حتى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى ورغم مرور نحو عشرين عاما على ظهور أول فيلم روائى طويل فى تاريخ السينما المصرية لم تكن هذه السينما الشابة قد عرفت ظاهرة «نجم الشباك» ذلك المصطلح الهوليوودى الذى يعنى فى أبسط معانيه بحث المشاهد عن نجمه المفضل، والسعى وراءه فى كل فيلم دون الالتفات إلى أية عناصر أخرى مشاركة فى العمل ما يؤكد أن اسمه فقط كفيل بنجاح الفيلم بسبب تعلق الجمهور بنجمه المفضل على المستويين الفنى والشخصى.
إلى أن أظلنا زمان ليلى زكى مراد بطلة فيلم «يحيى الحب» سنة 1938 والمولودة – على ألأرجح - فى السابع عشر من فبراير 1918 لأبوين يهوديين وأسرة يسرى الفن فى عروق أفرادها، كانت ليلى مراد قادمة إلى السينما من عالم الغناء، وكانت لها تجربة منقوصة حين ظهر صوتها فقط في فيلم «الضحايا» الناطق سنة 1935 من إخراج ماريو فولبى، لكنها لم تكن حققت الكثير فيه كبقية منافساتها من المطربات، ومن هنا فإن ليلى نفسها كانت تعتبر أن مشوارها الفنى بدأ فعليا مع وقوفها الأول أمام كاميرات السينما فى فيلم «يحيا الحب» سنة 1938 أمام المطرب محمد عبد الوهاب وإخراج محمد كريم ما يعنى مبدأيا أنها لم يكن لديها ما تخسره، لكنه يعنى أيضا – وهو الأهم – أن مستقبلها الفنى كله مرهون بنجاح تجربتها الأولى، وهذا ما تحقق للفيلم ليس بسبب قدرات خاصة أظهرتها بطلته، وإنما بفضل صوت عبد الوهاب معشوق الجماهير فى ذلك الوقت، ليس هذا فقط بل كان معروفا أن مخرج الفيلم محمد كريم لم يكن مقتنعا بإمكانيات تلك المطربة التى أتى بها عبد الوهاب لتقف أمامه وفرضها فرضا على مخرج فى قامة محمد كريم، ومع ذلك فإن هذا النجاح أيا كانت أسبابه كان كافيا بأن يمنح ليلى مراد قوة الدفع للاستمرار على شاشة السينما حتى ولو بعيدا عن عبد الوهاب.
ووجدت ليلى مراد ضالتها فى المنتج والمخرج اليهودى توجو مزراحى الذى أدرك أن بإمكانه صناعة نجمة سينمائية ناجحة تناسب أذواق نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات حيث كانت أفلام الميلودراما وسينما الفواجع الإنسانية صاحبة اليد العليا فى صالات العرض السينمائية فى ذلك الوقت، وبالفعل سعى توجو إلى إكساب ليلى ما كان ينقصها كى تصبح ممثلة سينمائية وليست مجرد مطربة، فخلصها من خجلها الذى كان مثار انتقاد محمد كريم فى فيلمها الأول، ومنحها الجرأة فى مواجهة الكاميرا، والقدرة على التعبير بالوجه والتلوين الصوتى، لكن الأهم أنه نجح فى تكريس وجودها على شاشة السينما فيلما بعد آخر حتى أنه قدم معها بين عامى 1939 و 1944 خمسة أفلام متتالية محتكرا جهودها دون غيره طوال تلك السنوات الخمس ، وهذه الأفلام هى: ليلة ممطرة، ليلى بنت الريف، ليلى بنت مدارس ، ليلى، وليلى فى الظلام، وفى ظل هذا النجاح اللافت كانت كل المؤشرات تؤكد أن عرش النجومية السينمائية بات قريبا جدا من ليلى مراد، فقط كان ينقصها مزيد من النجاح المتراكم كى تصبح ليست مجرد نجمة مثل غيرها من الناجحات، وإنما نجمة فوق العادة على الطريقة الهوليوودية، كان ينقصها أيضا سحر مضامين أفلامها وجاذبيتها التى تبتعد بها عن الفواجع والميلودرامات التى كانت سائدة فى ذلك الوقت بفعل أفلام يوسف وهبى القادم بتراجيدياته وميلودراماته من عالم المسرح، فقد كانت تلك الأفلام التى قدمتها مع توجو مزراحى مليئة بالفواجع والبكائيات التى تثير فى المشاهد الحزن والألم بعكس أفلامها اللاحقة فى مرحلة لقائها بأنور وجدى، صحيح أن هذه الأفلام كانت تناسب أذواق نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات كما قلنا لكن الإلحاح عليها والوقوع فى فخ التكرار مع توالى سنوات الأربعينيات