسيس العاصمة الجديدة لمصر، وقد بُنيت مدينة الإسكندرية على غِرار تخطيط المدن اليونانية المعروف بالتخطيط الهيبودامي والذي انتشر في بناء المدن اليونانية منذ القرن الخامس قبل الميلاد؛ وهو عبارة عن شارع رئيسي أفقي متقاطع مع شارع آخر رأسي، وينتج عن هذا التقاطع مجموعة من الشوارع الرأسية والأفقية المتقاطعة لتكون في النهاية شكلاً يشبه لوحة الشطرنج.

وقد قام المهندس دينوقراطيس بمد جسر طويل يربط بين جزيرة فاروس في البحير المتوسط و بين اليابسة وقد بلغ طول هذا الجسر ما يقرب من سبعة ستاديوم أي حوالي ألف و ثلاثمائة مترا ولذلك عُرف هذا باسم هيبتاستاديوم أي سبعة ستاديوم إشارة إلى طوله.

وقد نتج عن هذا الجسر تكون مينائين بحريين للعاصمة الجديدة؛ سُمي الأول بالميناء الكبير وهو الميناء الشرقي وهو الميناء التجاري الرئيسي للمدينة ، وعُرف الآخر باسم ميناء العوَد الحميد وهو الميناء الغربي.

وقد بُنيت على هذه الجزيرة فنارة الإسكندرية التي أصبحت إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة، وقد قام المهندس اليوناني سوستراتوس من كنيدوس ببناء هذه الفنارة خلال عصر الملك بطلميوس الثاني حوالي 285-246 ق.م. و قد كان الغرض من هذا المبنى الضخم إرشاد السفن في البحر المتوسط.

ووصف العديد من المؤرخين و الرحالة العرب شكل الفنارة مثل الجغرافي و الرحالة العربي الإدريسي والأندلسي ابن جبير وأبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي الملكي الذي زار مدينة الإسكندرية خلال القرن الثاني عشر الميلادي ، كما ظهر تصوير فنار الإسكندرية من خلال الأشكال الفنية آنذاك مثل أشكال الفوانيس التي صُنعت على شكل فنار الإسكندرية.

وقد بُني فنار الإسكندرية من الأحجار وكتل جرانيتية جُلبت خصيصا من محاجر أسوان ليبلغ طول الفنار حوالى 135 مترًا وكان يتكون من ثلاث طوابق؛ الطابق الأرضي مربع الشكل والطابق الثاني مثمن الأضلاع و الطابق الثالث مستدير الشكل، وكان يوجد مجمرة ضخمة أعلى الفنارة يخرج منها ضوء ناري ساطع لإرشاد السفن يعكسه مرآة ضحمة كما كان يعلو الفنار تمثال ضخم للإله اليوناني بوسيدون إله البحار.

وطبقا لما ذكره كلا من سترابون و فيلون السكندري، فقد قُسمت مدينة الإسكندرية قديما إلى خمس أحياء رئيسية رئيسية سُميت بأول خمس حروف من الأبجدية اليونانية القديمة وهي ألفا A ، بيتا B، جاما G، دلتا D وأبسلون  E، وتمثل هذه الحروف عبارة يونانية ترجمتها "شيدها الإسكندر الملك ابن الإله".

وكان الحرف A يشير إلى حي البروكيون هو الحي الملكي الذي يضم القصور الملكية ومراسي السفن والمسرح والمعابد والمقابر الملكية وحدائق عامة.

وقد كان الحي الثاني هو الحي B وكان مخصصا للأرستقراطيين من الإغريق، وقد شيد المجمع العلمي متاخما لحي السوما الملكي ويضم الموسيون ومكتبة الإسكندرية القديمة، وقد بني ميدان السباق على مساحة واسعة من الأرض في الجزء الشرقي لمدينة الإسكندرية، أما حي G فقد كان الحي الخاص بالعامة من اليونان، والحي الرابع هو حي D الذي كان يسكنه الجاليات الأجنبية من السوريين و اليهود و الفرس، والحي الخامس هو الحي D سُمي بحي راكوتيس وكان يسكنه المصريين في قريتهم القديمة التي شكلت بداية إنشاء مدينة الإسكندرية.

