الأربعاء 26 يونيو 2024

القاهرة.. العاصمة الإدارية الجديدة للفاطميين

سامح الزهار

ثقافة13-1-2023 | 14:06

سامح الزهار

القاهرة.. قلب العالم وعاصمة الدنيا، ذلك التاريخ المفعم بالحب، كل حجر فيها مشبع بعبق الماضى، وكل شبر منها يحمل بصمات البشر، هي كبيت جماعي كبير وكمنطقة مبنية لا مثيل لها، عمل فنى من مقياس ضخم مهندسه وساكنه هو المصرى، وهى بهذا أكثر وأكثف رقعة من الأرض المُنتجة للحضارة.
كان وصول الفاطميين إلى مصر فى أواسط القرن الرابع الهجري تغييرًا فى موازين القوى والسياسات وتطورًا خطيرًا في خريطة العالم آنذاك، فلأول مرة في التاريخ الإسلامي تنشأ منافسة حقيقية على حكم العالم الإسلامي وتتجاذب السيطرة عليه خلافتان في وقت واحد كل واحدة ترى أنها صاحبة الحق في حكم هذا العالم.
وفور وصول جوهر الصقلي قائد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله على مصر سنة 358هـ/969م، أخذ على الفور في تنفيذ تعليمات سيده في بناء مدينة في مصر تكون بالنسبة للفسطاط مثل المنصورية بالنسبة للقيروان فى إفريقيا، ففي الليلة التي عبر فيها جوهر بقواته من الجيزة إلى الفسطاط 17 شعبان سنة 358هـ/ 6 يوليه سنة 969م عسكر بقواته في السهل الرملى الواقع إلى الشمال من القطائع، وكان يحد هذا السهل جبل المقطم من الشرق والخليج من الغرب وكان هذا السهل خاليًا من العمارة إلا من بضع منشآت هي: البستان الكافورى، ودير للنصارى يعرف بدير العظام - يشغل مكانه الآن الجامع الأقمر، وقصر صغير سمى قصر الشوك كان لبنى عُذرة والذى أطلق عليه العامة قصر الشوق، وأطلقت كتب الخطط على هذا الموقع اسم "المناخ".

وفي نفس الليلة بدأ في وضع أساس قصر كبير وسور يحيط بالقصر ويحدد موضع المدينة الجديدة، ولما كانت أعمال الحفر الأولية ووضع الأساسات قد تمت في أثناء الليل وبعجلة كبيرة، حتى أن أعيان الفسطاط عندما أتوا في صباح اليوم التالي لتهنئة جوهر وجدوا أن أُسس البناء الجديد قد حفرت، فقد لاحظ جوهر وجود ازورارات فى تخطيط القصر وأن خطوطه لا تسير على استقامة واحدة، وبالطبع كانت هذه أيضاً حالة أسوار المدينة، ومع ذلك فقد كونت مربعاً منتظمًا تواجه أضلاعه الجهات الأربع الأصلية.

وقد بنى جوهر سور المدينة الأول من اللبن - طوب مصنوع من الطين المجفف عن طريق تعريضه لحرارة الشمس - على شكل مربع طول كل ضلع من أضلاعه ألف وثمانون مترًا، فكانت مساحة القاهرة في أول تأسيسها 1.166.400 متر مربع، جعل منها 240.141 متراً مربعاً للقصر، و120.050 مترًا مربعًا هي مساحة البستان الكافورى، ومثلها للميادين، وأقيم على الباقي وقدره 686.000 مترًا مربعًا حارات المدينة، وجعل قسم منه فراغ تحسبًا للزيادة مع الأيام.

وكان قسم كبير من هذا السور في ناحيته الشرقية ما يزال قائمًا في زمن المقريزى ويقع خلف سور صلاح الدين بنحو خمسين ذراعاً (28.90 متر) فيما بين باب البرقية ودرب بطوط هُدم في سنة 803هـ، وقد أبدى المقريزي دهشته من حجم الطوب المستخدم في البناء، وذكر أن طول الطوبة الواحدة ذراع وعرضها ثلثي ذراع، وأن سمك هذا السور كان كافيًا لأن يمر فوقه فارسان جنبًا إلى جنب، ولا جدال في أن هذه البقايا كانت قليلة للغاية بما أن الرحالة الفارسى ناصر خسرو أشار أثناء زيارته للقاهرة عام 440هـ-1048م إلى أنه "ليس للمدينة سور محصن".