كان يحمل للممثلة الصاعدة إلى عرش النجومية شيئا من الخطورة إذ لم يكن المشاهد يخرج من هذه الأفلام إلا بسحر ليلى مراد الخاص وعذوبة صوتها دون أن تعلق فى ذاكرته قصة الفيلم، وحتى فيلمها اللاحق مباشرة على مرحلة أفلامها الخمسة مع توجو مزراحى «شهداء الغرام» من إخراج كمال سليم سنة 1944 كانت تدور أحداثه فى أجواء تاريخية قديمة مستلهمة مأساة «روميو وجولييت» وكأن كمال سليم صاحب فيلم «العزيمة» وأبو الواقعية فى السينما المصرية قد تنازل طواعية عن واقعيته كى يؤكد على الصورة الذهنية التى ارتبطت بها ليلى مراد لدى مشاهد هذه الفترة والتى كرس لها قبله المخرج توجو مزراحى فى أفلامه الخمسة السابقة على هذا الفيلم.
إذن كانت ليلى مراد بحاجة إلى رجل آخر يقربها أكثر إلى مقاعد الجماهير، بل يلغى المسافة الفاصلة بين النجمة وجمهورها، رجل ينزع عنها وقار التراجيديا وجمودها، ويحررها من محدودية جمهور الصفوة ومتطلباته، رجل يعرف جيدا كيف يقدم الخلطة التجارية الناجحة دون تنازل عن مستوى فنى جدير بالبقاء والتجدد، ولم يكن هذا الرجل سوى أنور وجدى.
كان أنور وجدى قد وقف أمام ليلى مراد كممثل ثلاث مرات قبل عام 1945، اثنتان تحت إدارة المخرج توجو مزراحى فى فيلمى «ليلى بنت الريف» و«ليلى فى الظلام» والثالثة تحت إدارة المخرج كمال سليم فى فيلم «شهداء الغرام» وفى المرات الثلاث كان أنور بطلا ثانيا لممثل آخر (يوسف وهبى وحسين صدقى وإبراهيم حمودة على الترتيب) حيث لم يكن قد تجاوز بعد مرحلة الانتشار، والأهم أنه لم يكن مسئولا إلا عن دوره فقط، غير أنه مع الفيلم التاسع فى مشوار ليلى مراد «ليلى بنت الفقراء» عام 1945 أصبح أنور وجدى المسئول الأول والأوحد عن معظم أفلام ليلى مراد منتجا وموزعا ومخرجا وبطلا أول، بل ومشاركا فى كتابة السيناريو أحيانا بحيث يمكن القول بدون مبالغة أنه كان مديرا لموهبة ليلى مراد وموجها أول لها.. قدمت ليلى معه بين عامى 1945 و1953 سبعة أفلام من إخراجه هى على الترتيب: ليلى بنت الفقراء، ليلى بنت الأغنياء، قلبى دليلى، عنبر، غزل البنات، حبيب الروح، وبنت الأكابر، بالإضافة إلى فيلم ثامن قام الاثنان ببطولته فقط من إنتاج وإخراج نيازى مصطفى هو «الهوا والشباب» سنة 1948، هذه الأفلام السبعة التى أدار فيها أنور وجدى موهبة ليلى مراد هى الأنجح على الإطلاق فى مسيرتها الفنية، وأحد أسباب تلك الحظوة الجماهيرية غير العادية التى تحققت لها طوال الأربعينيات والخمسينيات، وظلت قرينة بها حتى بعد توقفها عن التمثيل سنة 1955 بل وبعد رحيلها فى الحادى والعشرين من نوفمبرعام 1995، ولكن لماذا حققت ليلى مراد هذا النجاح الاستثنائى فى تجربتها مع أنور وجدى؟
أولا: مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ونشوء طبقة اجتماعية جديدة بفعل التطورات السياسية والاقتصادية الحادثة فى المجتمع أدرك أنور وجدى سريعا أن أذواق الجمهور المصرى آخذة فى التحول عن التراجديديات والميلودرامات المفجعة لصالح الأفلام الكوميدية والغنائية أو بالأصح الكوميديا الموسيقية التى تلائم أبناء الطبقة الشعبية أصحاب النصيب الأكبر فى ارتياد دور العرض السينمائى، ومن هنا تستطيع أن تلحظ التحول الفجائى فى مضامين أفلام ليلى مراد من فواجع توجو مزراحى وكمال سليم إلى أفلام الكوميديا الموسيقية مع أنور وجدى كما فى أفلام ليلى بنت الفقراء وقلبى دليلى وعنبر والتى بلغت ذروتها فى فيلم «غزل البنات» سنة 1949، ومع التحول إلى هذا القالب أصبحت ليلى مراد على الشاشة أكثر حيوية وحركة، ومن ثم أكثر جاذبية وسحرا ما ساعد جمهورها الجديد على التوحد معها فى أفلامها والارتباط بها حتى بعيدا عن الشاشة.