وقد بُني في هذا الحي معبد السرابيوم ليكون مركزا لعبادة ثالوث الإسكندرية؛ المعبود سرابيس وزوجته المعبودة إيزيس وابنهما المعبود حورس الطفل (حربوقراط).

وقد بدأت عبادة المعبود سرابيس في مصر مع بداية الحكم البطلمي لمصر ويعتبر هذا المعبود هو صورة يونانية من المعبود المصري العجل أبيس ممتزجا مع أزوريس وعُبد كإله الخصوبة والعالم الآخر بشكل خاص في مدينة منف.

وقد قام الكهنة بتطوير شكل هذا الإله المصري ليجعلوه أقرب شكلاً للمعبود اليوناني زيوس ليصبح أكثر تقبلا من قبل اليونان و حُرف اسمه إلى سرابيس ، قد ذاعت عبادة الثالوث السكندري في مصر خلال العصرين البطلمي و الروماني و مازالت أطلال معبد السرابيوم في مدينة الإسكندرية قائمة بجوار نصب دقلديانوس والمعروف باسم عامود السواري.

وطبقا للمكتشفات الأثرية لمدينة الإسكندرية كانت هناك جبانة شرقية ترجع للعصر البطلمي المبكر و حتى العصر الروماني، وشملت هذه الجبانة مقابر مصطفى كامل ومقابر الشاطبي ومقابر شارع تيجران ومقابر الإبراهيمية ومقابر سيدي جابر، ومقابر كليوبترا ومقبرة اللاتين، وقد ذكر سترابون وجود جبانة غرب مدينة الإسكندرية عُرفت باسم "نيكروبوليس".

وكانت تستخدم لسكان قرية راقودة قبل مجيء الإسكندر الأكبر إلى مصر وظلت تستخدم بعد تأسيس مدينة الإسكندرية ولعل أبرز الأمثلة على هذه الجبانة كتاكومب كوم الشقافة الرومانية والتي تقدم نموذجا فريدا من امتزاج مظاهر الفنين اليوناني بالفن المصري القديم.

وقد أصبحت الإسكندرية طوال العصر البطلمي والروماني مركزا حضاريا متميزا، ويرجع ذلك لإنشاء مكتبة الإسكندرية القديمة والموسيون، وقد كان ديميتريوس الفاليري مسؤولا عن بناء هذين الصرحين الهامين.

وكان موسيون الإسكندرية بمثابة جامعة أو مركزا أكاديميا يضاهي في أهميته أكاديمية أفلاطون ولقيون أرسطو في أثينا، وكان الموسيون مركزًا لمئات العلماء والباحثين مثل أقليدس أبي الرياضيات أبوللونيوس من برجي وإستروس الكاليماخي، وفي العصر الروماني العالم هيرون في مجال الميكانيكا وكلوديوس بطليموس عالم الفلك والجغرافيا وجالينوس الطبيب، وكان الموسيون يحتوي على قاعات للدراسة ومعبد لربات الفنون والرواق (ممر معقود)، وقاعة كبير لتناول الطعام لأعضاء الموسيون.

كما حوَت مكتبة الإسكندرية الآلاف من لفائف البردي في مختلف أنواع العلوم و الفنون، وأصبحت هذه المكتبة من أهم مكتبات العالم القديم مثل مكتبة برجامة، وقد حرص البطالمة على تجميع أكبر عدد من كتب العالم سواء بالشراء أو النسخ وحفظها داخل المكتبة، واستمر دور مكتبة الإسكندرية كمركزًا ثقافيًا للعالم القديم حتى لقيت مصيرها أثناء حرب الإسكندرية في عام 48 ق.م.، وقد ازدهرت الحياة الفلسفية في العالم الروماني و لعبت الإسكندرية دورًا قياديًا في هذا المجال على يد كلا من فيلون وأفلوطين وتعكس اكتشاف مجموعة من قاعات الدراسة بمنطقة كوم الدكة عن مدى ازدهار الحياة الفكرية و العلمية في الإسكندرية إبان العصر الروماني.

Dr.Radwa
Egypt Air