كانت تفتح في هذا السور تسعة أبواب، منها بابان في السور الشمالي ها: باب النصر، وباب الفتوح، وبابان فى السور الشرقى وهما: باب البرقية، وباب القراطين، وثلاثة أبواب في السور الجنوبى هم: بابا زويلة، وباب الفرج، وبابان في السور الغرب بهما باب القنطرة وباب سعادة، وقد زالت كل هذه الأبواب ولا يوجد منها الآن أى أثر وإن ذكر المقريزي أنه شاهد بقايا أقواس بعض هذه الأبواب، حورعحا، جر، جت، دن، مريت نوفى أول الأمر ظن جوهر أنه يتقرب إلى سيده المعز لو أطلق على المدينة الجديدة اسم "المنصورية" بمعنى المنتصر أو الظافر تشبهًا بعاصمة الفاطميين التي أسسها المنصور والد المعز في إفريقية، ولكن الخليفة المعز قام بتغيير اسمها إلى "القاهرة" حين وصل إلى مصر بعد ذلك بأربع سنوات.

تخطيط العاصمة

اتخذ تخطيط القاهرة في أول الأمر الشكل المربع، وبعد نحو مائة وعشرين عامًا تحول شكلها إلى الشكل المستطيل بعد أن وسّع بدر الجمالي أسوار المدينة الجنوبية والشمالية ونقلها إلى حيث يدل على موقعها الأبواب الباقية منها إلى الآن، ومن مميزات الشكل المربع أو المستطيل أنه يوفر للمخطط أضلاعًا مستقيمة، وزوايا قائمة مما ييسر عمليات البناء وقياس مساحة الأرض، ويوجد فى الوقت نفسه تقاطع متعامد يحدد وسط المدينة ويوفر مواقع مقسمة ذات أبعاد متساوية، وكان يخترق القاهرة شارع رئيسى يمتد من باب زويلة جنوبًا وحتى باب الفتوح شمالاً في موازاة الخليج أطلق عليه "الشارع الأعظم" أو "قصبة القاهرة" قسم المدينة إلى قسمين متساويين، ولكنها لم تشهد طوال العصور الوسطى وجود شوارع متعامدة على الشارع الأعظم، كما كان يوجد شارع مواز له يدل عليه الآن شارع الجمالية كان يقود من باب العيد إلى باب النصر، وقد لعب هذا الشارع دورًا مهما في نشاط الخليفة إذ كانت مواكبه تسلكه للذهاب مثلاً إلى المصلى القائم خارج السور الشمالى.

وقد طلب جوهر إلى القبائل والجماعات التي صحبته في فتح مصر أن تختط كل واحدة لنفسها خطة تنزل بها عرفت باسم "الحارة" ولم يقصد بالحارة فى هذا الوقت الطريق الذي يمر فيه الناس بين المساكن كما هو الحال اليوم، وإنما جزء من مجموع مبانى المدينة يمثل حياً كاملاً تتخلله الطرق وتوجد به الحمامات والأسواق والمساجد، وكان عدد الحارات الأولى للقاهرة نحو عشر حارات أخذت في التزايد مع امتداد المدينة وورود طوائف جديدة إليها، وكان لكل حارة من حارت القاهرة باب يغلق عليها بعد صلاة العشاء ويفتح قبل صلاة الفجر بمعرفة "متولى الطوف ليلاً" أو "أصحاب العسس".


الاستراتيجيات الأولى

عندما فتح العرب مصر سنة 29 هـ/ 622م، بُنيت الفُسطاط كأول مدينة إسلامية في مصر في الفضاء المجاور لبابليون، وبعد نحو قرن أضيف إليها في الشمال الشرقي، حى كانت به دار الإمارة العباسية ومعسكرات جيوشهم فسمي "العسكر"، وإلى الشمال الشرقي أيضًا أضيفت ضاحية جديدة أو مدينة صغيرة بناها أول حاكم مسلم استقل بمصر عن الخلافة العباسية عام 254هـ/ 868م هو أحمد بن طولون، وسميت هذه المدينة "القطائع" لأنها قسمت إلى أحياء منفصلة أُقطعت لفرق الجند. ولم تلبث هذه المدن الثلاث أن أصبحت مدينة واحدة من الناحية العملية، كانت الفسطاط هي مركزها التجارى والاجتماعى والصناعى.