ثانيا: رغم اعتماده على قالب الكوميديا الموسيقية فإن أنور وجدى باعتباره صانع أفلام ليلى مراد فى هذه الفترة لم يجنح كليا إلى الكوميديات الشعبية السائدة فى ذلك الوقت كحال المخرجين حسين فوزى وعباس كامل ونيازى مصطفى، وإنما حافظ لها على أجواء تميزها عن غيرها من بطلات السينما كى تسمح لها بالإبقاء على جمهورها من أبناء الطبقتين المتوسطة والأرستقراطية أصحاب القدر الأكبر من الثقافة والتحضر الذين أتوا معها من مرحلة توجو مزراحى لا سيما وأنها فى الأفلام التى قدمتها مع مخرجين آخرين فى تلك الفترة بعيدا عن أنور وجدى بدت حريصة على ألا تخسر عشاق التراجيديا بشكلها الكلاسيكى الصارم كما فى فيلم «الماضى المجهول» إخراج أحمد سالم سنة 1946.ثالثا: نجح أنور وجدى وهو يصنع كوميديات ليلى مراد الموسيقية أن يمسك بمقادير الخلطة التجارية الناجحة، فحشد لها مجموعة من ألمع ممثلى الكوميديا بحيث بات كل من بشارة واكيم وحسن فايق وإسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وعزيز عثمان وزينات صدقى قواسم مشتركة فى تلك الأفلام فضلا عن زعيم كوميديانات زمانه نجيب الريحانى الذى كان الجمع بينه وبين ليلى مراد فى فيلم «غزل البنات» سنة 1949 حدثا فريدا لم يكن أحد يتوقعه، كما أنفق بسخاء على أغنيات هذه الأفلام واستعراضاتها.
رابعا: كان من نتائج اعتماد قالب الكوميديا الموسيقية أن تحررت أغنيات ليلى مراد ذاتها من وقار الصنعة اللفظية واللحنية الذى عرفته فى أفلامها السابقة ، فأصبحت على مستوى الكلمة أكثر ملاءمة للواقع واقترابا من ألسنة العامة، وعلى مستوى اللحن أسرع إيقاعا وأكثر رشاقة، فباتت أغنيات ليلى مراد فى النهاية تتمتع بسهولة فى الترديد بين الناس بعد مشاهدة الفيلم، ومن ثم الارتباط بها فنيا ووجدانيا.
خامسا: ساهم زواج ليلى مراد وأنور وجدى منذ عام 1945 فى التأكيد على نجاح هذا الثنائى الفنى وزيادة مصداقيته لدى المشاهد لا سيما وأن ليلى وأنور كانا حتى نهاية الأربعينيات الثنائى الفنى الوحيد الذى يربطهما عقد زواج فعلى فى الحياة، بينما كانت علاقة فريد الأطرش وسامية جمال الحياتية تشهد كثيرا من التوترات التى حالت فى النهاية دون زواجهما.
سادسا: برع أنور وجدى فى توفير أساليب مبتكرة فى الدعاية لليلى مراد أو بالأحرى لأفلامه مع ليلى مراد وصلت إلى حد إشراك الجمهور فى مشاكلهما الزوجية وطلب المشورة منه.
باختصار فقد بلغت ليلى مراد مع أنور وجدى ذروة النجاح الفنى والجماهيرى.