وكانت الخطوة الرابعة في تطور هذه المدينة في اتساع آخر نحو الشمال الشرقى أيضًا، وفي هذه المرة تُركت مساحة كبيرة بينها وبين القطائع - التي كانت قد تهدمت إلى حد كبير جدًا- حتى يتوفر الأمن والعُزلة للخلفاء الفاطميين الذين بُنيت باسمهم المدينة الرابعة التي أصبحت "القاهرة" الحقيقية ولكنها لم تكن أكثر من قصر فخم وثُكنات للجنود ومقر للحكومة، وكانت الفسطاط لا تزال سوقًا للتجارة ومركزًا للثقافة والأعمال.

حلم التنمية

كان اسم القاهرة يطلق في أول الأمر على كل ما أحاط به السور اللبن الذى بناه جوهر ثم ما حازه السور الحجر الذي بناه بدر الجمالى، أما ما خرج على هذه الأسوار وأضيف مع اطراد اتساع المدينة فقد أطلق عليه "ظاهر القاهرة"، ولم يكن خارج أسوار المدينة في أول عهدها سوى "مصلى العيدين" أو "مصلى القاهرة" الذي بناه القائد جوهر خارج السور الشمالي بالقرب من باب النصر، وقد بقى قسم من هذا المصلى شاهده المقريزى في القرن التاسع اتخذ فى جانب منه موضع مصلى الأموات في زمنه.

كذلك فإن مقابر أهل القاهرة كانت خارج سور المدينة الجنوبى على يسار الخارج من باب زويلة في الفراغ الممتد أمامه وحتى سفح جبل المقطم والذي أصبح يشغله فيما بعد جامع الصالح طلائع وجامع الماردانى فى المنطقة المعروفة اليوم بالتبانة وشارع الدرب الأحمر حتى باب الوزير، أما داخل السور فقد كان القصر الكبير الشرقي يشغل الجزء الشمالي الشرقى للمدينة محتلاً المكان الذي يحده اليوم المشهد الحسينى وخان الخليلى فى الجنوب وخانقاه بيبرس الجاشنكير والجامع الأقمر في الشمال، وإلى الجنوب الشرقي من القصر كان جامع القاهرة (الجامع الأزهر) أما اصطبلات الخيول ومخازن الغلال فكانت منعزلة فيما بين القصر وسور المدينة الشرقى.

واحتل القصر الصغير الغربى المكان المحصور اليوم بين بيمارستان قلاوون جنوبًا وحارة برجوان شمالاً فى مواجهة القصر الكبير وكان له جناحان بارزان في كلا طرفيه ليمتد بينهما وبين القصر الكبير "ميدان بين القصرين"، أما المسافة بين القصر الصغير وسور المدينة الغربى فكان يشغلها البستان الكافورى ومن خلفه مناظر الخلفاء المطلة على الخليج. وحول القصرين كان هناك عدة من الرحاب والميادين تفصل بين القصر الكبير وجامع القاهرة (الأزهر) وبينه وبين دار الوزارة من جهة وبين القصر الصغير والجزء الشمالي الغربى من جهة أخرى، أما بقية المدينة فكانت تحتلها فرق الجيش الفاطمى المختلفة والأسواق والحمامات التي أقيمت مع نمو المدينة الفاطمية.


مشروع قومي

ظلت القاهرة طوال العصر الفاطمي الأول مدينة خاصة لا يسمح بدخولها لأفراد الشعب الذين كانوا يقيمون فى مصر الفسطاط، العاصمة التجارية والصناعية للبلاد، إلا بإذن خاص وبغرض خدمة أهل الحصن الفاطمى الذين كانوا من خواص الخليفة ورجال الدولة وفرق الجيش، ورغم أن القاهرة لم تنشأ في الأساس لتكون مدينة سكنية بمعنى الكلمة، فقد أخذت مناطق سكنية في الانتشار خارج أسوارها بشكل غير محسوس وبطريقة غير مستقرة، مما جعلها تنهار سريعًا أمام أول أزمة اقتصادية أو سياسية تتعرض لها المدينة.
وكان الامتداد الأول للقاهرة الفاطمية خارج أسوارها الشمالية والجنوبية التى شيدها القائد جوهر، وقد تم هذا الامتداد بصورة واضحة مع بداية القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادى، عندما اختطت حارة كبيرة خارج باب الفتوح عرفت بالحارة الحسينية، نسبة إلى قائد القواد الحسين بن جوهر، كما أتم الخليفة الحاكم بناء الجامع الأنور الذي بدأه والده خارج السور الشمالى أيضاً في سنة 404هـ-1013م، وتكررت هذه الظاهرة خارج السور الجنوبى حيث اختطت عدة حارات للسودان وللمصامدة ولليانسية وللهلالية وللمنجيبة، كما بنى الخليفة الحاكم الباب الجديد، في تاريخ لم تحدده المصادر، خارج باب زويلة ليحدد لطوائف الجيش المختلفة الحد الأقصى من أراضي الأطراف الممنوحة لهم.

تسمية العاصمة الجديدة

الحقيقة أن القاهرة مدينة أسطورية حتى في تسميتها تروى الحكايات المثيرة، فيقول ابن ظهيرة عن سبب تسمية المعز القاهرة بهذا الاسم: وكان قد غيّر اسمها وسماها القاهرة، والسبب في ذلك أن جوهرًا لما قصد إقامة السور جمع المنجمين وأمرهم أن يختاروا طالعاً لحفر الأساس، وطالعًا لرمي حجارته، فجعلوا قوائم خشب بين كل قائمتين حبل فيه أجراس، وأعلموا البنائين أن ساعة تحريك هذه الأجراس ترمون ما بأيديكم من الطين والحجارة في الأساسات، فوقف المنجمون لتحرير هذه الساعة، فاتفق من مشيئة الله سبحانه وتعالى أن وقع غراب على خشبة من تلك الأخشاب، فتحركت الأجراس، فظن الموكّلون بالبناء أن المنجمين قد حركوها، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة في الأساس ، فصاح المنجمون: لا، لا، القاهرة في الطالع، فمضى ذلك، وخاب ما قصدوه، وكان الغرض أن يختاروا طالعاً لا يخرج البلد عن نسلهم وعقبهم، فوقع أن المريخ كان في الطالع، وهو يسمى عند المنجمين القاهر .. فعلموا أن الأتراك لا بد أن يملكوا هذا الإقليم والبلد ولا تزال تحت حكمهم، فلما قدم المعز من القيروان وأخبروه بالقصة، وكانت له خبرة تامة بالنجوم، فوافقهم على ذلك، وغير اسمها الأول وسماها القاهرة.


روافد اقتصادية

كانت الأنشطة التجارية لمدينة القاهرة طوال العصر المملوكى متمركزة داخل حدود القاهرة الفاطمية، وعلى التدقيق على طول القسم الأوسط للقصبة في المنطقة الممتدة بين الصاغة والكحكيين، كذلك فإن الأحياء الجنوبية للقاهرة، خارج باب زويلة، كانت تحوي مراكز تجارية عديدة خاصة على طول الشارع الأعظم الممتد من باب زويلة وحتى المشهد النفيسى. أما الأسواق الواقعة فيما وراء الخليج فكانت سويقات غير متخصصة بتجارة أو حرفة معينة وكانت تقع على طول الشوارع التي تربط باب القنطرة بباب البحر شمالاً، وباب الخرق بباب اللوق جنوبًا.

وقد زار ابن خلدون القاهرة في عام 784هـ وقال عنها: "فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الزر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك؛ وتلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه...؛ ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم.

وتؤكد المقارنة مع معطيات العصور المتعاقبة هذه النتائج، فقد ظلت القاهرة الفاطمية والقصبة حتى سنة 1798م هي مركز الحياة الاقتصادية والتجارة الدولية، رغم أن أسواق الأحياء الجنوبية والغربية أضحت أكثر عددًا وأكثر تخصصًا مما يدل على امتداد الأنشطة الاقتصادية خارج حدود القاهرة الفاطمية في مناطق كانت قليلة النمو في القرن التاسع الهجرى/ الخامس عشر الميلادى.

كذلك فإن تحديد مواقع الحمامات العامة المستخدمة في زمن المقريزى (أواسط القرن التاسع الهجرى) تعكس التمركز الكبير للسكان داخل القاهرة الفاطمية، كما أن كل الحمامات التي ذكرها في الأحياء الجنوبية كانت تقع على طول الشارع الأعظم بين باب زويلة وجامع ابن طولون، أما الأحياء الغربية فلم يكن بها سوى حمام واحد فقط ولم يكن مستخدماً في زمن المقريزى.

علينا ألا نغفل إرثنا التاريخي لثقافة العواصم ذات الأبعاد الجغرافية، فإنه من المفيد تكوين خريطة ذهنية تجمع عواصمنا التاريخية مترامية الأطراف مع عاصمتنا الجديدة في صورة متكاملة دالة وهادفة، تؤكد الخطوط العريضة في هيكلها وتكمل خبراتنا اليومية ومعايشتنا الجارية للحياة.​

الاكثر قراءة